عدد القراءات: 3070

فلسفة القهر في ظل الاستبداد – الجزء 1


تكون مركب القهر في المجتمعات المتخلفة

لعل أكثر ما يميز الانسان المقهور هو إحساسه الدائم بالقلق من عيشه في عالم العنف المفروض عليه. التهديد يأتي من الطبيعة (الأمراض والكوارث الطبيعية والحروب والآفات) كما يأتي من الوسط الاجتماعي والمحيط السياسي وحتى الواقع الديني. يؤدي به الأمر إلى بقائه في وضعية الاستماتة للبقاء على قيد الحياة survival mode  إنه يعيش دوماً في عالم الضرورة وهو يفتقد سلاح المجابهة من بنية تحتية وترابط اجتماعي ولا يوجد لديه أية وسل مساندة للمجابهة.


القهر الناتج عن الظروف الطبيعية قاسٍ ومفاجئ وهو كذلك عادل حيث يأتي على الجميع دون تمييز. بينما القهر السلطوي بطيء ومستمر ومتوقع وبالتالي يمكن تجنبه.
يحاول الانسان المتخلف أنسنة humanization of المصائب فيرى فيها أبا قاسياً يريد مصلحة المعاقب تارة، وتارة يراها أماً رحيمة حيث تعفو عن بعض الأخطاء. إنها كريمة حتى وإن لم تعط كونها ترحم فهي لا تعاقب على كل الأخطاء.
لا يجد الانسان  المقهور بداً من الرضوخ والتبعية في علاقته مع التسلط كونها الآلية الأنجع لاتقاء الأذى في علاقته مع التسلط. وتتحور تلك العلاقة وتتطور إلى التفنن في تصرفات التزلف والمداهنة وتعظيم السيد. يتسابق المجتمع المتخلف في تلك الأفعال اتقاء للشر وربما طمعاً في الرضا. ذلك لأن العالم الذي يعيشه غير رحيم ولا متكافئ يختل فيه الميزان بين السيد والتابع ويتصاعد المحكوم بمدى تقربه من السيد الجائر في منحنى شديد الميول.

يتحول الانسان المقهور في وعيه إلى "شيء"؛ جمادات عليها أن تتجمل لتكتسب قيمتها. وهي لا واعية وغير قادرة على أداء أي دور دون مساعدة سادتها. وتستمر الفئة الطاغية بالنظر إلى الانسان المقهور على أنه كائن هزيل مستضعف ورعديد جبان. ويرى الطاغي في نفسه عكس تلك الصفات حين يعمد بطشه بتلك الكائنات الضعيفة. يصبح المتسلط هو صاحب الأقدار ويستكين المستضعف إلى حالة الانحطاط والشقاء التي يعيشها ويغدو اتكالياً رخواً كما قدر له في ذهن المتسلط.


تاريخياً كان من الملحوظ الانفصال شبه الكامل بين القمة التي يقبع بها المستبد وبين القاع الذي يقبع به العامة من المقهورين. كان المستبد محاطاً على الدوم بدائرة صغيرة من المقربين والمحظيين يحمونه وأنفسهم من العالم الخارجي الذي كان منغمساً بمحاولته للبقاء في وجه الكوارث الطبيعية والذي كان في ذلك الوقت شديد الامتنان لأي حاكم يأتي ليثبت له واقعه مهما كان قاتم السواد طالما استطاع منعه من التغير وحمايته من إغارة المستبدين الغرباء. لقد كان بناء ذلك المجتمع أشبه بأرض قاحلة تعيش عليها العامة وتتوسطها مصطبة رفيعة يقبع عليها المستبد. كان لتلك البنية محاسن تمكن المستبد من فرض سيطرته على العوام لكنها كانت كذلك تجعله عرضة للسقوط والإزالة مع أول بوادر ريح قريبة تأتي من خارج تلك المنظومة الحرجة التوازن، يفسر هذا الفرض وتيرة التغيير السريع في الحكم في الأزمان السابقة واستعداد العامة لتقبل أي حاكم – أو مصطبة جديدة – تأتي مكان الحالية طالما ألقت ظلالها الوهمية واستطاعت البقاء منتصبة دون أن تسقط على رؤوسهم.


مع تطور المجتمعات البشرية بدأت الطبقات الحاكمة بتقصي سبل توطيد حكمها؛ فرأت في خلق طبقات من التفاوت الاجتماعي طريقة لربط القاعدة بالقمة بطريقة أكثر ثباتاً و تشابكاً بحيث تصعب اسقاط تلك المسلة التي يسكنها الاستبداد. وجاءت طبقات الاستبداد تباعاً لترصف شكلاً هرمياً جديداً لتلك المجتمعات. تكونت درجات ذلك الهرم من سلاسل من أشخاص هم ضحايا ومستبدون في ذات الوقت، وتقرر علوهم او انخفاضهم في تلك السلالم بناء على ما يمكنهم تقديمه للرأس المستدق لذلك الهرم.
إن المنحنى الجديد الذي كونه التراجح بين المستبد والمحكوم لا يبقى ثابتا بل يظل يتأرجح وويميل بحيث تعلو درجة المهيمن و تزاد الهوة بين المتسلط والمقهور. تقود الفئات المتكمنة من المجتمع من رجال العلم والمال والدين بتوسيع تلك الهوة عبر بذل الجهود الحثيثة للتقرب للمستبد. وتتطلب تلك القربى تضحيات من مال حيناً ومن أمال وأشخاص ومستقبل المجتمع احياناً. إن غياب روح الانتماء المجتمعي وتهافت تلك الفئات المتمكنة نسبياً يؤدي لبناء ذلك المنحد السحيق الذي يقف الانسان المقهور في أسفله ويتسلق المستلط أعلاه بينما تلعب قرابين  رجال المال والسلطة والدين دور أحجار الدرج الذي ترتقي به منظومة الاستبداد. تعمل منظومات الاستبداد الحديثة هذه بطريقة تبني خلالها سلّم فساد هرمي الشكل بحيث يزداد عدد المنتفعين وبالتالي المدافعين عن بقائه كما تكون حالة الفوقية بين الهوة والقاع مرئية ومبررة نوعاَ ما بل ومغرية لضعاف النفوس لتسلقها إن استطاعوا حتى ينتهي بهم المطاف حيث تنتهي قدرتهم على تقديم الأضاحي والقرابين.
القهر والرضوخ

كلما ازداد رضوخ المجتمع تزداد سطوة المستبد. اتساع الهوة يؤسس لعصر الانحطاط الذي ينتج من انعدام قيمة الانسان واستنفاذ جهده في محاولة بقائه على قيد الحياة على أرض شديدة الانحدار. وفي عصور الانحطاط يصبح المجتمع قاصرة عن التعبئة والتنظيك الذي يمكنها من مقاومة الجرف العارم للاستبداد. تصبح الاستكانة هي طبيعة تلك الجماهير وتبدأ بتكوين أفكار تشيع بينها عن السلبية والجمود والانحطاط فتبخس دورها فيما يحصل. بل وتبدأ الطبقة المقهورة بلوم أنفسها. بعد مرحلة التبخيس التي تمر بها نفسية المجتمع المقهور ينتقل بشعوره نحو مرحلة أسوأ وهي مرحلة الاجتياف حيث يرى في نفسه مواتا وكأنه جيفة لا تستطيع رد الضيم عنها ولا تغيير واقعها. إلى أن في أحشاء تلك الجيفة يبقى الانسان المقهور بكامل قدرته على الاحساس بالألم والعجز. يكيل إلى نفسه النعوت السيئة وتهم الكسل والتقصير. ويرى فيما يحصل له عقوبة مستحقة على تقاعسه. تلك النقلة خطيرة كونها توجه اللوم بعيداً عن المتسلط والمتسلقين باتجاه الضحية وهو ما يبدأ المستبد استثماره لافراغ وتبديد نقمة المقهورين. ويصبح جلاد نفسه وشريك المستبد في استبداد نفسه ومحاربة وجوده.

علِّق