عدد القراءات: 6633

مصطلح تطبيق الشريعة..... التاريخ والتاريخية

مع تفجُّر ما اصطُلِح على تسميته بثورات الربيع العربي التي انطلقت في عدد من البلدان العربية ، بات مصطلح تطبيق الشريعة من أكثر المصطلحات حضورا وإثارة للجدل الثقافي في الساحتين العربية والإسلامية بل وربما العالمية . وقد تكثّف  هذا الحضور مؤخراً وبالذات مع تصدُّر الجماعات الإسلامية للمشهد واستلامها زمام القيادة في تلك الثورات ، واستبدالها المطالب الشعبية التي انطلقت تلك الثورات على أمل تحقيقها ، من عدالة وكرامة ومساواة ، بمطالب ، بل قل أفعال وسلوكيات ترمي إلى إقامة دولة الخلافة ومباشرةِ تطبيق الشريعة *، والتي تتحدد بحسب المفهوم الاختزالي الاجتزائي السائد لديها، في الشق القانوني الجزائي ، أي العقوبات التي ترتِّبها الشريعة على مرتكبي الجرائم ، والتي تُعرف فقهيَّا باسم (الحدود).


وتجنبا لسوء الفهم الذي قد يقع فيه البعض ، فإننا نقرر بداية  بأننا  هنا  في هذه العجالة التي ستكون بمثابة مدخل  لسلسلة حلقات نتناول فيها مسألة تطبيق الشريعة من مختلف جوانبها ، إنما نناقش تاريخ وتاريخية (مصطلح تطبيق الشريعة ) هذه العبارة المركبة ، وليس (الشريعة ) نفسها .
ونعني بالتاريخ لحظة ولادة المصطلح وتتبع مساره التاريخي ، وكذلك العوامل التي نظن أنها كانت السبب وراء ظهوره . وأما التاريخية فنقصد بها طبيعة المصطلح البشرية الاجتهادية ، ومن ثم افتقاره لأية قداسة أو تعالٍ ،  وخضوعه بالتالي لما يعتري أي منتج بشري من قصور ونقص وخطأ وصواب  .
فمما قد يجهله الكثيرون ، وربما سيصدم الكثيرين في الوقت نفسه ، هو أن مصطلح (تطبيق الشريعة ) مصطلح حديث النشأة نسبياً ، حيث يصعب العثور له على أثر قبل مائة عام من الآن تقريباً . وأنه لا وجود له لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ولا في أقوال أي من أئمة المذاهب أو مؤلفات علماء الشريعة المتقدمين . وهذا بالضرورة لا يعني أنه مصطلح باطل أو مرفوض ، وإنما المراد هو وصف طبيعته والكشف عن تاريخيته بغض النظر عن تقييمه والحكم عليه .
وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من الوقوف على أول من قام باستخدام المصطلح وإطلاقه ، إلا أننا إن ربطنا ظهوره - وهذا أمر منطقي - ببدء وقف العمل بأحكام الشريعة ، فإن في إمكاننا حينها أن نقرر أن لحظة البداية لنشوئه أو على الأقل لتوافر دواعي نشوئه ، كانت هي ذاتها لحظة النهاية للخلافة الإسلامية ، والتي أتت على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924م، مؤسس الدولة التركية الحديثة، ووقوع البلدان العربية التي كانت خاضعة للسيادة العثمانية تحت انتداب الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى . حيث قامت تلك الدول  بإزاحة الشريعة وإحلال قوانينها الوضعية مكانها .
ثم ازدادت الحساسية لجهة المصطلح وتواتَرَ وروده مع تحرر البلدان العربية من الاستعمار الغربي ، وقيام الحكومات العربية المتشكلة حديثا باستكمال ما بدأه المستعمر من إحلال للقوانين الوضعية مكان أحكام الشريعة ، بدل أن تقوم تلك الحكومات بما كانت تتوقعه منها الغالبية العظمى من الشعوب العربية وتأمله ، من رد الأمور إلى نصابها واستئناف العمل بأحكام الشريعة . حيث ثابرت تلك الأنظمة على العمل بقوانين المستعمر بل وزادت عليه درجة  حين قام البعض منها بإلغاء العمل بالقليل من القوانين الإسلامية المتوارثة من العهد العثماني ، والتي تركها المستعمر الغربي وغض طرفه عنها - فطنة منه - كونها تهتم بتنظيم شؤون الناس شديدة الخصوصية والتي كان من الممكن أن يثير تدخله فيها مشاكل ومواجهات كان في غنى عنها . ونشير بذلك إلى قوانين الأحوال الشخصية الأمر الذي أغضب الجماعات والحركات الإسلامية ، والمفكرين الإسلاميين ودفعهم للمناداة بتطبيق الشريعة .
ثم برز عدد من المفكرين الإسلاميين من الذين  ركزوا اهتمامهم على مسألة تطبيق الشريعة ،واعتباره الفيصل أو الضابط الذي يتم على أساسه الحكم على المجتمع بكونه مجتمعا إسلاميا أو غير إسلامي (جاهلي ) ، حيث تمكنت أفكارهم وكتاباتهم من أن تترك بصمات واضحة في تشكيل العقلية الاسلامية الحديثة  وتكوين الجانب التنظيري لها. ويأتي على رأس أولئك المفكرين ، أبو الأعلى المودودي وسيد قطب ، الذَين أسسا لمصطلح الحاكمية بفهم جديد ومغاير لما كان سائدا ومتداولا في الأوساط العلمية الإسلامية ، ومقارب للمفهوم الخوارجي له**، والذي كان فيما بعد الأساس النظري للكثير من الحركات والجماعات الإسلامية ، أو لِمَا بات يسمى بـ (جماعات الإسلام السياسي ) والتي يمكن تلخيص برنامجها السياسي بمسألة العودة إلى تطبيق الشريعة . ففي ( أجواء هذه الحركات والبيئات التي طورتها ، تعاظم نقد القوانين المدنية باعتبارها تعني تغريبا ، وتعني طاغوتا ، وتُفَارق روح الشريعة وأحكامها ) لأن ، (الإسلام يمتلك نظاما محكما ليس في العقيدة والعبادة وحسب ، بل في السياسة والحكم والاقتصاد ، وعلى الدولة أن تنفذه بتطبيق الشريعة لكي تبقى دولة إسلامية) ***
فالاستخدام المكثف لمصطلح تطبيق الشريعة من جانب هذه الجماعات ورفعه كشعار سياسي يهدف لتعبئة الجماهير وكسب أصواتها للوصول إلى المناصب السياسية ، كان له الأثر الأكبر في شيوعه ، حيث تم استخدامه كورقة رابحة يستقطبون الجماهير من خلالها - مستغلين العاطفة الدينية لديها - من جهة ، ويظهرون منافسيهم بصورة مناوئة للإسلام من جهة أخرى ،مما يصرف تلك الجماهير عن تأييدهم وتمنحهم أصواتها ، دون أن يقدموا في الحقيقة أي إسهام يذكر ، سواء على صعيد تجسيد المصطلح كواقع، أو على صعيد  تأسيسه علميا ومعرفيا ، بتقديم فهم شامل يتطابق مع المفهوم القرآني المقابل له .

لقد ظلَّ مصطلح تطبيق الشريعة على مدى القرون الخالية السابقة لإلغاء دولة الخلافة ، ينتمي إلى دائرة اللامفكر فيه بالنسبة للعقل المسلم ، ذلك أن تحكيم الشريعة والإلتزام بتعاليمها كان من بدهيات الحياة الإسلامية . فالدولة الإسلامية منذ تأسيسها بقيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وحتى آخر لحظة من عمر الخلافة الإسلامية لم تُوْقِف العمل بالشريعة يوما. وذلك لكون الشريعة تعد جزءا هاما من مكونات الهوية والثقافة الإسلامية ، وتحكيمها والعمل بها يعتبر ركنا من أركان العقيدة الإسلامية ، أي يترتب على الإيمان بلزوم تحكيمها من عدمه البقاء في إطار الإيمان أو الخروج منه ، وبالتالي لم يكن من المُتَصَوَّر أن يقوم أيٌّ من حكام المسلمين بإلغاء أيٍّ من أحكامها واستبداله بأحكام وضعية ، - طبعا إلا  بحرف معاني النصوص وليِّ عنقها عن طريق الفتاوى السياسية التي يمتهنها ويتقنها وعاظ السلاطين -  لأن ذلك سوف يثير غضب الناس عليهم فيهددون عروشهم .  فشرعيتهم السياسية كانت في الأساس مستمدة من كونهم حماة الدين ومنفذي الشريعة ***. لذلك فحتى لو افترضنا أن البعض منهم كان في سره يميل إلى مقارفة ذلك ، فإنه لم يكن ليجرؤ على إخراجه إلى العلن ، لأنه بذلك يلغي المبرر الأكبر لبقائه في منصبه . مع أنه من المعلوم أن الكثيرين منهم لم يكونوا يلتزمون بأحكام الشريعة في حياتهم الخاصة - لا سيما المتأخرين منهم - وكانوا يخوضون في بحر من المعاصي والمخالفات الشرعية . وزيادة على ذلك فإن تطبيق الشريعة كان يشكِّل مصلحة عليا بالنسبة إليهم، كونه يحيطهم بلمسة من القداسة تضفي على مناصبهم هيبة وقوة ورسوخاً . ناهيك عن أن الكثيرين كانوا يتذرعون بتطبيق الشريعة لاتخاذ ذلك وسيلة للفتك بمعارضيهم وكنسهم من طريق أمجادهم .
يبقى أخيرا ثمِّة عامل ربما يكون له بعض الإسهام في رواج مصطلح تطبيق الشريعة وانتشاره ، ونقصد به ذلك السجال الدائر منذ منتصف القرن الماضي - ولا يزال - بين التيارين الإسلامي والعلماني حول المصطلح، ما بين تأكيد الأول على لزومه وأحقيته وربط خلاص الأمة ونهضتها به ، وبين إنكاره من الثاني والتأكيد على عدم ملاءمته للعصر ومواكبته للتقدم ، وأن الإرتهان له والتشبث به يقع في أساس مشكلات الأمة ودورانها في الحلقة المفرغة ، وعجزها عن اللحاق بركب الأمم المتقدمة . ذلك السجال أفرز كمَّاً هائلا من الإنتاج الفكري في المسألة - كتبا ومقالات ومحاضرات وندوات ولقاءات - جعل المصطلح مستمر الحضور.
ختاما وعلى سبيل الخلاصة نقول : إن مصطلح (تطبيق الشريعة ) هو مصطلح حادث وتاريخي ، غير مقدس ولا منزه ، بل هو بشري واجتهادي قابل للنقد وللرفض ، وإن ذلك في حال حصوله ، لا يعني إطلاقا رفض الدين أو الكفر بالشريعة كما قد يتوهم بعض المتحمسين ، بل هو سعي نحو تعرية المقدسات المزيفة التي كثيرا ما كنا - كمسلمين - نتحرج من مقاربتها ، مع قناعتنا التامة بضرورة ذلك وإلحاحه . خوفا من الضغط الاجتماعي الذي قد يؤثر على علاقاتنا ومصالحنا في حال اجترحنا لذلك الأمر ، متجاهلين أن جل مشكلاتنا تأتي من إرجائنا مواجهة أخطائنا أو أخطاء آبائنا ، فتتقوى وتتزاوج وتتكاثر ، وتكتسب مع  تكاثف الزمن وتقادمه بُعدا مقدَّسا يحجب عنها سهام الأسئلة الكفيلة ببيان تهافتها وتناقضاتها. فتتحول إلى عقبة صلدة تعاند كل محاولة للإصلاح والتغيير ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :
*- ويأتي على رأس تلك التنظيمات التنظيم الذي اشتهر بجرائمه المروعة والمعروف باسم (داعش ) اختصارا لـ (الدولة الإسلامية في العراق والشام ) الذي قام بتطبيق الشريعة وفق مفهومه الشائه ، بعد أعلان زعيمه المسمى أبو بكر البغدادي قيام دولة الخلافة .
**- نسبة إلى فرقة الخوارج.
***- رضوان السيد - مسألة تطبيق الشريعة في التاريخ والحاضر - صحيفة الشرق الأوسط - العدد 12390 الصادر في 30 أكتوبر 2012
***- أنظر محمد عابد الجابري - الدين والدولة وتطبيق الشريعة - مركز دراسات الوحدة العربية ص 62

التعليقات

تنويه واعتذار : هناك هامش سقط سهوا يتضمن إشارة الى مرجع تمت الاستفادة منه وهو مقال للأستاذ عبد الله المالكي بعنوان (تطبيق الشريعة والدولة الحديثة ) منشور في مدونات التقرير .

علِّق