نشرت في .December 30, 2015

 

المقارنة بين الشهيدين "زهران علوش" قائد جيش الإسلام في الغوطة الشرقية، والإعلامي"ناجي الجرف" رئيس تحرير صحيفة حنطة،من قبل محبيهما أو خصومهما، أراها مجحفة لهما، لأن طبيعة المقارنة غير منصفة، فلكل منهما خصوصيته ومجاله. ولكن لابد من التأكيد على أن مرتكبي الاغتيالين هما من أعداء الشعب السوري.
لا تستوي المقارنة بين صحفي له هوية مسالمة واضحة، والاختلاف معه لا يكون إلا بالفكر والحجة، وبين قائد عسكري تحول الاختلاف معه بالرأي حول قضايا الديمقراطية والمجتمع المدني إلى حديد ونار، وذلك بحسب الذين يحمّلون علوش مسؤولية اختفاء العديد من الناشطين من بينهم (سميرة الخليل، ناظم حمادة، وائل حمادي، رزان زيتونة)، وهذا لم يستثنِ حتى المقاتلين الذين يختلفون معه.


من الطبيعي أن يكون لعلوش خصوم في ساحة مليئة بمنافسين، أو متضّررين تغلّب عليهم، وطرَدهم من الغوطة بسبب أنشطتهم الظلامية، وكأي قائد عسكري ومقاتل، ساهم العالم المتخيل في التسويق لهذه الشخصية المحاربة، خصوصاً أن المعيار الأساسي الذي باتت أية شخصية -أو حتى فصيل في سوريا- تكتسب منه شرعيتها هي القتال والاستعداد للقتال، وذلك تبعاً للظروف الراهنة التي يتسيّد فيها القتال المشهد العام، وفي المحاججات السورية في الفضاء العام والخاص، يتم الاستدلال على شرعية الكثير من الأشخاص والفصائل، على أساس معيار القتال ونسبته، ونوعيته، وحجمه.
جرت العادة في هذا المشرق التعيس، بأن يعتمد كلّ من يسوق لقائد عسكري، أو شخصية قيادية، على صورة نمطية مفادها "الزهد"، وأن هذا القائد لا يمتلك ثمن طعام لعائلته، ويتم سرد هذا الأمر ضمن مرويات يصعب التأكد من صحتها، وتنفيها النتائج، وسبق أن تم الترويج لـ (حافظ الأسد،نصر الله، جمال عبد  الناصر، أحمدي نجاد) والكثير من الديكتاتوريات على أنهم يعيشون على القلة والكفاف. واحدة من الروايات التي طالما تم تسريبها للرأي العام السوري، مفادها أن الأثاث في منزل حافظ الأسد مهترئ وقديم، وأن بيته متواضع جداً بما فيه طراز الحمام الشعبي التقليدي، ولكن غطاس الوقائع يكذب مياه العالم المتخيل، فحافظ الأسد لم يقف على الطابور بانتظار رغيف الخبز كغيره من المواطنين،وبشار الأسد لم يركب في وسائل النقل العامة كغيره من الشباب، كما أن أولاده لم يعانوا من رفع الدعم عن المازوت، ولم يقفوا في طوابير صرف المخصصات لمحروقات الشتاء.
بالتأكيد لا توجد هنا مقارنة مع الشهيد "زهران علوش"، و لكن المقارنة هي مع أدوات التسويق ذاتها، و التي صار استخدامها تأكيداً على نفي هذه الروايات.
من الخطأ بمكان تسويق فكرة أن أحد أهم قادة الفصائل العسكرية التي تلعب دوراً محوريا ًعلى أحد الجبهات المفتوحة مشغولٌ بتأمين لقمة أولاده، وهذا الخطأ يتحول إلى ألم حينما يتحول غالبية المقاتلين إلى مثل هذا الوضع المربك، فبينما هم في ساحات القتال لا يضمنون حياتهم، ولا مستقبل عائلاتهم، مقتدين بقائدهم، لذلك يضطر بعضهم للاستدانة بينما يستسهل البعض  الآخر الحصول على رزقه بطرق غير شرعية، من خلال الاستيلاء على أرزاق الناس، تحت غطاء فكرة "غنائم الحرب"، ومعروف أن الحرب بيئة مغرية وخصبة في تبرير هذه الممارسات.


إن محاولة تكريس"زهد القادة" يتم بأدوات أصبحت تثير سخرية الناس، لأنه خطاب متكرر لكل من يحاول فرض هيمنته بالقوة، وكان يكفي القول أن زهران علوش لا يجد الوقت للقاء عائلته، أو أن عائلته تحت الخطر مثل بقية الناس.
عند الحديث عن القادة العسكريين، لابدّ وأن تعود إلى الذاكرة صورة الشهيد "أبو فرات" وغيره، ممن تمكنوا من دخول قلوب السوريين بعفويتهم، وطبيعتهم، وبمقولتهم الأخلاقية، التي تلامس عمق الضمير الجمعي السوري، وليس بطريقة روايات الزهد، والتعفف عن مغريات الحياة الزائلة، والإعداد للحياة الأبدية.
عدا عن "الشبيحة" و مؤيدي النظام،شمت البعض باستشهاد علوش لأنهم يرون فيه أحد المسببين لمأساتهم، بصفته مسؤولاً عن دماء سوريين اختلف معهم بوجهات النظر وبرؤيته حول مستقبل سوريا، فقد انساق هؤلاء إلى ساحة المناكفة المليئة بالتكفير والشتم والتهديد والوعيد، ولكن على المقلب الآخر،فإن الكثير من السوريين الآخرين والموصوفين بالعلمانيين بما فيهم "ياسين الحاج صالح"وهو صاحب قضية شخصية وولي دم ؛ تغاضوا عن هذه المواقف التي لا تتناسب مع قيم السوريين الأخلاقية التي تعلمناها في بيوتنا في أوقات الأحزان والملمات والمصائب، خصوصاً وأن علوش تحول إلى رأس حربة بمواجهة محتل موصوف وواضح المعالم، وأصبح واضحاً أن اغتياله العنيف يأتي في سياق التحضير "لطبخات" يتم إعدادها على عجل، فكان لابد من التخلص منه، وما يقوم به من دور وظيفي محدّد، يتلخص في حماية دمشق، وملء أي فراغ أمني يمكن أن يتشكل في المستقبل، ليشكّل بديلاً سريعاً عن النظام. وأمام هذا المشهد صار الخوف أن تنتهي تجربة "جيش الإسلام" التنظيمية ،إلى لواء توحيد جديد ينتهي بانتهاء قائده الذي يشكل فيه رأس الهرم المقلوب نتيجة لطبيعة التأسيس، فيتم دفع المقاتلين إلى المناطق السوداء، بعد أن يتم إنهاكهم وتمزيق عقدهم الجامع ثم تتم شيطنتهم عالمياً، لتصفيتهم بصمت بعد أن يتم إفراغ الثورة من أي مخلب لها.
زهران علوش سقط بنيران الإحتلال الروسي وبرابرة القرن الحادي والعشرين. وسواء راق ذلك للبعض أم لا، فإن زهران علوش ومقاتليه، فإنه كان على خطوط التماس مع من يقصف أهالي الغوطة، فهذا كافٍ ليكون شهيد سوريا.

 

سرد هذه التفاصيل كان ضروريا ً للتأكيد على أن المقارنة لا يمكن أن تستوي على ذاك الحال، فعادية الصحفي ناجي الجرف تؤكدها شخصيته، وصفحته على الفيسبوك، وأنشطته التي قام بها،وعلاقته بالسوريين العاديين مثله، عاديته تم توثيقها في الصورة التي تظهر الطعام الذي أحضره لعائلته لحظة الإغتيال بالنيران مكتومة الصوت، إلى جانب جثته الممدة على أحد الأرصفة، كحال آلاف السوريين الذين قضوا أثناء انتظارهم رغيف الخبز أمام المخابز، هذه الصورة التي كان لها وقع الصاعقة لكل من شاهدها.
لم يختلف ناجي الجرف مع الآخرين بالحديد والنار، الآخرون هم من فعلوا ذلك، ويبدو هذا التوضيح ضرورياً للمتألق في اللغة العربية وكنوزها السيد معاذ الخطيب، الذي فشل مرات عديدة للأسف في أن يبرز كشخصية سياسية مؤثرة عقدت عليها الكثير من الآمال، لأنه اختار أن يتحزب لشهيد دون آخر، ولضحية دون أخرى، ولتيار دون غيره.
ناجي لم يهدّد أحداً، ولا توجد لديه أسلحة أو قوات، وكلامه العادي كان عتابا حصدها من على بيادر "سلمية"، أرادت رصاصات الغدر المكتومة أن تسكته للأبد، لم يكن لدى ناجي إلا قلمه و حنطته وعتابا سورية حنونة، وهنا أميل إلى تشبيه اغتياله بحادثة اغتيال الكاتب المصري "فرج فودة"، فأدوات الجهل ذاتها، والطغيان الدموي ذاته ومبررات القتل واحدة ومشتركة، ولكن في حالتنا هذه الجرح أكثر عمقاً
وأكثر مرارة، فللجرف مقولة أخلاقية جعلته جزءاً من المجال العام، وتتلخص مقولته الأخلاقية تلك في "حنطة" و ما يتفرع عنها، وبما كتبه وأشرف عليه، ولأن نظام الأسد عجز عن الإمساك به بعد البحث عنه ورفع العديد من مذكرات البحث بحقه، قامت قوى الظلام المتمثلة بداعش "تنظيم الدولة الإسلامية" بإكمال المهمة واغتياله كما فعلت مع بقية السوريين من الناشطين السلميين والصحفيين المتميزين كـ (عبيدة بطل، مؤيد السلوم، الدكتور إسماعيل الحامض، أبو مريم وعبود حداد) ولعل قائمة الأسماء تطول، فصارت داعش و كما أنها مقاول لدى فروع الأمن السورية تلقي القبض على المطلوبين للنظام "علمانين و إسلاميين" من المناوئين لنظام الأسد وتقوم بخطفهم وتصفية أغلبهم.


مصفقون "داعشيون" تباهوا بجريمة اغتيال "ناجي الجرف" بكاتم الصوت، كما هللوا لاغتيال "زهران علوش" بالقصف الروسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي،وأشاروا إلى أن طائفة الجرف و مواقفه من الحياة ومن داعش مبررٌ كافٍ لقتله، وهذا ما ضاعف من وتيرة التعاطف مع هذه المأساة من قبل معظم السوريين،مع الرفض المطلق للمبررات،وهذا ما حوّل قضية ناجي الجرف إلى قضية رأي عام سوري و حتى عالمي، وسوف تبقى هذه القضية علامة فارقة على درب الآلام الذي مشى فيه السوريون نحو التحرر.
لقد فجّرت حادثة اغتيال الجرف ، وقبله ذبح اثنين من ناشطي "الرقة تذبح بصمت" مخاوف الناشطين والصحفيين وكل معارضي الأسد، فمن نجا من الاعتقال أو الموت تحت التعذيب في سجون المخابرات السورية، أو من طائرات الأسد وروسيا، سوف تطاله يد داعش لتكتمل المهمة، من الواضح أن خطة الأسد لإنهاء الثورة منذ البداية،كانت في القضاء على قادة الحراك السلمي، والناشطين السلميين، وكل الأقلام التنويرية ،والأصوات التحرّرية، كي تصير ثورتنا بقعة سوداء تخيف العالم كله، وهو ما يقوم به نظام الأسد و المقاول من الباطن "داعش" بكل دقة.
ناجي الجرف لم يكن عسكرياً، و لم يحمل سلاحاً ليهوي مشروعه الذي أسسه، لأن حضوره في المجال العام كان بالكلمة والفكرة والموقف والمقولة الأخلاقية، ناجي الجرف زرع حنطة وهذا كافٍ ليستمر و ليكن شهيد سوريا والإنسانية.

علِّق