عدد القراءات: 798

صانعو التاريخ

-1-

يقول وليام (وِلْ) ديورانت، صاحب الكتاب الموسوعي الكبير "قصة الحضارة" (الذي أمضى في كتابته أربعين عاماً، وقد تُرجم إلى العربية ونُشر في اثنين وأربعين مجلداً): "تحدّاني أحدهم يوماً أن ألخّص قصة الحضارة في نصف ساعة، وقد فعلت ذلك في أقل من دقيقة. قلت: إن الحضارة نهرٌ ذو ضفتين، يمتلئ أحياناً بدماء أناس اقتتلوا فقَتلوا وقُتلوا، وحاربوا وسرقوا وفعلوا الأشياء التي يسجلها التاريخ. أما الضفتان فيعيش عليهما أناس لا يلاحظهم أحد، يبنون البيوت ويربّون الأولاد ويشتغلون بالتجارة والصناعة والزراعة ويكتبون الكتب ويقرضون الشعر. إن قصة الحضارة هي قصة ما يحدث على ضفّتَي النهر، لكن المؤرخين يهتمون بالنهر وحده ويتجاهلون الضِّفاف".

 

-2-

صدق ديورانت وأجاد التعبير. في كتب التاريخ يُمنَح القادة العسكريون والسياسيون أدوارَ البطولة وتُسلَّط عليهم الأضواء، ويبدو مئات الملايين من عامة الناس مثل "الكومبارس"، دورهم هو تكملة العدد وملء الفراغ فحسب. إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً؛ إن الملايين من أولئك الناس هم الذين يصنعون الأحداث في كل مكان وآن، والمحزن أنهم يحتملون المغارم ويذهب غيرهم بيوت شياء التي يسجلها التاريخ ، درة، أو أن ذلها ، يا ليته يملك ربع الحماسة التي يظهرها لتسويد الجولاني نية ساقطة لا يحل التعامبالمغانم. على مدى التاريخ المسجَّل للجنس البشري على ظهر الكوكب لم يشارك أولئك الناس بقرار الحكم والحرب إلا قليلاً، لكنهم دفعوا دائماً الثمن الأكبر، فكانوا هم وَقود الحروب وبُنِيَت بتضحياتهم ودمائهم الممالك والإمبراطوريات.

هؤلاء هم صانعو التاريخ الحقيقيون، إنهم الناس العاديون.

الزُرّاع الذين يزرعون ما نأكله، والصُنّاع الذين يصنعون ما نستعمله، والبنّاؤون الذين يبنون بيوتنا، والمعلّمون والمعلمات الذين يعلمون أولادنا، والممرضون والممرضات الذين يخففون آلامنا، والأطباء والطبيبات الذين يجتهدون في شفائنا، والعمال والفنيون والحِرَفيون الذين يسهّلون حياتنا، وربّات البيوت اللائي يفنين أعمارهن في رعاية البيوت وتربية الأجيال... هؤلاء هم المجتمع، هم الناس العاديون، هم الملايين التي تصنع أحداث التاريخ.

 

-3-

هؤلاء الناس العاديون هم الذين أفكر فيهم وأكتب لهم وأكتب عنهم وأدافع عن حقوقهم، لسبب بسيط، لأنني منهم، أنا وكل من أعرف وأعايش وأخالط من الناس. أنا لم أكن يوماً من النخبة ومن الخاصة ولن أكون في أي يوم، لم أكن من أهل الحل والعقد ولن أكون، لم أكن من أهل السياسة والرياسة والقيادة والوجاهة ولن أكون. ولأنني لن أكون أياً من هؤلاء أبداً، ولأنني سأبقى من الناس العاديين أبداً، ولأنني لا أريد أن أصبح صفراً هملاً عدماً أُقاد من حيث لا أعلم إلى حيث لا أريد، ولأنني أرفض أن يتحكم بمصيري ومصير أولادي مَن لا أرضى بهم حكاماً وقادة للمجتمع، من أجل ذلك فإنني أصرّ على أن يُمنح الناس العاديون الفرصةَ الكاملة لصناعة حاضرهم ومستقبلهم، الناس العاديون جميعاً من غير استثناء.

الناس العاديون يريدون حقوقهم السياسية، حقوقهم الإنسانية، يريدون أن يشاركوا في إدارة مجتمعاتهم وفي سياسة بلدانهم، يريدون أن يكون لهم رأي في مؤسسة الحكم التي أثبت التاريخ الطويل أنهم هم الذين يدفعون ثمن حماقات رجالها ويتحملون وزر أطماعهم وشهواتهم للمال والسلطان.

 

-4-

لقد أثبتت ثورات الربيع العربي، وفي مقدمتها الثورة السورية المباركة، أن الشعوب أوعى من النخب السياسية والعسكرية وأبصَر بمصالحها وأحرَص على حاضرها ومستقبلها. أثبتت أن كثيراً ممن صُدِّروا أو صَدّروا أنفسهم لتمثيل الشعوب ليسوا سوى ثلّة من الجهلة العاجزين، وأن كثيراً منهم منتفعون متسلّقون يستغلون دماء الشعوب وتضحياتها للوصول إلى المال والجاه والسلطان، وأن كثيراً منهم مغامرون طائشون جعلوا الشعوب حقول تجارب لنظرياتهم الفاشلة.

هؤلاء الفَشَلة العَجَزة المراهقون الطائشون هم الذين يحرصون على حرمان الشعوب من حقها في حكم أنفسها بأنفسها، ثم يحدثوننا عن أهل الحل والعقد الذين ينبغي أن نضع رقابنا في أيديهم، وقد رأينا نماذج خائبة لهم في الثورة السورية حملوا أسماء لامعة بَرّاقة وما هم بشيء. إن شرعيّي الفصائل وقياداتها ومجالسها الشورية عيّنةٌ من "أهل الحل والعقد" بنظر الأقوياء الذين يحكمون المناطق المحررة، ولو بقي الأمر في أيديهم فلن يتحكم في سوريا بعد النصر غيرُهم، وأشهد أنني لا أستأمنهم (أو أكثرَهم) على مصير مزرعة أو دكان فضلاً عن مصير شعب وبلد.

 

-5-

إن الشورى هي الضمان لئلا يكون الحكم دُولة بين الأقوياء كما أن الزكاة هي الضمان لئلا يكون المال دُولة بين الأغنياء، وكما لا يجوز أن يتداول الأغنياءُ المالَ فيما بينهم ويُحرم منه الفقراء أبدَ الدهر، فكذلك لا يجوز أن يتداول الأقوياء السلطةَ فيما بينهم ويُحرَم منها الضعفاء إلى آخر الزمان.

لا سبيل لكسر احتكار تداول المال إلا بالزكاة التي أوجبها الإسلام على الأغنياء رغم أنوفهم، ولا سبيل لكسر احتكار تداول السلطة إلا بالشورى التي أوجبها الإسلام على الأقوياء رغم أنوفهم. ولن يُكسَر الاحتكار ونتخلص من الأوليغاركية (تحكّم الأقلية بالأكثرية) إلا بشورى تعم الناس، كل الناس. ولا شورى تعم الناس إلا بالانتخاب، الانتخاب العام الذي يشمل الراشدين من أهل البلد جميعاً، الأقوياء منهم والضعفاء والأغنياء والفقراء والرجال والنساء.

إن الإنسان يحبّ أن يدافع عن نفسه، وهو يكره أن يسلّم نفسه للآخرين ليجعلوه مِرقاة يرتقون عليها إلى الأعالي ويبقى هو في الحضيض، أو جسراً يعبرونه إلى أرض الورد والنعيم ويبقى هو في أرض الشوك والعذاب. من أجل ذلك أقاتل ليكون لي رأي في إدارة بلدي وحق في اختيار حكّامي، ولأنني لا أرى نفسي أفضل من غيري من الناس عقلاً ورأياً وأمانةً فإنني أطلب لغيري ما طلبته لنفسي، وما قاتلت ليكون حقاً لي أقاتل ليكون حقاً لكل الناس.

 

علِّق