نشرت في .July 02, 2015

نستأنف هنا ما نشرناه في الحلقات السابقة عبر موقع السوري الجديد ضمن سلسلة " 700 آية وحديث لا يصحّ العمل بظاهرها"، ويستعرض الدكتور حبش في هذه المجموعة 5 نصوص جديدة

 

جرت العادة أن يكون عنوان كهذا من وضع العلمانيين، ولكنها في الواقع لغة الفقه الإسلامي العميق، وعباراته الدقيقة التي كان يمارسها الفقهاء في العصر الإسلامي الذهبي، إنها نصوص صحيحة السند مروية بالتواتر في القرآن أو في السنة الكريمة، ولكنها لا تحمل معنى الخلود وحتمية التطبيق في كل زمان ومكان.

 

45- بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالِدُونَ

ظاهر الآية أن مرتكب الكبيرة خالد في النار، فمن كسب سيئة ولم يتب منها وأحاطت به الخطيئة فهو خالد في النار بدون نهاية، كما دلت هذه الآية وآيات كثيرة منها آية النساء أيضاً ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه.

لقد ذهبت الإباضية وهي مذهب إسلامي كريم إلى التزام ظاهر النص، وقالوا بأن من يرتكب الكبيرة فهو خالد في النار لا يخرج منها إلى أبد الآبدين كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.

ولكن جمهور الفقهاء والعلماء رفضوا هذا الإطلاق ولو دل له ظاهر الكتاب العزيز، ونص الفقهاء على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار استدلالاً بآيات أخرى منها الاستثناء في سورة هود في قوله تعالى إلا ما شاء ربك، وحديث البخاري وفيه: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وقول النبي الكريم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.

 

46- إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّف بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ

ظاهر الآية أن الصفا والمروة من الشعائر التي يجوز الطواف بها، ولا إثم ولا حرج على الحجاج أن يتركوها، وهذا الظاهر هو ما فهمه صحابة كثير، حتى إن فقيها كبيرا من التابعين هو عروة بن الزبير، سأل في ذلك عائشة حيث تقتضي البداهة أن لا حرج على من لم يطف بالصفا والمروة وأنه ليس ركناً ولا واجباً فأجابت عائشة: بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي ، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا}، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.

وهكذا فظاهر الآية ليس فيه إيجاب السعي بين الصفا والمروة ولكن الفقهاء متفقون أنه واجب، لا يتم الحج إلا به، أو بكفارة عنه، وهذا كله خلاف ظاهر الآية، وتبين كما تقول عائشة إن النص نزل بهذه الصيغة التخييرية بسبب الظروف المحيطة حيث كان هذا النسك مرتبطا بشعائر الجاهلية.

 

47- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد والعبد والأنثى بالأنثى

ظاهر هذه الآية أن القصاص المطلوب إنما يكون في تماثل الجنس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وواضح أنه لا قصاص للحر قتل عبداً ولا للرجل قتل امرأة ولا للأنثى قتلت رجلاً.

ولكن هذا الظاهر لا يستقيم مع قيم العدالة، ولا مع قيم الإسلام الذي قرر أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وأن المرأة والرجل كلهما روح إنسانية كاملة، ولا فرق بين قتل الرجل وقتل المرأة، وأن الحر والعبد بشر يسستوون أمام الله، وأن بلال بن رباح العبد أقرب إلى الله من ذؤابة بني هاشم إذا لم يلتزموا أمر الله ونهيه.

وهنا أجمع الفقهاء على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل والعبد بالحر والحر بالعبد ونقل القاضي ابن العربي الإجماع على ذلك في الرجل والمرأة، والخلاف في أمر الحر والعبد، وذلك لدرء الحد بالشبهة.

وفضل سائر الفقهاء أن يأخذوا بعموم آية المائدة الواردة في أهل الكتاب من شرع من قبلنا: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، على ظاهر آية البقرة هذه في التفريق بين الذكر والأنثى في القصاص.

ومع ذلك ظل فقهاء كثير يلتزمون ظاهر النص دون مضمونه: ونقل الشنقيطي في أضواء البيان هذا الرأي في رواية الشعبي عن جماعة منهم علي، والحسن، وعثمان البتي، وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها.

ولا شك ان بقاء هذا التمييز في القصاص فضيحة لا يجوز السكوت عليها، وقد سبق القرطبي إلى إنكار ذلك ونفى لقاء الشعبي بعلي ونفى بالتالي هذه  الرواية.

 

48-  كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين متاعا بالمعروف حقا على المتقين.

في الآية بيان واضح وصريح بأن الوصية تكون للوالدين والأقربين، حيث يصح لصاحب المال أن يوصي لأبويه أو أن يخص ولداً من أولاده بالوصية أو من قرابته.

 

ولكن هذا يؤدي إلى تعطيل نظام الإرث كله، وهذا يتناقض مع أهداف الشرع الحكيم في توزيع عادل لأنصباء الميراث، وبالتالي يخلق حزازات وعداوات لا تنتهي بين الأولاد، ومن جانب آخر قد يحمل كثيرا من الأولاد على التغرير بآبائهم ليكتبوا لهم الوصايا التي تحتكر لهم ميراث إخوتهم وأخواتهم في غياب الوارثين.

 

كل هذه الحقائق كانت وراء إلغاء حكم هذه الآية، وقد اعتبرها الفقهاء منسوخة بحديث النبي الكريم: لا وصية لوارث، وهنا لا يحل للرجل أن يوصي لوالديه أو قرابته الوارثين خلافاً لما نصت عليه الآية الكريمة.

جزم الفقهاء جميعاً بأن الآية منسوخة وذهب الجمهور إلى أن النسخ جرى بالحديث الشريف لا وصية لوارث، فيما قال الشافعي بل النسخ جرى بآية المواريث التي أعطت كل ذي حق حقه.

 

49- وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين

واضح من هذه الآية أن الصوم اختياري فمن شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً ولم يصم.

وهذا الفهم هو الظاهر المطابق للآية وهو ما فهمه جماعة من الصحابة والتابعين، ومنهم عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة، كما نقله عنهم الجصاص في قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال: كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا.

واعتبر هؤلاء الصحابة أن الآية نسخت بقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، فاعتبرت الآية منسوخة ولا يحل العمل بظاهرها مع أننا نقرؤها ونرتلها كل يوم.

 

50- وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر

ظاهر الآية أن ضابط الإمساك هو تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقد قيل إنها نزلت أولاً بدون كلمة الفجر، ووقعت مواقف مضحكة لبعض الناس، قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فضحك النبي الكريم من ذلك وقال لعدي: إنك لعريض القفا، ونزلت: من الفجر.

والحقيقة أن العالم الإسلامي كله لا يضبط ميقات الفجر بالخيط الأبيض والأسود، بل يعتمد طلوع الفجر الصادق، وبناء عليه فقط تكتب مواقيت الصلاة، وتعتمدها سائر الدول، وذلك لأن الاستدلال بالخيطين غير منضبط، وليس في القرآن بيان شرطه وضبطه، وإنما هو طريقة لمساعدة الناس قبل أن يكون لديهم هذه الأزياج والمراصد والتقنيات.

 

وبعد...... فهذه الأمثلة المتتابعة التي استقر عليها عمل الفقهاء المسلمين في سائر بلدان العالم الإسلامي، وهي حتى الآن خمسون نصاً من أصل سبعمائة سنأتي على تفصيلها واحداً واحداً، وهي تؤكد لنا أن النص الديني نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأنه على عظيم مكانه ومتنزله وقدسيته هو نص عربي قد يطرأ عليه النسخ والتبديل والتحصيص والتقييد والتأويل عن الظاهر والتشابه الموجب لوقف العمل بما نص عليه.

إنها تجارب من نور نقرؤها ونرتلها ونعلم أنها كلام الله، ولكننا نتبع هدي الفقهاء الراسخين في العلم الذين رأوا بوضوح أن النص فيها مصروف عن ظاهره، أو بتعبيرهم عام مخصوص، أو أنه تم صرفه عن ظاهره في سياق تطور الحياة وهو ما يعبر عنه الأصوليون بعبارة: عام طرأ عليه الخصوص، والأمر نفسه في المطلق الذي أريد به التقييد أو المطلق الذي طرأ عليه التقييد، وقد فصل السيوطي في الاتقان والزركشي في البيان والزرقاني في مناهل العرفان هذه القاعدة النفيسة فليرجع إليها من أراد التوسع، وفي كل الأحوال فالمآل في هذا إلى ما قرره الإمام الطوفي الحنبلي بوضوح، وهو أن مصالح الأمة المعتبرة أولى بالاعتبار من ظاهر النص.

لن تغير هذه الحقائق شيئاً في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وسيبقى مكان القرآن في الترتيل والتعبد واستخلاص العبر والحكم، والاهتداء بالتجربة مستمراً إلى قيام الساعة، ولكن المطلوب هو الانتقال من العبارة الإنشائية الخطابية إلى عبارات أهل الفقه والعلم والبصيرة: العمل بالتأويل، والحكم بخلاف الظاهر، وظاهر النص غير مراد، عام مخصوص، عام أريد به الخصوص، ظاهره مؤول، مطلق طرأ عليه القيد، والنص صحيح وليس عليه العمل، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وحيث كانت مصلحة الأمة فثم شرع الله،  ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.

إن الأمثلة التي قدمناها لا يمكن لعاقل أن ينازع فيها، وعلينا أن نختار بين عبادة النص والإصرار على التمسك بكل معنى فيه، والكفر بالزمان والمكان والظروف والأحوال التي جاء فيها.

وبالتالي فإنه يجب عقلاً أن نختار واحداً من منهجين اثنين:

الأول: ما تطالبنا به حركات الإسلام الثوري الأصولي وعلى رأسها الخلافة في الموصل والنصرة في الشام، وهي تبدو إلى إعمال ظاهر اللفظ، ورفض كل تأويل يخرج النص عن ظاهره، واعتبار الأمة الإسلامية متآمرة على الإسلام وملحدة بآيات الله البينات.

الثاني: اختيار منهج الفقهاء الراسخين خلال التاريخ من مختلف المذاهب والفرق وخاصة الحنفية والمالكية، الذين قرروا الاستحسان والاستصلاح، ومثلهم عدد من فقهاء الشافعية والحنابلة أيضا الذين تأولوا الظاهر بالنسخ والتقييد والتحصيص، وجزموا بأن النص نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأن علينا أن نهتدي بنور القرآن ومقاصده الكبرى، وأن هذه المقاصد هي ما يحقق مصالح الأمة الحقيقية المتبدلة المتغيرة بين بلد وآخر وعصر وآخر، وهو بالنتيجة فحوى كلمة الإمام ابن القيم: حيثما كانت مصلحة الأمة فثم شرع الله.

 

علِّق