عدد القراءات: 2938

التحدي والاستجابة -4-.... بين مدرستي التثبيت والتجديد

إن السعي نحو التقدم والإبداع والتقدم الحضاري يتطلب تحقيق الذات واختبار القدرات والتنافس مع الزمن والطبيعة والبشر ويمكن للملهمين في كل أمة أن يتقدموا مسيرتها وحين تستجيب لهم أكثرية الأمة يمكن للتقدم الخلاق أن ينجز مشاريع الحداثة والتجديد ، فإذا توقفت مسيرة الأعلام المتقدمين عند محاكاة الأوائل وامتثال طرائقهم في الاستجابة لتحديات زمانهم نشأت الحركات السلفية التي لا ترى في الجديد إلا فتنة وتخريبا وانحرافا ، في هذه الأحوال وعندما تبدأ الأمة بلفظ أنفاسها تزحف الأمم التي أنجزت مشاريع حداثتها وتقدمها والتي تجاوزت عجزها لفرض ارادتها على المحيط الجامد من حولها لتحقيق متطلبات نموها ، .أو للتمكن من مجالها الحيوي من حولها أو لغايات استعمارية كما حصل في المواجهات التي جرت للعرب والمسلمين خلال الموجة الاستعمارية التي سيطرت على البلاد خلال القرنين الماضيين

إن الحضارة لأمة من الأمم يمكن أن تنهار بفعل عوامل داخلية قبل أن تغزوها حضارات أخرى وقبل أن تطأها أقدام الجيوش . كما أن  الغزو الخارجي عندما يكون المجتمع قوياً متماسكاً يمكن أن  يشكل تحدياً يستثير الطاقات الإبداعية الكامنة في هذا المجتمع  ويدفعه نحو التطور. أما في مرحلة التفكك والضعف فلا بد أن ينهار البناء الاجتماعي ويخرج من دائرة الفعل والتأثير ويصبح عرضة للصراعات التي تقود إلى الانهزام أو التلاشي والذوبان في ماحوله  ، وفي حالة التعويض قد تخرج من ثنايا هذا المجتمع ومن بين طبقاته المؤثرة قوى تتسلط على مسيرته وتساهم في قهره ، وتلتحق بركب المحتل أو الغازي لتعويض النقص ، وتمنع الحراك الاجتماعي أو تحاربه باستخدام وسائل قوة الدولة أو تدخل به في صراعات خارجية بغاية إشغاله عن معاناته اليومية .


نتحدث عن التجديد ونراه سمة إسلامية تعتمد على حديث نعتد بقيمته وأهميته :

( يأتي على رأس كل مائة عام من يجدد أمر دينكم ) والتجديد إبداع في الأفكار وفي النظم ، وكل نهوض لابد له من أفكار جديدة ونظم جديدة ولا إبداع بدون هذين الشرطين .

ويوم كان الإبداع سمة في أمتنا كانت أمم الأرض تأخذ به ولا يمنعها من ذلك اختلاف دين أو عرق حتى نالت الحظوة في نيل نتائج التقدم والتفوق ، وغلب علينا الاستعلاء فتجاهلنا إبداعهم متمسكين بأنظمتنا الفانية في التربية والتعلم والفنون والحقوق والتصنيع ، وقد وقعت نخبة علماء الأمة تحت خيارين إما الإسلام أو التقدم وهو خيار لامعنى له ، وانبثقت رؤيتان :
- رؤية تقول إن التمسك بقراءات السلف تعبير عن المزيد من الإيمان وأن هذه الأمة منصورة بعقيدتها ،وأن الغيب معها وما بيد الله خير مما بيدها ولن تنتصر هذه الأمة إلا بالذي انتصربه أولها ..
- ورؤية ترى ضرورة التعامل مع القديم بصورة انتقادية  وأنه لابد من رفض كل مايجافي العقل حتى لو وصل الأمر بقبول المحتوى العقلي والإبداعي للغرب وهو هنا يرى ضرورة التأويل بما لا يتصادم مع النص ولكن أن يبقى مفتوحاً على العقل .

هذه المسألة الحديثة ليست ببعيدة عن سر الصدام القديم بين مدرستي الحديث والكلام وما أنتجه من تقسيم للتيارات بين حنابلة ومعتزلة ، ابن حنبل الذي ليس له من الإبداع في شيء إلا أنه جمع الحديث في سننه ولم يكتب باباً فقهيا واحداً ولا طرح مشروعاً رائداً ، بينما سعى المعتزلة لإثارة المسائل التي تتعلق بالحرية الإنسانية وبأن للإنسان إرادة قادرة على صياغة الحياة وفق أسس التغيير المستمر .

"لقد قدم المعتزلة في مسألة خلق القرآن رؤية تفرق بين النص المكتوب وبين فعل الله المستمر لا على أساس الكلام المسطور وإنما على أساس الكلمات الإلهية في الوجود وهي سننه التي قدرها وعلى البشر أن يعملوا من خلالها لا يجمدوها كقدر ثابت لايمكن للإرادة أن تمر من خلاله ..فالبشرية من خلال مفهوم خلق القرآن يمكن أن تفرق بين القصص التي هي حكايات للاعتبار وبين سنن القدر الإلهي التي هي قوانين الحركة والوجود ويتم التطور من خلال إدراكها وفاعلية الإرادة البشرية فيها" .( بتصرف من مقال للدكتور محمد شحرور على موقع السوري الجديد ) .

ورغم أن هذه المسألة متطورة لاتتوقف عند فهم المعتزلة على أرضيتهم المعرفية ، فإن الصراع بقي ويتجدد بين مدرستي التثبيت والتجديد
وكما تنبأ السيوطى فى شرح حديث الرسول ( أن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها ) قال ولا يشترط أن يأتى كل مائة سنة ولا أن يكون واحدا فإنه مازال يظهر في الأمة مجددون على حد قول رسول الله ( يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) وحين ظهر مجددان معا الأفغانى ومحمد عبده ، وهما  تلازما وخاضا معركتهما معا من أجل رؤية تجديدية صافية وعقلانية للإسلام، لكن الأمر لم يكن سهلا ، بل كان شديد التعقيد ، فالتجديد الفكرى عامة يعنى عدم الاكتفاء بالبعد الحضارى للمجتمعات الإسلامية المغرقة فى ظلام العصور الوسطى، وبالتالى لابد من التطلع إلى البعد الحضارى الناهض فى الغرب .


لكن الغرب تصادم مع شعوب هذه المنطقة بعنف استعمارى يخلو من أى تعامل متحضر، وشهد القرن التاسع عشر شهوة غربية للسيطرة الاستعمارية العسكرية والاقتصادية والسياسية ، كما أن هذه السيطرة تطلعت إلى هدم الإمبراطورية العثمانية التى هى فى نظر الكثيرين من المسلمين دار الخلافة الإسلامية ومقر أمير المؤمنين، وفوق هذا وذاك فإن الغرب أصبح بعد نهضته ممتلكا لقيم وأخلاقيات ومثل ومعارف وعلوم تتناقض أو تتباعد عن كل ما كان سائدا فى ديار المسلمين ، بل وتصطدم بعنف مع ما يعتقد المسلمون بأنه الإطار العقائدى المتوارث رغم ما به من تشويهات وإبتعاد عن صحيح الإسلام . وعندما وقعت محاولات المواجهة تبدت رؤيتان :
- الأولى يبثها بعض المستشرقين أو حتى ممثلى الاستعمار المسيطرين على حكم وإدارة وتوجيه البلاد والتى تكاد أن تضع المسلم أمام خيار مستحيل ، إما الإسلام وإما التقدم ، وأن التخلف هو سمة إسلامية .
- أما الرؤية الثانية فكانت تقول إن الهزيمة الحضارية التى لحقت بالمسلمين كانت نتيجة رؤية وتفسيرات وفتاوى خاطئة ومرتبطة بالتمسك بقراءات فى كتب السلف ، وكانت للأسف تعتبر أن الاستغراق فى غياهبها هو انغماس فى المزيد من الإيمان .

ورأى الأفغانى ومحمد عبده إنه لا مفر من التعامل مع التراث القديم برؤية انتقادية ، رافضة لكل ما يجافى العقل وساعية لقبول المحتوى العقلى والفكرى للغرب ومحاولة التأويل لكل ما يخالف ذلك مع ربط كان بالنسبة لهم شديد الصعوبة وهو أن الحضارة الحديثة تعنى الغرب والارتباط بأحدهما يعنى بالضرورة الارتباط بالآخر .ولكن ضرورات الدخول في زمن الحداثة تتطلب البدء من حيث وصل الغرب  يقول الافغاني : " ولا ملجأ للشرقي في بدايته أن يقف موقف الأوربي في نهايته , بل ليس له الا أن يطلب ذلك "

وفيما كان البعض يعتبر أو حتى يبرر التخلف الحضارى بأنه غضب إلهى على المسلمين بسبب عدم تمسكهم بالدين أو بسبب الفهم الخاطئ للنص الدينى وتغليف الالتزام به برؤى خرافية وغير عقلانية ، وأن التململ إزاء هذه الخرافات والتهويمات غير العقلانية هو مجرد نقص فى الإيمان .
فإن البعض الآخر كان يرى أنه لا بديل عن القبول الكامل بمعطيات الحضارة الغربية ، مع وجود تفاوت فى هذا القبول ومجالاته بما لا يتصادم مع التعاليم الإسلامية الواضحة النص ، وبما يستلزم بالطبع قدرا ضروريا من تأويل النص لكى لا يتصادم مع العقل ومع واقع الحياة الذى يفرض نفسه .


وفى إطار هذا الوضع البالغ التعقيد ، ورؤية الرواد بضرورة النهوض الحضارى كان الأفغانى ومحمد عبده يحاولان جهدهما فى تقارب حذر مع معطيات الحضارة الغربية ، ومواجهة حذرة مع معطيات فى هذه الحضارة قد تتصادم مع رؤى أخلاقية واجتماعية لا يمكن الانحناء أمامها ، ومواجهة أخرى مع شيوخ أزهريين شديدى التشدد فى رفض كل ما يحمله الهواء القادم من الغرب ، وعمائم ترى كل تجديد هو هدم للدين ..
العمائم التي قال فيها محمد عبده وهو على فراش الموت ، بعد رحلته التجديدية وسعيه الإصلاحي :
ولست أبــالى أن يقــال محمد أبّل أم اكتظت عليـــه المآتم
ولكنه دين أردت صلاحه ، أحاذر أن تقضى عليه العمائم

علِّق