نشرت في .September 03, 2015

 

* د.طارق أبو غزالة

 

الزمان: منذ أكثر من عقد مضى

المكان: من علو أكثر من ثلاثين ألف قدم على كرسي الطائرة في رحلة داخلية في أمريكا.

اتخذت مكاني على مقعد الطائرة، ولم يكن من عادتي التكلم مع من يجلس إلى جانبي، فأنا اتخذ وقت السفر فرصة للنوم أعوّض به ما نقصني منه بحكم عملي المرهق كطبيب.
لكن هذه المرة وعلى غير العادة بدأت بالحديث، إلى حين داهمني زميلي المسافر بالسؤال عن أصلي، وهو سؤال اعتيادي في هذا البلد الذي يضمّ مواطنين تعود أصولهم إلى كافة أرجاء الكوكب.
أجبته: أنا من سوريا.
وإذ به يقول: لديكم مشكلة مذهبية كبيرة هناك في الشرق الأوسط بين السنة والشيعة، ولكنها ليست مشكلة دون حل. صحيح أن الحل صعب لكنه ليس مستحيلاً.
ورغم أنني لم أكن من المتبحرين في الخلاف المذهبي السني الشيعي إلا أنه أثار فضولي فسألته: وما هو الحل؟
قال لي وهو يمد يده إلي ببطاقة العمل الخاصة به: اسمي فلان وأعمل في المكان الفلاني في واشنطن. والمنظمة التي أعمل بها مختصة في رأب الصدع بين المتخاصمين خصومة تاريخية شديدة.
ثم استطرد: أنا الآن في طريقي إلى واشنطن ومن هناك إلى إفريقيا في محاولة لرأب الصدع الذي حصل بعد المذابح التي ذبح فيها المتطرفون من قبيلة الهوتو أبناء قبيلة التوتسي والمعتدلين من قبيلة الهوتو في المجزرة الشهيرة التي استمرت قرابة المئة يوم، وراح ضحيتها حوالي ثمانمائة ألف إنسان!
بدا الاندهاش عليَّ واضحاً، ولاحظ محدثي ذلك، فتابع كلامه يشرح ما استغلق عليّ فهمه، إذ كيف يمكن رأب صدعٍ حصد كل هذه الأرواح؟
قال: أعلم أن فهم ذلك شبه مستحيل، ولكنك لست وحدك حين تستغرب ذلك.
قلت:  ماذا تفعل منظمتكم بالضبط كي تحل إشكالا بهذا الحجم؟
هنا التفت إلي بكليته قائلاً: حين تكون المشاكل بهذا الحجم فلا مناص من العودة إلى جذور الخلاف وعدم القفز فوقها. بل وضع كل هذه الجذور على الطاولة وتحت الضوء ثم مناقشتها مسألة مسألة، وعدم القفز على أي مسألة من المسائل قبل الانتهاء منها. من دون ذلك لا تحل خلافات بهذا الحجم.

وتابع كلامه معي متمماً شرحه: نحن الآن بصدد معالجة هذه المسائل بين الهوتو والتوتسي بعد أن حددنا ما هي جذور الخلاف ووضعناها على الطاولة للمناقشة.
هنا سألته كعادة معظم السوريين في التحدي وإثبات خطأ الطرف الآخر: هل لديكم أية حالة استطعتم فيها حل خلافات تاريخية بهذا الحجم؟
وكأنما توقع سؤالي فابتسم وتابع: سأعطيك مثالا رغم أنه قد لا يكون مقنعاً لك؛ هل تذكر عندما زار البابا يوحنا بولس الثاني إسرائيل في شهر مارس عام ٢٠٠٠؟
هل تظن أن زيارة كهذه مع ما صدر قبلها من إعلان من الفاتيكان عن عدم مسؤولية اليهود عن قتل المسيح، تحصل هكذا بين عشية وضحاها ومن دون إعداد طويل لها؟
ثم استطرد : أعلم أنك ستظن أن ما حصل يدخل في سياق نظرية المؤامرة لكن دعني أذكرك أن الكنيسة الكاثوليكية اضطهدت اليهود والمسلمين معا في الأندلس وعذبت أتباع الديانتين في محاكم التفتيش، كما أن الكنيسة أيضاً ساندت النازيين في المحرقة اليهودية أي أن العداوة بين الطرفين حقيقية، ولا يسهل تفسير تجاوزها بنظرية المؤامرة، فأتباع الديانة الكاثوليكية أكثر من مليار إنسان ولا يعقل أنهم جميعا متآمرون ضد تاريخهم.
تابعنا الحديث وأطلعني على بعض التكتيكات التي يتبعونها في نطاق عملهم في التقريب بين الخصوم:
من المهم حين محاولة العمل على رأب الصدع أن لا نشعر اننا تحت ضغط زماني لإنجاز مصالحة تاريخية، فالقضية ليست لتحصيل مكاسب سياسية، لكنها فعلا لمحاولة أن يرى كل طرف وجهة نظر الطرف المقابل، ويضع نفسه مكانه، ومن ثمَّ يفهم لماذا يفكر خصمه بهذا الشكل. من دون تحقيق ذلك فلن يستطيع أي من الطرفين تجاوز الخصومة.
تابع: قد يحتاج الأمر اعتذاراً من طرف لطرف من دون تحميل أتباع الطرف المعتذر أية تبعات قضائية أو مالية، لأنهم ليسوا مسؤولين عما ارتكب أجدادهم من أخطاء بحق الطرف الآخر في الماضي.

بدأ الطيار بالإعلان عن قرب الوصول لواشنطن طالباً من الركاب ربط أحزمتهم.
عند ذاك عاد محدثي إلى الوضعية السويّة في الجلوس وقال لي وهو يربط حزامه:
المشكلة ليست في الأشخاص الذين اختلفوا فيما مضى. المشكلة في الذين يعيشون اليوم ويقتاتون على بقاء الوضع على حالته الراهنة. هؤلاء هم العقبة الحقيقية. 

ما لبثت الطائرة أن حطت عجلاتها على المدرج معلنة أننا وصلنا إلى واشنطن. غادرنا الطائرة معاً وانطلق محدثي للحاق بطائرته الثانية التي ستقله باتجاه إفريقية عبر أوروبا. ودعته متمنيّا له التوفيق في مهمته الشاقة.
صافحني قائلاً: تعرف أين تجدني إن احتجت إلي يوماً لحل مشكلة السنة والشيعة. لا تتردد بالاتصال.
ثم حث خطاه مسرعاً وما لبث أن اختفى بين جموع المارين عبر أزقة المطار الداخلية.
مشيت متثاقل الخطى، وقد امتلأ رأسي بكلماته وأنا غير مصدق أن هناك حلاً لمشاكل تاريخية بهذا الحجم، ثم طردت هذه الأفكار من رأسي فنحن ليس بيننا مشاكل بهذا الحجم، ولن يأتي علينا يوم يذبح فيه شعب سني ويشرد بهذا الشكل، فمشكلتنا فكرية مذهبية بحتة يمكن حلها بمناظرة تلفزيونية أو بندوة تقريب بين المذاهب ودون إراقة دماء.
واليوم وبعد مرور كل هذه السنوات لا يمر عليّ فترة من الوقت دون تذكر هذا الشخص وعمله على حل المشاكل التاريخية العويصة.
يبقى السؤال نفسه يقفز أمامي بين الفينة والأخرى: هل فعلاً يمكن للسنة والشيعة أن يتجاوزوا ما حصل قبل أربعة عشر قرناً؟


المشكلة أنني أحاول أن أجده فعلاً لكنني أضعت بطاقة العمل الخاصة بصاحبي في السفر.

علِّق