في العام 1943عادت الكتلة الوطنية إلى الحكم، بعد أن فقدت كثيراً من ألقها وشعبيتها، بسبب سياستها المتهاونة القائمة على نيل الاستقلال بالاعتماد على الدبلوماسية الباردة، ولم تتعظ من التفاف الفرنسيين على معاهدة بلوم 1936 التي كانت قمة إنجازات هذه الكتلة في طريق الاستقلال السياسي، فساهم ذلك بتدهور رصيدها وشعبيتها، رغم أنّ قادتها كانوا جميعاً، قد تعرضوا للسجن على يد الفرنسيين ومعظمهم سجن من قبل الأتراك، ثم جاء انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية، في ظل هروب رموز الكتلة المنافسين من أمثال جميل مردم ولطفي الحفار وسعدالله الجابري، بعد اتهام كتلتهم باغتيال الشخصية الوطنية الأخطر والأكثر انتقاداً لهم عبد الرحمن الشهبندر، بينما عاد القوتلي الهارب إلى السعودية بوساطة ودعم سعوديين، مستفيداً من علاقات عميقة وخدمات متبادلة مع الأسرة الحاكمة، وفي غياب زملائه المنافسين وصل القوتلي إلى رئاسة الجمهورية، وكلف سعد الله الجابري برئاسة الوزارة، وبموت سعد الجابري الخصم الأقوي للقوتلي تمكن الأخير من تعديل الدستور، ليترشح إلى الرئاسة مرة ثانية.
كان واضحاً أنّ هذه البنية الطبقية الاجتماعية للسلطة، التي اعتادت التهاون مع سلطات الانتداب، لا يمكن لها أن تتحرر من ذبذباتها ومن ارتهانها لمصالح الفرنسيين الحيوية في سورية، وحين اشتعلت التظاهرات في أنحاء سورية، باتت السلطة مكشوفة تماماً أمام الشعب وليس لها نصير جماهيري تستند عليه، فلجأت إلى العسكر لحماية سلطتها وتورطت بالدم، ولم تكن للقوى اليمينة من بيوتات الإقطاع ورجال الأعمال ووجهاء المدن والعشائر ورجال الدين، الرصيد الشعبي القادر على الوقوف في وجه النقمة الشعبية العارمة المشتعلة في أنحاء البلاد، بل كانوا مكوناً خلفياً لبنية الفساد، حيث لم ينس الدمشقيون ولا السوريون، ذلك الاحتفال الباذخ الذي أقامه رجال الأعمال الدمشقيون احتفالاً بنجاح القوتلي كمرشح وحيد للرئاسة، بينما ظل رؤساء العشائر على الامتيازات التي منحها لهم الفرنسيون، عبر فصلهم وعزلهم في شؤونهم القضائية والإدارية والسياسية والعسكرية عن بقية شؤون الوطن، وأتبعوهم إلى ضباط المخابرات الفرنسين ليستخدموهم في كل ما يحقق مصالحهم، وهكذا ظلوا رصيداً احتياطياً جاهزاً في أيدي الحكومات المتعاقبة، وكان لافتاً أنّ سعدالله الجابري رئيس الوزراء حينذاك متحالفاً مع هؤلاء، كان قد أفشل مشروعاً متكاملاً قدمه النائب أكرم الحوراني لإلغاء مصلحة العشائر وإلحاقهم بمسار البلاد، فظلوا على نفوذهم ولم يضعف دورهم نسبياً إلا منذ عهد الوحدة، ثمّ أعاد رفعت الأسد تسليحهم واستخدام بعض وجوههم في كل ما يخدم نفوذه الشخصي ونفوذ السلطة سواء في مجالات التهريب ونهب الآثار أو في خدمة السياسات التسلطية، أما رجال الدين السلفيين فقد تعاظمت قوتهم من خلال (الجمعية الغراء) التي راحت تطغى وتعتدي على الحريات العامة وأخضعت السلطات إلى مشيئتها فأشعلت الفوضى والتظاهرات تحت ذريعة محاربة السفور، وصولاً إلى مهاجمتها لعرض سينمائي مخصص للسيدات وإيقاع عدد من الضحايا والجرحى، مما أثار لغطاً كبيراً وفوضى عارمة، وقفت السلطة المتهاونة مرتبكة أمامها، ومن هنا وبالإجمال ظلت السياسة الكتلوية واقعة تحت تأثير القوى اليمينية، حتى الانتخابات الرئاسية الثانية، حيث تضاعف دور القوى الوطنية والتقدمية وازداد وزنها السياسي، مما شكل قلقاً للولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما بعد توقيع اتفاقيات عسكرية سورية، مع عدوها في الحرب الباردة الاتحاد السوفييتي آنذاك .
ولم تكن بنية الجيش أقل فساداً وتخاذلاً عن بنية القيادة العسكرية، فقد تكشفت مسؤولية الضابط فؤاد مردم عن باخرة الأسلحة التي شحنها من إيطاليا خلال حرب 1948 وجرى تحويل مسارها إلى إسرائيل، بينما كان وزير الدفاع أحمد شرباتي واقعاً تحت تأثير النفوذ البريطاني، بعد دخول قوات الحلفاء إلى سوريا، وقد عمل الشرباتي على إعاقة مساع عديدة قبل الحرب وبعدها لشراء أسلحة للجيش، مفضلاً شراء مخلفات الجيش الفرنسي من المزاد العلني في بيروت، كما قام بعقد صفقات مشبوهة مع دول عديدة أخرى.
تبادل الطرفان السياسي والعسكري المسؤولية بالفساد والتقصير وخسارة حرب التحرير 1948، وراح كل منهما يحمّل المسؤولية للآخر, مما أتاح الفرصة المناسبة لقائد الجيش حسني الزعيم باستغلال النقمة العارمة على رجال السياسة وقيادة الجيش معاً، وقام بانقلابه عام 1949 مدشنا بذلك عهد الانقلابات العسكرية المشبوهة، والمرتبطة كلها في حالة تجاذب النفوذ بين الطرفين المتخاصمين، النفوذ الهاشمي في العراق والأردن، التابع للسياسة البريطانية والعامل على ضمّ سورية إلى حلف بغداد، والحلف المصري السعودي الداعم للشيشكلي، برضى أمريكي ودعم قوي من خلف الكواليس، وقد تبين ذلك فيما بعد، عبر تغذية الأمريكان لمحاولة انقلاب على رئاسة القوتلي الثانية والقوى التقدمية الوازنة في بنية النظام آنذاك، وقد كشف الضابطان خطار حمزة وفرحان الجرمقاني، تلك المؤامرة وقاما بتسليم الأموال المدفوعة إلى السلطات السورية، وثمة ملفات في المحاكم السورية تفصح عن تفصيلات مذهلة، في مدى التآمر الأمريكي وأدواته من رجال سلطة وضباط سوريين، وكلها تؤكد وزن سورية الكبير في نظر السياسة الأمنية والاستراتيجية الأمريكية، بعد تراجع وزن أوروبا وبدأ أمركة العالم.
علِّق