عدد القراءات: 7007

الديمقراطية لون من التوحيد الخالص ومظهر الدين القيّم


على هامش لقاء استانبول حول الاسلام الديمقراطي

الديمقراطية لون من التوحيد الخالص ومظهر الدين القيم

والكلمة للمعلم جودت سعيد، وهو لا يتلو خطاباً انشائياً او فكرة عابثة، إنه يتحدث في الجوهر عن الإنسان بوصفه مشروع الله الرئيس على هذا الكوكب، وعن الفطرة التي أودعها فيه قبل أن ينزل الكتب ويبعث الأنبياء ويشرع الدين، ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً.
من شاطئه الذي يطل فيه على دنيا الله، يبصر جودت عالماً آخر غير ذلك الذي نحدده بمشارط السياسة والدين، يبصر عالماً فريداً من الأرواح والنفوس والقلوب ينتشر في قارات العالم الخمس، لديه الفكرة نفسها والمشاعر نفسها والرغائب نفسها....
تماماً ... إنه الكائن الذي خلق على صورة الله، وفيه عطره ولونه وريحه، عربيا أو أعجميا أو أمريكيا أو استرالياً، ليبراليا أو متديناً، اشتراكياً أو رأسمالياً، لا يوجد خالق آخر هنا، إنهم جميعاً قدموا من مخاض يتم بطريقة واحدة، أرحام تدفع وعيون تخشع وهو نفسه نفخ فيها الروح وهو نفسه مسح منها الجبين وهو نفسه ألهمها فجورها وتقواها...
حين نقترب من هؤلاء الوافدين من مهبط السماء على أطراف الكوكب، سواء كانت حكاياتهم على نسق آدم وحواء أو على نسق إيزاناجي وإيزانامي، او على نسق آدم أند إيف، أو على نسق أهورا مزدا، وما لحق بذلك كله من الأساطير، فإننا نقترب من كائن واحد، يحمل الرغائب ذاتها والغرائز ذاتها والآمال ذاتها، لا يوجد في هذا الكوكب أحد يحب الموت ويكره الحياة، ولايوجد أحد يحب الخيانة ويكره الأمانة، ولا يوجد أحد يحب الوخم ويكره العطور، ولا أحد يحب الكذب ويكره الصدق.
الخاطئون والمنحرفون عن الفطرة قلة نادرة، وهم حصاد تشويه للفطرة، ولهم مكانهم في سجون العالم المتحضر، في برامج مدروسة لإعادة تأهيلهم وفق الفطرة الأولى التي كانوا فيها. 


والانحراف قد يحصل في سلوك الفرد فيتم تطهيره في معاهد الإصلاح الجنائي، وقد يحصل في الديمقراطيات نفسها، وهنا تطهره حركة التاريخ والثورات البرتقالية، ولم يكن للمستبد من فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً.
حتى الآن هناك قيم إنسانية مشتركة، تعكس اتفاق الإنسانية في معظم أهدافها وقوانينها، ويمكنك حين تنزل ببلد متحضر أن تتصور أحكام القانون فيها على أساس من العدالة المطلقة المسكونة في فطرتك، وحين تخطئ في التقدير فذلك لأنك لا تحيط بمبررات القوانين وأسباب نزولها وورودها.
في تجربة الاتحاد الأوروبي فبعد خمسة قرون من الحرب والدم، استيقظ العقل والفطرة في ماستريخت، وخلال عقود قليلة أصبحت قوانين أوروبا في دولها الخمسين متطابقة في أكثر من 95 بالمائة من تفاصيلها، وتكاد تكون متفقة تماماً في المبادئ العليا والقيم الكبرى في الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
إنها في النهاية الفطرة الواحدة، القادمة وفق قواعد الإيمان من نفخة الروح التي أنجزها الله، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون.
إنها نفحاته وعطاياه، ومنحه ومزاياه، تتجلى في آهات الإنسان، في عذاباته وأفراحه، في شعره ونثره، في مناهجه التعليمية وأحكامه القضائية وأغانيه الشعبية...
إنها الحقيقة التي عبر عنها إقبال بقوله: عطرك اللهم في الإنسان ما زال ولونك!!

القيم التي بشرت بها الأنبياء: العدل والمساواة والحرية والفضيلة والخير والجمال والحب والسلام والطهارة والرحم والاسرة والعفاف.... لا تزال هي صورة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا تزال تحصد الأغلبيات في برلمانات العالم لأنها في العمق قراءة من الفطرة التي فطرالله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


ما البرلمانات وما الديمقراطية؟

إنها الحفر في الإنسان والبحث بدقة عن رغائبه ومطالبه بعيداً عن كل تأثير ديماغوجي، إنها البحث في حاجاته الحقيقية التي يطالب بها الإنسان السوي، إنها البحث عن الإنسان في الأفق الأعلى الذي ينبغي أن يسعى إليه في عالم من التدافع والتنافس، تصطدم فيه الارادات والمصالح.
لا نعبد الديمقراطية، ولا نزعم أنها وحي معصوم، ولا نشك انه تعرض لها تأثيرات وتشويهات وتضليل، ولكن ذلك ينحسر يوماً بعد يوم بأدوات الديمقراطية نفسها التي كان الرسول الكريم يذكر بها بين الحين والآخر، الزم سواد المسلمين الأعظم، لاتجتمع أمتي على ضلالة، ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
إنها نداءات بسيطة ولكنها تقع في جوهر العملية الديمقراطية، وحين يطلقها الرسول في المدينة، في عالم لا يزيد سكانه عن بضعة آلاف معظمهم من الأوس والخزرج وقريش، وليس فيهم هنود ولايابانيون ولا برازيليون ولا استراليون، فإن الترجمة الطبيعية الواضحة بلغة القرن الحادي والعشرين هي: الزم سواد المواطنين الأعظم، ولا يجتمع الناس على ضلالة، وما رآه الشعب حسناً فهو عند الله حسن، وحيثما كانت مصالح الناس فثم شرع الله، وتبقى عبارته الأيرة لا تحتاج إلى تعديل: أنتم أعلم بامور دنياكم.
سيقولون أنت انتقائي... تختار من التراث ما يعجبك، وتترك ما لا يعجبك، وجوابي بالإيجاب، إننا انتقائيون، ونمارس الانتقائية، وانتقاء الرجل قطعة من عقله، نستمع القول فنتبع أحسنه، ونأخذ ما صفا وندع ما كدر، وهل هناك طريقة في التعامل مع الماضي نحترم بها التراث ونحترم بها عقولنا غير هذ؟؟

علِّق