على قناة NBC news كنت أتابع تقريراً تلفزيونيا عن ازدهار تجارة تهريب الآثار في سورية والعراق خلال السنوات الأخيرة، والاستنزاف المهول الذي حصل للتاريخ الآثاري للمنطقة التي تعد من أقدم وأعرق المناطق الحضرية في تاريخ البشرية.
بعيداً عن هول ما شاهدته، في الحقيقة لست حزيناً كثيراً على تهريب آثارنا خارج المنطقة نحو الغرب، فنحن كحكومات وشعوب غير مؤهلين حالياً (إلى أن يصلح حالنا) لاحترام وحماية تاريخنا وربما لا نستحقه، فليأخذه من يعرفون قيمته، علّه يصل إلى المهتمين والباحثين ويجد مكانه الصحيح في المتاحف العالمية حيث يُحمى ويدرس و يوثق للأجيال على أنه قادم من منطقتنا، بدل أن يضيع تحت جحافل المجانين واللصوص والحكومات في بلادنا، وهذه بالمناسبة قناعة قديمة لدي وليست وليدة اليوم:
عندما كنت في الجامعة، وبحكم دراستي الجيولوجيا، كنا نقوم بجولات حقلية أسبوعية في مختلف المناطق السورية، أذكر ذات مرة ذهبنا إلى كهوف جبلية في منطقة معلولا هي من القدم والتاريخ بحيث أنها تعد من أقدم الأماكن المسجلة لسكنى الإنسان في العالم، لقد سحرنا الدكتور هشام أبو اللبن رحمه الله بالمعلومات عن تلك الكهوف حتى صرنا بشوق وتوق لرؤيتها، وعندما دخلناها كانت المفاجأة (قاذورات، بعر غنم حيواني، بعر غنم بشري...) كانت تواليت حقيقي للرعيان وماعزهم وأغنامهم وسط اهمال حكومي واضح.
في جولة أخرى زرنا مغاور طبيعية للمياه الكبريتية في منطقة الضمير قريبة من المطار العسكري، ذكر التاريخ القديم أنها كانت أحد أماكن الاستجمام المفضلة لأحد ملوك الرومان. هناك يا سادة وتحت سطح الأرض بعدة أمتار وجدنا علب السردين وقشر البيض وأعقاب السجائر.
.... وقس على ذلك في تدمر، جديدة يابوس، وقلعة مصياف، وقلعة جعبر في الرقة، و...و...و
هذا على مستوى الناس أما على مستوى الحكومة فحدّث ولا حرج، فقد كانت الآثار دوماً عرضة للاندثار من قبل الحكومات المتعاقبة، فمن الاهمال واللامبالاة بعد خروج المحتل الفرنسي الذي لولاه لما تعرفنا على كثير من مناطقنا التاريخية، إلى الاستغلال والنهب و العبث في عهد حكم البعث، و من مناّ ينسى كيف قام وزير السياحة السوري قاسم المقداد في العام 2002 على ما أذكر بسرقة أحجار أثرية من منطقة بصرى التاريخية ليبني بها سوراً حول مزرعته السعيدة..!!
هذا الأمر ليس في سورية فقط، ففي إحدى زياراتي لأهرامات الجيزة في القاهرة، كنا في موكب سيّاح على الجمال والأحصنة نتجول بين الآثار الفرعونية عندما (انزرك) صاحبنا الدليل السياحي المصري، فترجّل عن جمله وركض لبضعة خطوات، و فتح سحاب بنطاله ووضع (هبّورته الفرعونية) فم أحد التماثيل وتبّول، نعم هكذا وبكل بساطة (تبوّل) بنص حلق تاريخه، أما الحارس الحكومي للآثار الذي كان قريباً من المكان فقد اكتفى بأن صرخ على الصبي من بعيد قبل أن يشيح بوجهه عنه نحو سيقان اللحم الأبيض التي تتجول في المكان...!!!.
عودة لموضوعنا، يقول الصحفي الذي أنجز التقرير أن المهربين من جنود وقيادات داعش في الرقة والموصل توقفوا عن تحطيم رؤوس التماثيل التي كانوا يعتبرونها أصناماً، وذلك عندما أدركوا أنها سوف تفقد قيمتها في السوق عنه في حال كانت مكتملة، ويضيف الصحفي حرفياً هنا فيما اعتبره ذروة وخلاصة التقرير :
" لا يمكنني اخلاقيا أن أوافق على التجارة بهذه الأشياء القيمة وسرقتها من أصحابها، لكن لسوء الحظ يبدو أن هذه هي الطريقة الوحيده لإنقاذ تاريخ إنساني من أيدي من يحطمونه بلا معنى"
أخيراً:
نستطيع ادعاء أحقيتنا بالحفاظ على تاريخنا الأثري فقط عندما نوقف المتطرفين المجانين الذين ينظرون إليها كأصنام تُعبد ويجب تحطيمها، أو اللصوص الذين ينقبون عنها في كل مكان وهم من أبناء جلدتنا الذين يبعيون تاريخ وطنهم مقابل المال، وكما يقول المثل (لو مافي بيّاع مافي شاري)
....دون ذلك تبقى شعارات الدفاع عن تراثنا مجرد كلام ننثره في هواء عاصف.
علِّق