عدد القراءات: 9508

الثورة بين جمهورها ونُخَبها المزعومة

 

في لقاء صحفي التقيته مع واحدة من المجلات الثورية على رأس سنتين من الثورة وُجِّه إليّ سؤال عن دور "النخبة" في الثورة، فقلت في الجواب:

"اسمحوا لي أولاً بالاعتراض على المصطلح لأنه يوحي بالتمييز والاستعلاء؛ إنه يعطي المرءَ شعوراً بأن عدداً قليلاً من أهل الثورة لهم وضع الأفضلية وأن الباقين مفضولون حتماً. والذي أراه على التحقيق هو أن عامة الناس كانوا متميزين في الوعي، وكثيراً ما رأيناهم سابقين ومتقدمين على النخب المفترَضة وعلى العلماء والمفكرين. هذا هو ما حفظ للثورة عنفوانها وقوّتها وهو ما أعجزَ أعداءها عن القضاء عليها، لأن قيادتها لم تتركز في جماعة قليلة من الناس لو سقطوا أو ماتوا لسقطت بسقوطهم وماتت بموتهم، بل اتسعت وانتشرت فصارت ملكاً للشارع الثوري بطوله وعرضه، وهو شارع رشيد نجح في الإقلاع الصعب، ثم استطاع أن يُحْسن توجيه السفينة وسط الأنواء خلال سنتين عصيبتين حافلتين بالصعوبات والتحديات".

 

*   *   *

 

هذه كانت قناعتي يومها، وما تزال هي قناعتي اليوم ونحن في سنة الثورة السادسة. هذه الحقيقة الجوهرية هي أم الحقائق في الثورة السورية، فكلما فكرنا فيها أكثر يزداد يقيننا بأنها "ثورة شعبية نموذجية" وأن قوتها الحقيقية هي في شعبيتها وفي حاضنتها، ولو كانت ثورةَ نُخَب وفصائل فحسب لتهاوت وانهارت منذ زمن طويل.

أدرك عدونا هذه الحقيقة فعلم أنه لن يُخمد الثورة إلا باغتيال قلبها النابض الذي يضخّ الدمَ في جسدها الحي، فاستهدف المدنيين منذ الأيام الأولى للثورة، وتعمّد قصف المدارس والمساجد والمشافي والأسواق، وكذلك صنع طيران الاحتلال الروسي أخيراً، فما يزال يقصف مشفىً بعد مشفى وسوقاً بعد سوق.

ثم نجد من أهل الثورة ومن فصائلها مَن يعين عدوها عليها ويشاركه في خطته الخبيثة، بتحجيم حاضنتها وإقصاء جمهورها، وبالتعالي عليه والاستئثار بإدارة المناطق المحررة دون مشاركته. بل وصل الأمر إلى مصادرة حرياته والتدخل في خصوصياته الثقافية والاجتماعية، ثم بلغ العدوانُ والافتراء غايتَه بالوصاية الدينية والدعوية وملاحقة الدعاة والعلماء الذين لا يرضى عنهم السلطانُ الجديد.

 

*   *   *

 

إن الشعب السوري الثائر المصابر ليس شعباً قاصراً يستحق الوصاية، ولا هو قطيعٌ من البُلْه الأغبياء الذين يحتاجون إلى مَن يسوسهم رغماً عنهم ويقرر ما يصلح لهم وما لا يصلح. لقد أثبت هذا الشعب العظيم أنه أنضج وأعقل من كل الذين انتدبوا أنفسهم للتحكم به والوصاية عليه، سواء أكانوا من العسكريين أو من الساسة أو من الكتّاب والمفكرين، فمن العار أن يتعامل أحدٌ من هؤلاء جميعاً معه وكأنه مخلوق قاصر، ومن الخطأ البالغ أن يحاول أيٌّ كان أن يقيّد إرادته أو يصادر قراره أو يتحكم في مصيره.

إن أصحاب الثورة الحقيقيين هم ملايين الأحرار والحرائر الذين واللائي بدؤوها من حيث لم تكن؛ هم أوقدوا نارها وهم حملوا مشعلها ومشوا به المشوار الطويل، هم الذين أبقوا المشعل وقّاداً، وهم ما يزالون حَمَلة الثورة وحاضنتها إلى اليوم. هؤلاء الملايين هم الأحق بأن يقرروا مصيرهم ومصير بلادهم، لا ولايةَ لأحد عليهم ولا حق لأي كان أن يفرض عليهم ما شاء متى شاء وكيف شاء.

الملايين الذين اعتُقلوا وعُذّبوا وقُتّلوا وشُرّدوا وحملوا حمل الثورة الثقيل ودفعوا ثمنها الثمين هم أهلها وأصحابها وهم أولى بها، هم قوة الثورة وقاعدتها الصلبة وهم عقلها الرشيد، فلا تحيّدوا "قوة الجماهير" ولا تخرجوها من المعادلة، فإنها هي القوة الحقيقية الباقية، ولا تعتمدوا على قوة السلاح فإنها قوة مؤقتة لا تدوم.

 

*   *   *

ختاماً أكرر ما كتبته قبل شهر في التعقيب على مشكلة الغوطة الأخيرة. قلت: لا بد من الاعتراف بأن الفضل الأكبر -بعد فضل الله الكريم الرحيم- في وأد الفتنة وقطع دابر الخلاف كان لوعي الناس، فقد أثبتت هذه المحنةُ مرةً أخرى أن جمهور الثورة أكثرُ وعياً من قادتها ونُخَبها المزعومة، وأنه قوة الثورة الكامنة وصِمام أمانها، فمَن ضيّعه ضيّع الثورة، ومن أضعفه أضعفها، ومن استأثر بالثورة من دونه كان من الظلمة والمعتدين.

هذه الحقيقة الكبرى ينبغي أن يؤطّرها بإطار الذهب ويعلقها فوق رأسه ليقرأها صبحاً وعشيّاً كلُّ من تكبر على هذا الشعب العظيم وظنّ أنه أعجَزُ من أن يَسوس نفسه بنفسه، فأباح لنفسه أن يتحكم فيه وأن يسلبه قراره باسم الدين مرة وبغيره من الأسماء في غيرها من المرات.

 

علِّق