عدد القراءات: 6278

ماهي العلمانية ؟

ربما لا تعرفون الكاتب البريطاني "جورج هوليويك". أغلبنا لا يعرفه، حتى أنا لم أكن أعرفه. لكنه مع ذلك يشكل كابوساً للكثيرين الذين لا يعرفونه. كان هوليويك قد اخترع منذ 160 سنة مصطلح "العلمانية"، ومنذ ذلك الوقت ما زلنا نتجادل حول ما اقترفته يداه، وراح البعض يهرب من تلك الكلمة إلى ما هو أخف وقعاً على الجمهور: "المدنية"، "دولة القانون"، "دولة الحريات"... إلخ. كان هوليويك يأمل ألا يساء فهمه حين يطرح هذه الفكرة، كتب في العام 1851 قائلاً: "العلمانية ليست ضد المسيحية، إن المسيحية أحد أركانها، لكن العلمانية تفسح المجال للبقية جميعهم. إن المعرفة العلمانية بوضوح هي المعرفة التي توجد في هذه الحياة، وترتبط بممارسة هذه الحياة، وتسخر للرفاه في هذه الحياة، ويمكن اختبارها في تجارب هذا الحياة". وبعد ذلك بعقود، انتشرت هذه الفكرة إلى الوطن العربي، حين وضع بطرس البستاني معجمه "محيط المحيط" في نهاية القرن التاسع عشر، وثبت الكلمة على أنها "علمانية" في وجه من يترجمونها على أنها "لادينية". وكتب أن اللادينية قد تحمل معنى مضاداً للدين أو مناقضاً له، أما العلمانية فهي ليست كذلك. كانت فكرة العلمانية قد بدأت قبل وضع اسمها بكثير، وحين انطلقت الدعوة إليها في نهاية القرن السابع عشر بدأت من حركة في أنحاء أوروبا سميت "عصر التنوير" مهدت لنهاية القرون الوسطى، وانطلقت من أفكار عدة كتاب ومفكرين في ألمانيا وفرنسا وانكلترا وإيطاليا واليونان وهولندا وبروسيا في آن واحد مثل نيوتن وكانط وديكارت وبيكون وسبينوزا وجون لوك، كانوا جميعهم يرون أن العلم يجب أن يسود على التقاليد، وأن المنهج العلمي يجب أن يبحث في مشاكل الحياة بغض النظر عن الإيمان الفردي، كما كانوا يرون أن على السياسيين اتخاذ قراراتهم لغايات سياسية تهتم برفاه الشعب ومصلحته الحالية، لا لأسباب دينية أو تقليدية. انتشرت فكرة عصر التنوير بسرعة في جميع أنحاء أوروبا وولايات أمريكية عديدة، وأصبحت جميع الأفكار المتصلة بالمجتمع والحياة والسياسة عرضة لإعادة التفكير وفق المنهج العلمي: هل نحتاج ذلك حقا؟ ولماذا؟ وعلى أي أساس؟ في الواقع، كانت الفكرة الأساسية التي تتناولها العلمانية متمثلة في فصل الدين عن الكنيسة، وبهذا يمكن أن تفهم على أنها "لادينية"، لكنها لادينية خاصة بالدولة... بمعنى أن الدولة هي مجموعة من المؤسسات تعمل وفق قوانينها الخاصة، وليس لها أي دين، وتقف على مسافة متساوية من جميع المواطنين على اختلاف أديانهم.، والمواطنون بالنسبة لها أفراد فقط، ولا يعنيها أن يكونوا مسلمين أو هندوساً أو بوذيين. ويدعي المفكرون العلمانيون أن الدولة ليست علمانية طالما هي تسجل دين الفرد في وثائقه الشخصية (ما علاقة الدولة بالإله الذي تعبده؟)، لذلك فسوريا ما تزال غير علمانية تماماً، وتركيا أيضاً، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية ليست علمانية تماماً كذلك، إذ ما تزال تمنح تأشيرات دخول "دينية". انتشرت العلمانية بسرعة أكبر في المجتمعات التي تتضمن تنوعاً دينياً وعرقياً وإثنياً كبيراً، إذ أنها وجدت في ذلك حلاً للنزاعات الجزئية بين مكوناتها. وتراكمت آراء كثيرين مثل سبينوزا وهيوم وماكس ويبر، لتضع بعض المعايير التي تعتبر أن المجتمع "العلماني" هو المجتمع الذي: يرفض الالتفاف حول رأي واحد بشأن الطبيعة أو الكون أو دور الإنسان فيه. لا يشكل مجتمعاً متجانساً، بل تعددياً. يتميز بالتسامح، ويسمح بحرية اتخاذ القرارات الشخصية. يعتمد في حل مشاكله المجتمعية على المنطق والمنهج العلمي، أي عبر معاينة الحقائق والتجارب واستخلاص الحل الأمثل لها في ضوء أهداف المجتمع، وبهذا فإن القوانين لا بد أن تكون وضعية، ودائمة النقد والتجريح والتعديل وفق المصلحة. لا يتضمن معياراً واحداً جامعاً للكل، لكنه قد يستقي من أي أفكار أو توجهات مفيدة لرفاه المجتمع، حتى وإن كان مصدرها دينياً، لكنه يعرضها على المنطق العلمي. الدولة العلمانية إذا هي دولة لا يمكن أن تكون فيها وزارة الاقتصاد مسيحية، ولا وزارة التعليم إسلامية، ولا وزارة الاتصالات هندوسية، ولا وزارة العدل بوذية... لا تقوم الدولة بفرض فكر ديني على أحد، ولا تقوم بمحاربة فكر ديني لأحد... ولا تقوم بتعليم الأديان في مدارسها وجامعاتها، لكنها تسمح للمجتمع أن يمارس شعائره الدينية ويفتتح مدارسه الدينية المستقلة، دون أن يورط الدولة في هذا الأمر. هل العلمانية مهمة للمجتمع؟ قد لا تكون مهمة إذا كان المجتمع كله مكوناً من أفراد متطابقين، أي ليسوا من دين واحد فقط، بل يتفقون على جميع تفاصيل هذا الدين، ويجدون أن الحكم باسم هذا الدين متفق مع أفكارهم في كل صغيرة وكبيرة. ويبدو من الواضح أن مجتمعاً كهذا لم ولن يوجد على الإطلاق، وأن المجتمع كلما ازداد تنوعاً واختلافاً، بات بحاجة إلى المزيد من المساواة بين أفراده وتوجهاته، والمزيد من فصل الدولة عن أي سلطة دينية، لا السلطة المسيحية أو الإسلامية أو اليهودية وحسب، بل حتى سلطة القبائل والعشائر والحكم العسكري وقوانين الطوارئ.

التعليقات

شكرا للكاتب على هذا المقال و لكن أعتقد أن حتى المجتمعات المتجانسة دينيا تحتاج للعلمانية طريقة في إدارة الدولة و في طبيعة الحكم .. العلمانية ليست ضرورة فقط للمجتمعات المتنوعة .. إذ أن العلمانية ليست لوضع خط وسط بيتن المختلفين بل أيضا للأخذ بالمعايير الحديثة في إدارة الدولة و ليست المعايير الدينية الخاضعة للمزاج و درجة التدين و الإيمان الداخلي الذي لا علاقة له بالواقع ..

علِّق

مقالات الكاتب