نشرت في .January 05, 2016

 

*محمد كيّاري

 

محمد كياري.jpg

الزمن ينمو تراكمياً، المأساة رأس دبوس له وخزة، في مرحلةٍ ما قد يستوي ما قبل المأساة و ما بعدها، الانتظار استعباد، الديكتاتور أنيق، التطرف و العنصرية وجهان للعالم الأعمى.

كسوري، لا بد و أن يكون لـ هذا الانتماء وقعه و أثره الثقيل خلال هذه الحقبة، مجازياً يصح القول إننا في وسط كارثة هائلة من درجة زلزال أو بركان أو طوفان نوحيّ أتى على كل شيء، لا هامش في هذه الحياة يكفي لتدوين ما خسرناه و ما نزال، تتجاوز الخسارة فكرة الأرقام المادية، و تتوحش أكثر لتكون أرقاماً من البشر الموتى أو مبتوري الأطراف أو المشلولين أو الأشلاء التي تعثر لم شملها مع جثث أصحابها، أو المشوهين جسدياً أو الموتى نفسياً.

 

في كل يوم يزداد العمر يوماً على الحساب، لكن مُنذ خمس سنوات يبدو أن اليوم المجرد هو يوم سمين و مُتخم و فظّ، كأن اليوم لدينا أصبح سردة من الزمن بتفاصيلها القاهرة، و لكَ أن تبحث عن آلية ذات جدوى تعرف من خلالها العمر الحقيقي، يعتقد البعض أن الألم ينمو مع الوقت ليكبر و يصير نسيان، لم يدركوا أن هذا الألم نمى و تأصّل زمنياً فينا، بعد كُل كف، أو رصاصة، أو برميل أو صاروخ أو قذيفة، ليصير حدبة مُلتصقة على ظهورنا، لاحقاً ستكون هذه الحدبة سبباً يمنع الموت الهانئ لجثثنا في القبور.

سقطَ الصاروخ الأول و أسقطَ  معهُ المبنى الذي كان يقفُ بجواره أحمد، تم رفع الأنقاض من فوق أحمد سريعاً و الوصول إليه، كان لا يزال يتنفس و يتحدث بلا صوت، و يكاد ينقسم جسده لجزأين، أحشاؤه خرجت من مكانها، بالتأكيد كانَ أحمد يراها رغم أن غبار الركام قد غطى عينيه، دقائق كانت كافية لأن يترك أحمد أحشاءه لنا و يموت، لم يترك لأطفاله الأربعة سوى قبره على طريق مدرستهم، أحياناً يضعون عروسة زعتر أو وردة أو ما شابه على القبر، و حُمل الطفل الرضيع اسم أبيه و أصبح أحمد بن أحمد !

 

ليس بعيداً عن مكان المبنى الذي وقع فوق أحمد، في مكانٍ قريب، صاروخ آخر بعد دقائق فتّتَ ملجئاً و العشرين إنساناً الذينَ كانوا فيه، من بين الضحايا رجل مُسن و ابنته، و عائلة من أم و خمسة أطفال، بقي الأب خالد  خالداً في هذه الحياة إلى أن يقتله القهر على عائلتهِ، أو ينتظر صاروخاً آخر يلمّ شمله معهم.

عفاف، الطفلة الخمسينية، في سنواتها الأولى أصابتها الحُمى و ذهبت بعقلها. قبل عام توفتْ أمها العجوز، و بقيت عفاف، في ذروة القصف ذلك اليوم، لم يكن أمام الناس سوى الهرب و ترك البيوت التي تتساقط فوقها النيران، لكَ أن تتخيل مدينة و في سمائها طائرة تقصف، و على بعد أمتار من القصف، عفاف تهرب و تضحك، رُبما هي بذلك تعوض حرمانها من ولع الأطفال بالألعاب النارية أيام الأعياد، بالأحرى لم يكن صوت الألعاب النارية مسموعاً لديها، و أخيراً استطاع القصف الصاروخي أن يكسر حاجز غشاء الطبل و يُسمعها الصوت و يُضحكها أيضاً.

 

في تلك الأثناء، فُقد هشام في مدينة حلب، و فُقد إياد في مدينة حمص، أما هشام فقد بقي مفقوداً حتى هذه اللحظة، ثلاث سنوات لم تكن كافية لإيجاد أي دليل أو خيط يوحي بمصيره، و إياد الذي اختفى خلال نفس الفترة، عاد منذُ سنة شهيداً تحت التعذيب و الجوع في فرع  مخابرات النظام في دمشق.

هذه جوانب يومية من المأساة، التي لا يمر يوم في سوريا إلا و يتجرع بيت أو عائلة طعم الفقد بأقسى صوره، و تعتاد على وخز هذه المأساة على مدار الساعة، هكذا حتى يصبح كُل ما فيك كالغربال، من البديهي أيضاً بعد هذه اللحظة أن تعبر عدالة البشر من خلال ثقوب الغربال، ببساطة يمكن تسميتها هنا عدالة مارقة.

 

الديكتاتور أنيق، لكن لأصابعه أنيابٌ حادة، و للسانه منشار، عيونه الملونة تلمع فيها مجزرة، صوته قمِيء ينبعث من منزل أموات، و له رائحة جثة متفسخة، يستحم بالدم.

يصحو من النوم باكراً، في ذلك الوقت تبكي إحدى الثكالى أمام قبر فقيدها،  يتثاءب الديكتاتور و ينفثُ الكيماوي، يتمطّط دون أن يلحظ الكرسي تحت المشنقة، فيحركهُ و يقتل شاباً أُعتقله من الجامعة، يُطقطق أصابعه بالتتالي، بطقطقة الأول يُسقط برميل فوق حلب، و بالثاني يقصف سوقاً مكتظاً، و بالثالث يحاصر قرية، و بالرابع يُهجر عائلة، و بالخامس يرن جرس الحاجب ليُعد الفطور.....

الديكتاتور أنيق، يختلي كُل ليلة بجثة، يُجامع الظل، يتناسل، يتلقى مولودة من أنثى الخنزير، الديكتاتور أنيق جداً فهو يحلق ذقنهُ و يرتدي بدلة، هو طبيب، يُميزه عن غيره أنه وُلدَ من رحمٍ ذهبي، ورث الحكم الجمهوري من دكتاتور خبير.

يُقال أنَّ الساسة اتفقوا على مواجهة توسع ثقب الأوزون و حل مشكلة الاحتباس الحراري، لكنهم عجزوا عن تجريد هذا الدكتاتور الأنيق من أدوات قتله، و تسهيل عودة الملايين من المنفى.

 

كُل ما يحدث في العالم مؤخراً يترك الانطباع الأكثر تأثيراً، انطباع التطرف المُتنامي، طالما يتم وضع حلول لمواجهة التطرف لا لمعالجة أسبابه و دعائمه، و لأن الأزدواجية واضحة في تقييم البشر، في ليلة واحدة يَقتل السلاح الكيماوي في سوريا أكثر من 1500 شخص هم بلا شك ضحايا للإرهاب، و يقتل الإرهاب 120 شخصاً في باريس هم أيضاً ضحايا للإرهاب، فلا يتحرك العالم للأولى و يحشد الأساطيل للثانية، ذلك الاستهتار يُدلل و يدعم تنامي التطرف.
في الطرف المقابل، الضحية تهرب من دموية المتطرف، لتجد أبواقاً كبيرة تدعو للعنصرية و رفض اللاجئين، تدعو للتوجس منهم دينياً و اجتماعياً و الحذر منهم، حتى أحياناً تطالب بمنعهم من دخول دول آمنة.

عندئذٍ ببساطة يمكن القول، كُل الوقت منفى، و قد ضاقَ المنفى.

 

*محمد كياري: لاجئ سوري في أوروبا

 

 

علِّق