عدد القراءات: 7355

شهيداتٌ مظلومات

درجت الثقافة الإسلامية على تبجيل مقام الشهيد، باعتباره من مات في المعركة، واتسع المفهوم ليصبح "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد"، واختلط مفهوم "من قتل في سبيل الله" مع مفهوم الشهادة، اختلاط الحابل بالنابل، وكذلك اختلطت المسميات لتشمل القاتل والضحية في أحيان كثيرة.

 

ولست اليوم بصدد تبخيس مقامات الناس والاستهتار بتضحياتهم، بقدر ما يهمني الإضاءة على معنى الشهادة والشهداء في التنزيل الحكيم، كما سبق لي التطرق لذلك في العديد من المناسبات.

فالشهيد كما هو متعارف عليه "ميت" بالضرورة، بينما هو في التنزيل الحكيم "حي" بالضرورة {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} (البقرة 282)  والشهادة تتطلب الحضور، والشهيد سامع الخبر ومبصره وحاضره {قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (الإسراء 96)،   وشهداء بدر هم من حضروا بدراً، سواء قتلوا أو بقوا أحياء من المؤمنين والمشركين على السواء،  بينما الشاهد مثلاً هو من سمع الشهادة لكنه لم يحضر الحدث {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} (يوسف 26) أي علم ودرى الخبر من دن حضور.

 

فإن كانت شهادة الشهيد تقدم فائدة للإنسانية فمقامه في الآخرة مع الصديقين والأنبياء  {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} (النساء 69) والنبوة غيبيات غير معلومة، والشهداء من قدموا أموراً مغيبة عن الناس، كأن يقدم الإنسان شهادة فيها علاج لمرض معين مثل باستور، أو فيها اختراع كالمصباح الكهربائي مثل أديسون، أو يقدم شهادة يمكنها أن تساهم في رفع الأذى عن الناس وإحقاق الحق وكشف الظلم.

أما سبيل الله فهو السبيل الذي يؤدي لرفع كلمة الله في الحرية، حرية الناس جميعاً كما خلقهم الله تعالى، يمتلكون الإرادة في طاعته ومعصيته،  وكل ما دون ذلك من آراء ومعتقدات.

ولا نغفل مكانة من قاتلوا وقتلوا في سبيل أوطانهم قتالاً مشروعاً، لكن هذا يختلف أيضاً عن سبيل الله وعن مفهوم الشهادة.

 

وخير مثال على معنى الشهادة والشهداء، نساء سوريات، ظهرن في فيلم وثائقي "الصرخة المكتومة" اعتقلت بعضهن لخروجها في المظاهرات أو لعلاجها جرحى، وبعضهن الآخر صادف وجودهن في قرية حل عليها العقاب الجماعي، تعرضت هؤلاء النسوة للتعذيب والاغتصاب، لكنهن امتلكن الجرأة للظهور والكلام عن مأساتهن، لعل صرختهن تساهم في رفع الظلم عن غيرهن، رغم أن المجتمع يدينهن في أحيان كثيرة، ويحملهن تبعات ما جرى لهن، حتى أن هناك من قضت على يد عائلتها، باعتبارها قد مست شرف العائلة، وهذا الشرف  يخدشه اغتصاب المرأة  لكن لا يخدشه تعرضها للتعذيب، وغالباً في هذه الحالات ما يتخلى الأهل عن ابنتهم، والزوج عن زوجته، ويتركونها لتكابد مرارة الحياة وحدها أو مع أولادها دون معين أو معيل، والمرأة هنا تظلم عشرات المرات، سواء من الظالم الأساسي الذي لا يتوانى عن استخدام أقسى أنواع التعذيب، ويعتمد الاغتصاب سياسة ممنهجة لإذلال الناس، أو من المجتمع الذكوري الذي يرى في الإناث مجلبة للعار، ويتعلق شرفه بإناثه تحديداً، وينعكس الاضطهاد فيه لتحمله المرأة مضاعفاً عن الرجل المضطهد، وكل ذنبها أنها ولدت في هذه المجتمعات البائسة.

 

ولأن الإسلام الموروث هو إسلام شرق أوسطي يعتمد عادات ومفاهيم العرب في القرن السابع الميلادي، فقد أقحمت فيه مصطلحات غير موجودة في التنزيل الحكيم، كالكرم والمروءة والعرض والشرف وغيرها، وهذه المفاهيم على ما يحمله بعضها من قيم أخلاقية جميلة، إلا أنها تكرست في العقل الجمعي على أنها جزء من الدين، حتى غدت جرائم الشرف لصيقة بالمسلمين، في حين أن الإسلام لا يبرر قتل النفس إلا في حالة القتل العمد، ويعاقب الأنثى كالذكر في كل الجرائم،  وفي عقوبة الزنا ابتدأ بالزانية لأن الزنا لا يتم إلا برضى الأنثى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ --} (النور 2)، وفي الآخرة يساوي الله تعالى بين الذكر والأنثى سواء في الثواب أم في العقاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب 35).

والاغتصاب جريمة فيها إكراه من قوي على ضعيف، وهو انتهاك جسدي ونفسي للمغتصب، والمغتصبة ليست زانية، ولا مرتكبة فاحشة، وفي التنزيل الحكيم يدخل فعل المغتصب ضمن محاربة الله ورسوله {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33)، والأولى بالمسلمين احتواء المغتصبة ورعايتها كي تتخطى الأذى الجسدي والنفسي الذي وقع عليها، إضافة للسعي  لعقاب الفاعل سواء كان فرداً أم نظاماً مسؤولاً.

فإذا عدنا لأولئك النسوة، فهن مناضلات في سبيل رفع ظلم حاكم مستبد، وهذا هو سبيل الله، أو مظلومات لا حول لهن ولا قوة، وهن جميعاً تعرض للتعذيب والاغتصاب أي وقع عليهن ظلم لا يحتمل، من جراء ما ترتكبه الطواغيت من أفعال شنيعة {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} (البقرة 49)، ثم خرجن وقدمن شهاداتهن، وهن يعلمن ما سيتعرضن له من اتهامات ونبذ من المجتمع، ومثلهن كثيرات لا يملكن تلك الجرأة، لكنهن يكابدن الآلام ذاتها، فلا نملك إلا أن ننحني أمامكن ونقدر عالياً ما قدمتموه، رغم علمي أن هذا التقدير لن يترجم إلى ما يعينكن على مشاق الحياة، لكن في النهاية لا بد للحق أن ينتصر، والظلم الذي وقع عليكن من عباد الله، سيعوض في مكانتكن إلى جوار الأنبياء والصديقين.

 

التعليقات

بارك الله فيك ونفع بك يا دكتور شحرور.... ألا ليت الزمان يعود عشره سنين فقط

دائمآ رائع دكتور متعك الله بالصحة وطول العمر.

علِّق