رياح عاصفة تقذف بالناس كالريش، فيضانات، ثم رافعة ضخمة تهبط فوق تجمع من المصلين فتقتل ما يزيد عن 100 بينهم أطفال ونساء، بقي بعضهم ينزف و يتأوه لحظات من الألم الرهيب قبل أن تصعد روحه للسماء ممزقة.
ضع هذا الفيديو أمام المسلمين وقل لهم إن المكان هو معبد، والضحايا من البوذيين، فيتسابقون للقول بأنه غضب من الله شديد، وانتقام ضد هؤلاء القوم و نصرة لعباده المسلمين الذي قتلوا على أيديهم، ويستدلون على ذلك بشواهد من القرآن والسنة:
(أرسلنا السماء عليهم مدراراً و جعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم و أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين)
( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
طبعا هذا هو ذات التبرير الذي سبق و ساقه أولئك أيضاً تعليقاً على أخبار وصور ضحايا الكوارث الطبيعية والبشرية حول العالم؛ من بركان ايطاليا إلى زلزال اليابان إلى التسونامي؛ في حالة الأخيرة -التسونامي- كان تبرير مقتل ألوف المسلمين في أندونسيا أنهم ابتعدوا عن ربهم وغرقوا بالملذات والمفسدات فاستحقوا ما نالهم.
الآن، قل لنفس تلك العينة من الناس، هذه الحادثة وقعت في قلب الحرم المكي وبجوار الكعبة، والضحايا حجيج مسلمون؛
في لحظة واحدة تنقلب المعادلة، و يتحول الانتقام إلى بُشرى يزفّونها للمسلمين، وترتفع صيحات التكبير، وتجود مخيلة رجال الدين والشعراء مادحة تدبير الله ورحمته بعباده، وانتقاءه من بينهم من اختاره لجوار أنبيائه، و ستسمع مقولة العامة الراسخة والتي يتناقلونها كحديث شريف (إن الله اذا أحب عبداً ابتلاه) وتجدهم يباركون لمن قتل سابحاً بدمائه، وربما قضى بين اولاده، وسينجحون غالباً بإقناع الاولاد المكلومين الذين رأوا أباهم كتلة من اللحم والعظام المحطمة بأن عليهم أن يسعدوا بعظيم محبة ربهم له، وأنه لم يبتليه بهكذا ميتة شنيعة إلا محبة به واصطفاءً له من بين خلائقه.
وأيضاً سيجد أولئك في النصوص ما يناسب مقام هذا الكلام:
ففي القرآن ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)
وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن النبي محمد (يُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه، فإن كان دِينُهُ صُلْبا اشتَدَّ بلاؤه...)
في حالتنا نحن السوريون نفعت هذه التبريرات كمخدرات فعالة لتفسير المصاب الجلل الذي يلمّ بنا؛ فالبراميل والصواريخ التي تسقط فوق رؤوس الآمنين هي ابتلاء من الله قيّضه على يد عبده بشار. وتأخرُ نصر من يصرخون منذ أربع سنين (مالنا غيرك يا الله) ضد قاتل كافر هدم الجوامع واستحلّ أعراض المسلمين، إنما هو لحكمة أرادها الله ولا نعلمها.
في مادة شهيرة كتبها الشيخ محمد راتب النابلسي في العام 2013 تحت عنوان (5 حقائق في فقه الابتلاء) واصفاً عذابات السوريين تلك " إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ، ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها"
ايمانياً سيقبل المسلمون مرحلياً هذا الكلام دون نقاش، لكن في مضمونه طويّة غير طيبة وغير انسانية ولا يمكن قبولها، فكيف سيقنع هذا المنطق امرأة ذبح جنود النظام زوجها، واغتصبوا ابنتها، وقطعوا ذكر طفلها، قبل أن يحرقوهم جميعاً أمام عينيها، ويبقوها حية لتعيش بقية عمرها كشاهدة لأقسى أنواع العذاب النفسي والجسدي؟
ما هذا الحب (القاتولي) الذي ابتليت به، ما الحكمة التي يراد لهذه المرأة أن تستنتجها من هذه المصيبة؟.
بل والأشد غرابة أنه ربما تقضي بقية حياتها دون أن تعلمها لأنه (لا يعلمها إلا هو)، تماماً كما عاشت أجيال من الفلسطينيين وماتت وما زالت بانتظار أن تعرف الحكمة من أن ينتصر اليهود قتلة الانبياء وخونة النبي على عباده المسلمين الموحدين الذين يحمون الأقصى (حيث طاف وصلى بالانبياء.)..!!
على أية حال هذا الموضوع ليس طارئاً على الفكر الاسلامي، بل هو مؤصل منذ عقود، وهو ما يقودنا إلى عنوانين رئيسيين في الفقه الاسلامي تم بهما تفسير كل مصائبنا وتجييرها إلى المجهول، بل وخطت بهما صحائف وكتب (انظر الكتب أدناه):
1- فقه الابتلاء
2- سنة التدافع
أما الأولى فتقول:
أن العبد المؤمن في هذه الحياة الدنيا لا يمكَّنُ حتى يبتلى، أي أنه لا ينال مراتب العلو في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يبتلى، قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ الأنعام: 165"
انظر الروابط:
- كتاب سنة الابتلاء (اضغط هنا)
- سنة الابتلاء تمحيص وتمكين (اضغط هنا)
و أما الثانية:
فقد تكلم فيها كل أحبار الأمة، قديمهم وجديدهم، وتتلخص أن كل ما يحلّ بالمؤمنين على أيدي أعدائهم إنما هي سنن ألهية مرسومة مسبقاً ولا يمكن زحزحتها، وتدخل ضمن الخلطة العجيبة لهذه الحياة، وأنه عز وجل قد يدفع بأعداء دينه ليهزم أبناء دينه جولة ضرورية ضمن المعركة الشاملة المستمرة ما بقيت الحياة، والتي سينتصر فيها المسلمون في النهاية، والتي لا نعلم متى سنشهدها، بل و ما معنى أن تشهدها ثلة قليلة على حافة الحياة الدنيا بعد أن ندفع لهم نحن من عذابتنا قرونا وقروناً من الألم..!!
انظر الروابط:
1- من سنن الله التدافع (اضغط هنا)
2- كتاب سنن التدافع (اضغط هنا)
3- سنة التدافع (اضغط هنا)
إن كل ما سبق من تفسيرات يضعك أمام ثلاثة خيارات، جميعها تسيء لله والدين:
1- الله عز وجل يختبرنا ويقوي إيماننا بتحطيمنا وقتلنا وإذلالنا: بطبيعة الحال يطيب للمتدينين وصف الأمر على أنه تربية واصلاح وتهذيب للمسلمين، كأن تضع ولدك أمام مواقف صعبة كي تقوى شأوته، لكن التوصيف الحقيقي للموقف هنا هو أنك تقتله لتربي به اخوته، لا يوجد مدرسة فلسفية أو دينية على وجه البسيطة عرفت هذا المفهوم التربوي
2- إذا كنت مؤمنا يجب أن تكون غبيا: هناك حكمة ربانية لا تعرفها، ووربما لن تعيش لتعرفها، بل ولا يحق لك أن تسأل عنها، لكن يجب أن تؤمن بها ..!!
في هذه الحالة هناك من يريد أن يقنعنا أن كل مصائب وابتلاءات السوريين اليوم هي محبة وتطهير لأنفسنا من ذنوبنا، لكن ما يجري على ارض الواقع هو تطهير حقيقي لوجودنا.
3- نحن مسيّرون، و الله هو سبب نجاحنا وفشلنا: قبل فترة خرج الشيخ المحيسني- القيادي في جبهة النصرة زافاً النصر يقول:
"والله لم نفعل شيئا بإيدينا، ولم ننتصر بأسلحتنا، الله هو من نصرنا" هذه الجدلية السببية تستدعي المنطق العكسي الذي يقول أن الله عز وجل هو أيضاً سبب هزائم النصرة في معارك سابقة، وكذلك كل هزائم الكتائب الأخرى وما تبع ذلك من قتل ودمار (أراده الله)
الآن، لن يثير كل ما سبق لدى كثيرين أية تساؤلات جدلية، وسيتفرغون لشتمي واتهامي بالجحود بالله وربما الردة والكفر التي تستدعي اقامة الحد (الذي أمر به الله وليس نحن..!!)
لكن في الحقيقة، وعلى عكس ما يتوقع أولئك، فإن كل ما أحاول قوله هنا هو تنزيه المنزلة الإلهية عن أخطائنا وشرورنا، ونفي ما يرتكب باسم الله، وقد يبدو في الكلام أعلاه جرأة غير مستحبة وغير مستساغة، لكنها تبقى باعتقادي أكثر استساغة مما نحول لصقه بمقام الله عز وجل، والذي ثمة من يريد تحويله إلى متلذذ بدماء الناس ومتعطش للتنكيل بهم، ويستخدمهم فئراناً لتجاربه... حاشى لله أن يكون كذلك، و لو أننا نفهم الرسالة الربانية بحق لم تجرأنا على هذا الظن السيء.
إن السببية هي مفهوم فيزيائي بحت، وعز وجل أبدع كل شيء عندما خلق الفيزياء والرياضيات، وترك الامور لتتفاعل لوحدها، هذه هي سنن الله الحقيقية؛ الماء هو ذرتا هيدروجين وذرة اوكسجين ولا يخلق من لا شيء، ولا يستدرّ بالدعاء، ولا ينزل بمعجزة... لقد وضع لنا عز وجل عناوين عريضة، فأغرقنا أنفسنا وتورطنا بدوامة من التشريعات لا نستطيع الخروج منها، و ربطنا كل ما يحدث بأدق تفاصيل حياتنا بإرادته وسميناها (شريعة)، في واقعة تستدعي من جديد الخلاف المشهود حول هل الانسان مسيّر أو مخي؟.
لو أن الانسان مسيّر لما كان من داع لجنة ونار، ومكافئة وعقاب، فلا السارق سارق إلا بما خلقه الله في سريرته، ولا القاتل إلا بما دفعه الله لفعله بحسب منطق (سنن التدافع)، ولما كان من داع ليقول لنا في غير موضع (أفلا تعقلون)
ما يؤلم حقاً أنه مرت قرون وقرون، وأمم وأجيال من المسلمين، ولم يفكر أحد بهذه المسألة ويضع لها حداً، رغم كل ما كابدناه على إثرها من مصائب؛ أمر يجعلك تعتقد أن العقل المسلم على حافة الجنون، و هناك اتفاق عام ومستمر أن نبقى هناك.
لقد أوردت أعلاه آيات قرآنية قلت إنها تستخدم في مجمل ما انتقده وانفيه عن صفات الله، هذا في الحقيقة ليس تناقضاً، بقدر ما هو استدعاء لحالة تفسير القرآن الزماني والمكاني، وصحة فكرة صلاحه نصاً لكل زمان ومكان، وهذا مبحث آخر.
لقد قضيت جل طفولتي وشبابي في المساجد، وقرأت كل ما أشاهده اليوم على أيدي داعش وممتهني الدين، ولأنه يصعب الخروج بنتيجة صحيحة من هذه المعمة الموبوءة بالمفاسد والاخطاء المتراكمة، فقد وصلت إلى نتيجة واحدة من كلمة واحدة أعتقد أنها كفتني من كل الإسلام...الله عز وجل (عادل)، وكل ما ينفي أو يقلل أو يبخس عنه هذه الصفة فهو ليس منه في شيء.
عودة إلى المدخل الذي بدأت به:
صادفت حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي ذكرى أحداث 11 ايلول 2001، وكما سرّ كثير من المسلمين البارحة بمقتل ما يزيد عن مئة مسلم واعتبروا ذلك فضلاً من الله ومنة واصطفاءاً لمن قضى (فعساً)، أيضاً قبل 14 سنة حصل الشيء نفسه، وسرّ كثير من المسلمين وهم يرون أناساً من لحم ودم يقفزون من نوافذ البرجين قبل أن ينهارا ويقتلا 3000 انسان، وهي ليست مصادفة، أن يخرج بن لادن بعد الحادثة الاجرامية فيقول أن ما قام به هو (فضل من الله ومنة)... كلي أمل أن لا يأتي يوم ويقول فيه السوريون -المدافعون بأسنانهم عن النصرة- ذات الكلام على اعقاب جريمة أخرى سيرتكها أولئك القاعديون (لرفع راية الله…!!).
* إياد شربجي
* رئيس التحرير
التعليقات
لماذا
ولوين
ما يصيب المؤمن اما ابتﻻء او
شكلك زمان ما قرأت قرآن الله
الموضوع اننا فهمنا الدين
للعع
اعتقد ان مقصد الاستاذ هو ان
الفهم السقيم
سحبت كلامك
التفكير اللامنطقي
لم أفهم !!
السنن الالهية
هداك الله الى الحق اليقين
نحن امة رفعها الله بالاسلام
السم في الدسم
رد موجز
رغم أني لا أتفق مع معظم
فهم الواقع
الصفحات
علِّق