نشرت في .June 28, 2016

كلما سمعت عن تصور جديد لشكل الحل السياسي في سوريا، ينتابني شعورٌ بالإحباط لكثرة التصورات المطروحة والتي في معظمها لا تناسب إلا السياسيين الذين صاغوها فقط وليس الشعب السوري. المشكلة المشتركة بين معظمها أنها تراعي المصالح الدولية أولاً والإقليمية ثانياً وتنسى أو تتناسى عن قصد أهمية مراعاة المصالح المحلية للسوريين الذين فجروا ثورة هي في الأساس تطالب بتغيير سياسي كامل للنظام الحاكم.

ما قدمته معظم هذه الرؤى والتصورات لا يوجِد حلاً للمشاكل السياسية التي أدت إلى تولد هذا الانفجار الشعبي وبالتالي لن يتناسب شكل الحل هذا مع معظم السوريين الساخطين على تدهور أوضاعهم يومياً في تعقيدات ما يسمى العملية التفاوضية التي لم تعد تعني لهم الكثير بسبب غياب مطالبهم الأساسية عن أولوياتها. ببساطة ما يهم المواطن على المستوى المحلي لا يبدو أنه يتقاطع مع المصالح الدولية والإقليمية في سوريا أبداً.

 

سيجادل البعض بأن الحل الآن أصبح بين يدي الروس والأمريكان ومن غير الممكن أن تفرض عليهم سياسات متعارضة مع مصالحهم. الرد هو أن التدخل الروسي والأمريكي أصبح مع الوقت سبباً لاستمرار الحرب وامتدادها كل هذه الفترة، بالتالي هم أيضاً (مع الدول الإقليمية) متورطون في النزاع بشكل مباشر ولن يجدوا حلاً مرضياً للجميع لوحدهم. كما أنني أنتقد إغفال الرؤية المحلية المدنية لشكل الحل والتي يجب في النهاية أن تفرض نفسها كأكبر مصلحة مشتركة لجميع الأطراف الخارجية التي أخفقت ولازالت في إيجاد هذا الحل.

آخرون سيجادلون أيضاً بأن السوريين منقسمون على أنفسهم ولا يمكن معرفة رأي الأغلبية منهم، وهذا صحيح، إلا أن اللاعب الأهم الذي قد يحدد فعلاً توجه معظم السوريين بعيداً عن السياسيين المتناطحين هو المجتمع المدني السوري والذي أصبح واضحاً أهمية الدور الذي يلعبه والشعبية التي يتمتع بها. كما أنه في معظمه غير منحاز لوجهة نظر متطرفة ويخضع لدرجة جيدة من الرقابة من قبل فئات كبيرة من الشعب السوري لأن سمعته هي الوسيلة الوحيدة لاستمراره. وسأفصل أكثر أهمية هذا الدور الأشبه بالبوصلة الوحيدة الأقرب للصواب والتي قد ترشدنا في النهاية إلى الحل العادل والدائم كما تراه النخب المدنية السورية.

 

لنفهم أهمية هذه البوصلة هنا علينا العودة دائماً لأسباب انطلاق الثورة والتي أطلقها نشطاء المجتمع المدني قبل أن تتعسكر لتصبح ارتداداتها حرباً دامية لا تزال مستعرة حتى اليوم. ولن أدخل في المتشابه هنا وسأتحدث فقط عن الجلي والواضح الذي خضع لأكثر من خمس سنوات من النقد والتنقيح المستمر من قبل الجميع. من الواضح أن هذه الثورة لم تنطلق بسبب الجوع أو الفقر (رغم أن الفقر لعب دوراً مهماً في عسكرتها إلا أنه لم يكن ليفجر ثورة). لم تنفجر الثورة بسبب تدخل خارجي (رغم أن هذا التدخل أتى عاجلاً وتسبب أيضاً في عسكرتها إلا أنه لم يكن أيضاً ليفجرها). الثورة السورية في جوهرها هي ثورة ضد العبودية وضد الاستبداد لنظام حكم خمسين سنة بالحديد والنار. هي ثورة الغالبية الساحقة من السوريين ضد ممارسات حكومتهم الفاشية والتي سلبتهم كل حقوقهم الإنسانية ما عدا حق الأكل والنوم والتغوط (حتى هذه الحقوق سلبت بعد ذلك من خلال سياسات الحصار والتجويع). الثورة السورية هي ارتداد طبيعي وعفوي ومنطقي وذكي لقمع وبطش النظام وهي الشكل الأقصى للتعبير عن رفض النظام السوري تلبية المطالب المشروعة لنخبة المجتمع المدني من قبل نخبة النظام الحاكم تكريساً لسياسة الاستعباد. الثورة السورية في عمقها الإقليمي العربي وعمقها الشامي هي أيضاً انتفاضة تكرس فيها الغضب العارم للشعوب من سياسات الحكومات المستبدة والدكتاتوريات التي قد تكون اختلفت في التبعية الايديولوجية ولكنها لم تختلف يوماً على ممارسة الإرهاب ضد شعوبها. إذاً إن النتيجة هي أن الثورة السورية رغم عفويتها إلا أن عنفوانها (وليس عنفها) مستمد من دفاعها المستميت عن الحقوق المدنية.

بالعودة لشكل الحل المحلي إذاً ولتبسيط الأمور أكثر فإن على هذا الحل السياسي أن يراعي شكل الدستور الذي سيجتمع عليه السوريون وجوهره الحقوق المدنية  والواجبات الدستورية التي ستنهي حقبة العبودية للأبد. لن يقبل السوري بعد اليوم أن يعيش مع جلاديه وهو يعلم أنهم يستطيعون جلده مرة ثانية لو أرادوا ذلك. لن يقبل السوري بعد اليوم بأن يذهب لفرع مخابرات وهو يشك بأنه قد لا يعود لعائلته قبل ٣٠ سنة. لن يقبل السوري بعد اليوم أن تقصفه حكومته بالبراميل والسلاح الكيماوي والتجويع فقط لأنه يعارضها.

 

أخيراً، سيجادل البعض هنا بأن هذه الحقوق تضمنها عدة بيانات وتفاهمات صادرة بالأساس عن مجموعة الدعم الدولية لسوريا وقرارات صادرة عن مجلس الأمن. الحقيقة أن هذه البيانات والقرارات تبنت مصطلحات مثل "حكم ذو مصداقية" إلا أنها لم تلعب أي دور حقيقي في فرضه كأولوية على طاولة المفاوضات. لا زالت روسيا وأمريكا تحديداً تغلبان عملياً شعار "تأمين مصالحهما المشتركة" في المنطقة كمنطلق لهذا الحل السياسي وهذه المصالح لا تتقاطع كثيراً مع الحكم ذي المصداقية والدستور الذي يراه السوريون على أنه في المقام الأول ضامن لحقوقهم المدنية الأساسية على أقل تقدير. لا يجب أن نغفل أيضاً الرؤى المتضاربة تماماً لدول المنطقة والتي هي أيضاً تتعارض وبشدة مع الرؤية المحلية للحل في سوريا وأن يتم التعامل معها من المنطلق نفسه.

 

قد أكون أطلت كثيراً ورسمت صورة متشائمة عن فرص التوصل لحل برؤية محلية تتبانه جميع الأطراف ولكن الآلية المقترحة هنا هي اتخاذ المجتمع المدني كبوصلة لهذا الحل للأسباب التي فصلتها. كل البدائل الأخرى حتى لو نجحت في البداية ولكنها مهددة بعدم الاستقرار والانتكاس مجدداً متسببة في استمرار الحرب لأمد طويل وتفشي الإرهاب لحدود لا يمكن أبداً التنبؤ بها. لهذا السبب على الأطراف الدولية والإقليمية أن ترى أن أولى أولوياتها هي التوصل لحل محلي دائم طويل الأمد يضمن الانتقال نحو مجتمع مدني متعدد ومتساو في حقوقه وواجباته.

بكل بساطة على الجميع أن يعي أن هذا الحل يجب أن يناسب الشعب السوري وليس من صاغه من السياسيين!!!

 

* عدنان حداد: الرئيس التنفيذي للمجموعة الإعلامية السورية في ديسمبر ٢٠١ والتي تضم كلاً من إذاعة "حارة" و "لمبة للإنتاج الإعلامي"

 

علِّق