نشرت في .November 18, 2015

 

*رأفت الغانم- باريس

 

كنت أسافر من السعودية إلى مدينة الرقة شاعراً بالفرح، حيث المدينة التي تشكل العشائر المكون الرئيس من قاطنيها، ولا تلعب الهوية الدينية جزءاً واضحاً من تركيبتها الثقافية، فالعشائر تتفاخر بإكرام الضيف ومضافاتها المفتوحة، والقهوة التي تقدم للضيوف، والأنساب، والشعر النبطي، وأمور ترتبط بمثيولوجيا القبلية البعيدة عن آيدلوجيا الدين، فلا" شرطة دينية" هناك كالسعودية، ولا محال تغلق وقت الصلاة، والكحول تباع في عدة مناطق.

الرقة مدينة متسامحة، بها كنيستان ويعمها الإسلام الصوفي. أما أبنيتها فتكثر بها الشرفات التي تجلس بها النسوة، وأرصفتها تغصّ بالمارة وكراسي أهل الحي وهم يدخنون النرجيلة، أعراسها مختلطة تقام في أحواش بيوتها الواسعة.

 

هناك حضرت أول مولد نبوي، حيث دفعني الفضول لمشاهدة الصوفيين وطقوسهم، في تلك الليلة أكد الإمام على إحياء سنة المولد النبوي، مسفهاً آراء السلفية التي تحرم ذلك، ثم أخذ الإمام ومن معه بضرب الدف بأصابعهم مغنيين قصائد المديح للنبي محمد.

 

الرقة أصغر المدن السورية وأفقرها، بالرغم من تقديمها للخزينة السورية الكثير من المال، من قطنها وقمحها ونفطها، ويعتمد جزء كبير من أبنائها على الغربة والعمل في الخارج لتأمين لقمة العيش.

 

الثورة

عقب انطلاق الثورة السورية شاركت الرقة بمظاهرات عدة كان أولها في 25 آذار2011، وبعد أن وصلت الثورة لعيد ميلادها الأول، خرج عشرات المتظاهرين في المدينة منددين بالنظام السوري، الأمر الذي دفع عناصر الأمن لتصويب بنادقهم على المظاهرة وقتلوا أول أبناءها" علي البابنسي"، الأمر الذي أغضب الرقاوين فخرجوا منددين بأعداد تزيد على المائة ألف متظاهر في 16 آذار 2012، المظاهرة التي قتل بها ما يزيد على الخمسة عشر شاب بعد أن اتجهت لتمثال حافظ الأسد بغية هدمه، حيث أفلتت العناصر الأمنية الرصاص الحي لمنع المتظاهرين من الوصول، وكنت وقتها شاهداً على تلقى المعتقلين في فرع الأمن العسكري بدمشق لأخبار مظاهرات الرقة بالكثير من السرور، وبأنها دخلت على خط الثورة السورية بشكل أبرز.

 

بعد ذلك قررت الخروج من سوريا تجبناً لاعتقال آخر قد تقوم به الأجهزة الأمنية، ودّعت مدينة الرقة دون أن يخطر لي أني سوف أصل باريس، وتوجهت إلى مدينة عمان في الأردن، ومن هناك بقيت أتتبع الأخبار بشكل يومي، حتى تم تحرير الرقة على أيدي أبنائها الذين انخرطوا في الجيش الحر، بعد مرور عام على ذكرى مظاهرتها الكبرى، أي عامين على الثورة السورية.

 

وسرعان ما انتشرت المنظمات المدنية في المدينة، أولها تجمع شباب الرقة الحر، وأخرى كحركة (حقّنا) ومنظمة (جنى) النسوية والعديد غيرها، والتي أقامت العديد من الأنشطة كحملات تنظيف الشوارع، وإقامة المسابقات وتوزيع الهدايا على الأطفال، وتلوين الجدران وكتابة شعارات تدعو للحرية والدولة المدنية، أيضاً قامت حركة حقنا بانتخابات تجريبية للتدريب على مراقبتها، بالإضافة للعديد من الصحف الورقية التي باتت تطبع وتوزع في المدينة.

 

اغتيال المدينة

كما أنشأت محكمة شرعية للفصل بين الناس ولضبط المدينة، وكانت أول خطوة خارج سلطة المحكمة من تنفيذ تنظيم داعش، وكان في حينها الشق العراقي من جبهة النصرة، وأمام تجاوزات الشق القادم من العراق، ووعود الشق السوري باحترام الأنشطة المدينة، شهدت الثورة السورية تغيراً نسبياً في سلوك السلفية الجهادية والتي دعت لاحترام اختلاف الآخر، على اعتبار أن شيئاً في سوريا المتنوعة لن ينجح دون الأخذ بالاعتبار بهذه النقطة، الدعوى جاءت على لسان أبو محمد المقدسي أبرز منظري الجهادية السلفية من سجنه في الأردن وأذاعته قناة الجزيرة على شريطها الإخباري.

وبالعودة لعملية الإعدام التي نفذها تنظيم داعش في ساحة المدينة دون العودة للهيئة الشرعية، والذي استهجنه الشباب الناشط، حيث أن الضحايا لم يخضعوا لمحاكمة عادلة ولم يطلع أحد من الناس على حقيقة التهم الموجهة إليهم، الأمر الذي دفعهم للاحتجاج فأقاموا خيمة كبيرة في ساحة الإعدام أسموها خيمة عزاء وطن، وأطلقوا شعار" ساحات الحرية ليست ساحات للإعدام"، وفي تحقيق سابق كنت قد أجريته، صرّح أحد أعضاء الحركات المدنية بأنهم فتحوا خطوط تواصل مع جميع الكتائب المسلحة في المدينة، سواء التتابعة للجيش الحر، أو الإسلامية منها، وبأن الجميع تفاعل معهم باستثناء تنظيم داعش والذي كانت لغته التكفير والتخوين والقتل والاختطاف، وبدوره كان التنظيم يركز في حملته الدعائية على أن النظام السوري وأعوانه لا تنفع معهم سوى لغة السلاح، وسرعان ما أصبح أعوان النظام السوري بالنسبة للتنظيم كل من لا ينضوي تحت رايته.

 

التنظيم الذي كان يظهر فجأة ويغيب، شيئاً فشيء أصبحت له مقرات واضحة في المدينة، وبدأ يمارس استفزازاته والتي كان آخرها حرق كنيستي الرقة وكسر صلبانها، وكرد فعل نضم شباب المدينة الناشط مظاهرة تنديداً بحرق الكنائس، وقاموا بحمل الصليب وأعادوه داخل الكنسية، ونظموا العديد من التظاهرات أمام مقار التنظيم تطالبه بالإفراج عن المختطفين، وكان التنيظم في ذلك الوقت لا زال يدعي أنه لا يقاتل السنة في سوريا.

 

 

بعد ذلك بدأت داعش تختطف وتغتال الناشطين المدنين والعناصر البارزة والمؤثرة في الجيش الحر، حتى ضاق أبناء المدينة بالتنظيم ذرعاً، وهم لا زالوا مشغولين بإسعاف المصابين الذين تستهدفهم طائرات الأسد، واستقبال النازحين، ومحاولة إعادة الحياة للمدينة وضبطها وتسيير شؤونها، إلا أنهم أيدوا الكتائب المقاتلة لمحاربته، والتي خرجت للقضاء عليه واستطاعت أن تخرجه من مقراته وتحرر السجناء داخلها، حتى حاصرته داخل المدينة بشارع واحد! قبل أن تنسحب حركة أحرار الشام التي تتمركز في محافظة إدلب من المعركة، تاركةً أبناء المدينة يقاتلون لوحدهم بعد أن عقدت اتفاقاً سرياً مع التنظيم على أن ينسحب من إدلب مقابل خروجهم من الرقة.

وظل الجيش الحر من أبناء المنطقة يقاتل لوحده، وسرعان ما رجحت الكفة لصالح داعش بعد أن وصلت تعزيزاته من خارج المدينة، فاستعاد قوته وحاصر كتيبة للجيش الحر في أحد الأبنية، طالباً من المقاتلين تسليم أنفسهم مقابل الإعفاء عنهم، وبعد أن قاموا بتسليم أنفسهم، قتلهم داعش جميعاً وعلى الفور، أما البقية فهربوا بعد أن تقطعت بهم السبل.

 

بعد أن أحكمت داعش سيطرتها على الرقة قامت بفرض الحجاب الكامل على المرأة، ومنعها من الخروج من منزلها، كما هرب بقية الناشطين إلى تركيا أو مدن سورية أخرى، وأصبح الأجانب من الفرنسيين، البلجيكيين، التونسيين، السعوديين، وغيرهم.. يفدون إلى الرقة بالآلاف، الأمر الذي أشعر من تبقى بالمدينة باحتلال جديد وقوة قمعية أخرى فرضت سيطرتها على المكان، ومن التفاصيل التي يحكيها لنا أهل الرقة، أن المهاجرين أصبحوا الطبقة الغنية في المدينة في حين يقف الرقاويون أمام المركز الإغاثي ليحصلوا على الطعام، المركز الذي يدعمه أبناء المدينة من الخارج.

 

أيضاً قام تنظيم داعش، بمنع كافة المظاهر الاجتماعية، ومنها مجالس العزاء التي تجمع سكان المدينة، وتتحول إلى ملتقى اجتماعي يتداول فيه الناس آخر الأخبار في مدينتهم، أما الأفراح فمنعت بشكل نهائي بدعوى أن الموسيقى حرام، وأما الجوامع فقام التنظيم بطرد كل الأئمة السابقين وفرض جدد من قبله، غالبيتهم من جنسيات أجنبية.

وحتى اللحظة بقي الجيش الحر من أبناء الرقة يبحث عن داعم دون أن يتلقى أي دعم يذكر من الدول الغربية، على العكس من القوات الكردية التي تلقت الدعم بالرغم من أنها مدرجة على قائمة الإرهاب، وبالرغم من تقرير منظمة العفو الدولية الأخير والذي اتهم القوات الكردية بتهجير الآلاف من العرب وإحراق قراهم، وبالرغم أيضاً من أن الجيش الحر من أبناء الرقة تنازل حتى عن مبدأ محاربة نظام بشار الأسد للحصول على الدعم الذي لم يصله حتى الآن لإخراج تنظيم داعش من الرقة، أيضاً عمل الإعلاميون من أبناء المدينة على فضح التنظيم وممارساته، واستطاعوا ولا زالوا يخترقون مواقعه الحساسة وينقلون الصور لوسائل الإعلام، مغامرين بأرواحهم من أجل حرية مدينتهم، المغامرات التي لم تبدأ بالناشطة الرقاوية التي صورت بكاميرتها المخفية فتاة فرنسية ملتحقة بتنظيم داعش تتحدث من داخل أحد مقاهي المدينة مع والدتها، ولم تنتهِ بأعضاء فريق حملة" الرقة تذبح بصمت" والذين استهدفهم التنظيم وأعدم منهم العديد، كان آخرهم أحد أعضاء الحملة الذي اغتيل في مدينة أورفا التركية قبل أقل من شهر.

 

تفجيرات باريس

اليوم بعد أن نفذ تنظيم داعش الارهابي مدينة باريس، شعرت بالألم على المدينة التي أعيش بها منذ ما يزيد على العامين، وصدمت وأنا في منزلي عائداً من أحد مقاهي المدينة، حزنت على الضحايا وسعدت عندما شاهدت سوريين تحت الحصار والقصف متعاطفين مع ضحايا باريس، منهم من وضع العلم الفرنسي كرمز لصورة حسابه الفيسبوكي، ومنهم ناشطون من مدينة دوما أشعلوا الشموع من أجل ضحايا باريس بالرغم من الحصار والقصف العنيف الذي يتعرضون له من قبل نظام الأسد.

 

المؤيدون لمبدأ الثورة السورية شعروا بالحزن دون أدنى شك، حيث قام التنظيم باستهداف باريس عاصمة الدولة العظمى الوحيدة التي تتمسك برحيل الأسد، والتي فتحت أبوابها للاجئين السوريين، أما النظام وأنصاره فقد شعروا بالشماتة كما صرح الأسد" على فرنسا إعادة النظر بسياستها" ويقصد دعم المعارضة السورية، والسؤال هنا، إذا كان دعم المعارضة السورية السبب في استهداف مدينة باريس، لخدمة من يعمل تنظيم داعش؟ الأسد أم المعارضة؟

 

الآن بدأت الحكومة الفرنسية بقصف مدينتي الجميلة الرقة، التي عشت بها أول قصة حب كطفل بدأ يشعر برغباته البيولوجية، وتعلمت" الدبكة" بأعراسها، والسباحة بنهرها، واستمعت لأول خطاب ديني صوفي ينتقد السلفية بها، الرقة التي تقصفها فرنسا، شهدت تحولاً آخر غير القمع، حيث باتت الإعلانات باللغة الفرنسية تعلق على أبواب مطاعمها ومقاهيها لكثرة الفرنسيين القادمين إليها، حتى أن أحد الأصدقاء قال لي مازحاً، سأتعلم اللغة الفرنسية في الرقة قبلك! ولعل هذا ما دفع الرئيس الفرنسي هولاند للقول" فرنسيين قتلوا فرنسيين" فالرقة تريد حريتها من تنظيم داعش الذي جلب كل غرباء الأرض إليها، وحريتها من نظام الأسد المجرم، فلا ذنب للرقة وأهلها بما حدث بباريس، ولا ذنب للسوريين من قريب أو من بعيد، ولن يسامح التاريخ باريس مدينة الحرية والأنوار إذا ما أعادت الرقة لنظام الأسد، والذي قتل الآلاف من أبنائها المدنيين بالرصاص الحي وقصف الطيران والبراميل المتفجرة، الأسد الذي قتل في سجونه 13 ألف مدني تحت التعذيب، ووصل إلى السلطة لأن والده الدكتاتور أورثه الجمهورية.

علِّق