عدد القراءات: 17705

الصراط المستقيم مفاهيم مغلوطة

يحتم علينا ما وصلنا إليه من وضع مأساوي، وبعد ما عاناه الشعب السوري وما زال يعانيه، أن نبحث عما قد يصل بنا إلى مستقبل أفضل، على كافة الأصعدة، أولها إعادة بناء الإنسان نفسه، فالطغيان الذي تعرض له، لا يقتصر على الطغيان السياسي فقط، بل يتجاوزه للطغيان الاجتماعي والاقتصادي والديني، وإذا كان الطغيان السياسي يمتد لخمسين عاماً سابقة، فإن الطغيان الديني يمتد لألف ومئتي عام تقريباً، جرى خلالها التسلط على الرقاب والعباد باسم الإسلام، وباسم الحلال والحرام، وجرى قمع العقل لمصلحة النقل، مما أنتج عقلاً جمعياً غير قادر على إنتاج المعرفة، قياسياً غير قادر على الابتكار، بل يحتاج لمثال يأخذ عنه، أما في حياة الإنسان المسلم  اليومية فالحرام يدخل في أدق تفاصيل حمامه ونومه وعطاسه وسعاله، وأركان إسلامه خمس تقتصر على الشعائر، ولا تحوي القيم من ضمنها، والحكم على تقاه يكون من خلال الوقت الذي يقضيه في المسجد، وعدد مرات أدائه للحج، لا سيما وأن الحج يجبّ ما قبله.

 

وللأسف فإن الإسلام الذي بين أيدينا اليوم، لا يمتّ للإسلام الحقيقي بصلة، فالأول دين أرسله إله شبه الجزيرة العربية أو الشرق الأوسط، لسكان المنطقة، وتوقف عند القرن السابع الميلادي، وطلب من متبعيه أن يتوقفوا معه، فأصبحوا خارج التاريخ، بينما الثاني هو دين عالمي تراكمت فيه القيم تدريجياً منذ نوح إلى محمد، فوضع أسساً تتوافق مع كل أهل الأرض حتى قيام الساعة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}(المائدة 3)، وترك للاجتهاد الإنساني أن يتحرك ضمن حدود تلك الأسس، وضمن ما يتوافق مع الأرضية المعرفية لكل عصر.

ولعل أكثر المفاهيم التباساً بين ما حمله لنا الفقه الموروث وبين ما ورد في التنزيل الحكيم هو مفهوم العبادة، فنحن نقرأ قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56)، ونفهم وفق ما تعلمناه في المدارس أن الله تعالى خلقنا لنقضي نهارنا وليلنا في الركوع والسجود، فهل تقنع هذه الغاية طفلاً صغيراً يسأل ما الجدوى من خلقنا؟

أما كان الأولى به سبحانه إذاً أن يستجيب للملائكة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة 30)؟ لكن من يقرأ التنزيل الحكيم يجد المعنى مختلف تماماً، فالناس كلهم عباد الله، مؤمنهم وكافرهم، مطيعهم وعاصيهم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر 53)، فالمسرفون مذمومون {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر 43)، لكن الله تعالى خاطبهم {يا عبادي}، والله رب الجميع سواء علموا بذلك أم لم يعلموا، في حين أنه إله المؤمن به فقط {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} (البقرة 139)، أما في الآخرة فنحن لا نملك من أمرنا شيئاً، والأمر كله بيد الله، وبالتالي نحن عبيده حينها{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (آل عمران 182).

 

والله تعالى خلق الناس وجعلهم مختلفين{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود 118- 119)، وهذا الاختلاف والتدافع بين طاعة ومعصية هو العبادة، أي ممارسة الحرية في الاختيار في كل مجالات الحياة، لتكون مسؤولاً أمام الله يوم القيامة عن هذا الاختيار، وهو سبحانه قد فرق بين الشعائر كإقامة الصلاة والصيام والحج وبين العبادة {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه 14)، وفي قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة 5)، يتضح أيضاً أن العبادة أمر آخر مختلف عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

فكيف نعبد الله؟ يأتينا الجواب {وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (يس 61)، ونحن نقرأ فاتحة الكتاب في  إقامة صلواتنا كل يوم ونردد {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (الفاتحة 5- 6)، والله تعالى لم يغفل عن هدايتنا لهذا الصراط المستقيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأنعام 151- 152 -153)، ولا يصعب ملاحظة أن هذا الصراط هو الوصايا العشر التي أرسلها إلى موسى، وأن كل أهل الأرض يتفقون عليها، من بوذيين إلى هندوس إلى مسلمين بكل مللهم، إلى ملحدين، ولا أحد من هؤلاء يشرع قتل النفس أو أكل مال اليتيم، فإن كنت مؤمناً بالله واليوم الآخر، أي على صلة بالله، واتبعت الصراط المستقيم فلا خوف عليك في اليوم الآخر {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} (البقرة 62)، أما ما اعتدنا عليه من تعريف الصراط المستقيم بأنه حبل سيمشي عليه الناس في الآخرة، فمن يقطعه يصل للجنة وإلا يقع في جهنم، فهذا ما تفتق عنه خيال أحدهم بعد أن رأى سيركاً عظيماً، وقرر أن يعيش الناس برعب لا يتفق مع منطق الرحمة والعدل.

 

وباعتبار الشيطان رمز المعصية في التنزيل الحكيم، فهو سيقعد لنا على الصراط المستقيم، ليوسوس لنا بعقوق الوالدين أوأكل مال اليتيم أوالزنى أوالغش بالمواصفات {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف 16)، أي في حياتنا اليومية، في الأسواق وأماكن العمل، لا في الجوامع، ولا يعنيه إن أقمت صلاة الفجر أم لم تقم، فهذه علاقتك الوجدانية بالله، أما تلك فعلاقتك العملية مع عباد الله، والله تعالى سيحاسبك على عملك الصالح، فأنت تعبد الله وتستعين به، وهذه الاستعانة تأتي من الصلاة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }(البقرة 153)، ومن كانت علاقته بالله قوية ومتينة فالله سيعينه على اختيار الأفضل.

ومن هنا نفهم الغاية من الخلق، فمن خلال ممارسة حريتك في الطاعة والمعصية، تظهر علاقتك مع الناس حولك، ومن هذه العلاقات تنشأ الحياة وتستمر {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة 251)، ومن خلال العمل تتحقق الخلافة على الأرض{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة 105)، وكلما ارتقى الإنسان بأخلاقه وأعماله اقترب من تحقيق الغاية، وكلما زادت معرفته زاد قضاؤه فيما حوله، وتمكن من تسخير ما أتاه الله من نعم لفائدة هذا الكون.

ومن هنا نفهم أن الأخلاق هي المحور الرئيسي في الإسلام، والتزامها يمثل تقوى الإسلام، وفيها قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران 102)، فلا أنصاف حلول، فلا يمكنك أن تغش قليلاً، أو تقتل لأنك لم تستطع ردع نفسك، والإسلام دين ليس كما صوره السادة الفقهاء أركانه الخمسة لا تحوي أخلاق بينها، إذ يكفي برأيهم أن تقرأ دعاء معين سبعين مرة ليغفر الله لك غشك في الميزان، وأن تقيم الصلاة النارية مرة في العام ليغفر لك سرقة أبناء أخيك، ولذلك كنا نجد المساجد عامرة بالمصلين لكن الأخلاق معدومة في المجتمع.

ورغم كون الشعائر على قدر كبير من الأهمية، إلا أن الخلط الحاصل هو بين أركان الإسلام وأركان الإيمان، فأطروحة "بني الإسلام على خمس" هي أطروحة خاطئة، والصحيح هو "بني الإيمان على خمس"، فالإسلام عالمي، والإيمان خاص، قد يكون بموسى أو عيسى أو محمد، والإسلام شامل، أركانه الإيمان بالله واليوم الآخر مضافاً له العمل الصالح، أما أركان الإيمان فإن كنا نتبع عيسى فعلينا أداء الصلاة على طريقته، والصوم على طريقته، وإن كنا نتبع محمد صلى الله عليه وسلم فعلينا أداء خمس صلوات في اليوم وصيام رمضان وإيتاء الزكاة وحج البيت وفق ما فعل محمد، آخذين بالاعتبار أن {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة 286)، أي {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن 16).

 

واليوم والشعب السوري يعاني ما يعانيه في الداخل والخارج، علينا أن نعود لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة 21)، ونلتزم صراط الله مستقيماً، فنحن في أحوج الأوقات إليه، لا سيما والعالم يتربص بنا من كل حدب وصوب، حتى أصبح السوري المتهم الأول لأي سرقة تحدث في آخر بقعة من الأرض، لذلك علينا التحلي بالأخلاق الحسنة، والعمل على بناء إنسان حر يعرف الله ويستعين به، مسلم مؤمن، يعامل الناس باعتبارهم إخوته في الإنسانية وشركاءه على هذه الأرض.

 

التعليقات

حديث في الصميم الدين المعاملة

جزاك الله خيرا ماحوجنا الي تجديد مفاهيمنا في التدين

علِّق