نشرت في .July 24, 2015


منذ أربعة أشهر دخلت  الثورة السورية عامها الخامس، وخلال السنوات الماضية قام النظام السوري باستخدام كل قدراته التدميرية في محاولات يائسة ما تزال مستمرة - متوسلا كل الإمكانات و الفرص - للبقاء على رأس السلطة في سوريا، دون الاهتمام و لو بالحد الأدنى بقيمة المواطن أو الإنسان السوري، فشرد الملايين في بلاد الله الواسعة " التي تؤكد الأحداث أنها تضيق عليهم في لبنان و مصر والبحر"، ودمر المدن و القرى و حرق الغابات و ما تركه لنا الأجداد من إرث، وبالطبع فإن الآلاف قتلوا تحت التعذيب، فضلا عن مئات الآلاف الذين اعتقلوا، أو مئات الآلاف الذين قتلوا بنيرانه و صواريخه و براميله المتفجرة.

منذ أشهر قليلة مرت علينا الذكرى السنوية الرابعة للمأساة السورية التي لم يكن في الحسبان أنها سوف تتصدر القائمة من حيث حجم الكارثة الإنسانية في الزمن الحالي و ربما عبر التاريخ.
كان  مرور هذه الذكرى احتفاليا مليئا بالرطانة الخطابية، كان علينا في تلك المناسبة وفي كل وقت أن ننزع السحر عن التعابير، ونجرد الحقيقة من البلاغة والإنشاء، كي لا يغيب عنا الواقع على حساب الحق و الحقيقة، ولابد من مواجهة النفس عند مراجعتها، ولا بد من الاعتراف بالأخطاء و تحمل المسؤوليات، ولابد أيضا من نزع القداسة و رداء الخوف و التخلص من لغة المجاملة من أجل الحيلولة دون استمرار هذه المقتلة المستمرة منذ أربع سنوات بحق شعبنا السوري.
باعتقادي إن أحد أهم الأخطاء القاتلة التي وقعت فيها الثورة أنها سلمت أمرها للمعارضة السياسية المهترئة و العجزة، و علينا أن نضع نصب أعيننا أن من أشعل هذه الثورة و كان وقودها هم الشباب السوري الوطني السلمي المنتفض لأجل حريته و كرامته و نهضة بلده سوريا، و تخليصها من قبضة الاستبداد المتمثل برأس النظام الحاكم، و هنا لن أضيع الوقت في كيل الاتهامات للنظام و تحميله المسؤولية الأساسية عما يحدث، إذ أن دوره الدموي أمرا بديهيا ولا يحتاج لنقاش، و لكن علينا الاعتراف بحق بأنه ليس وحده المسؤول عن هذه الكارثة بل تتحمل المعارضة السياسية بأطيافها جزء يسيرا من ذلك، و هنا قد يطول النقاش و قد لا ينتهي حول حجم المسؤولية التي تتحملها بعد النظام.
المعارضة السورية ممثلة بشخصيات أساسية فيها و بكياناتها المختلفة لاسيما المجلس الوطني و من ثم الإئتلاف، لم تتمكن من معرفة حدود قدرة "العدو"، و لم يكن لديهم رؤية واضحة لحجم الأوراق التي يمكن أن يلعب بها النظام أو المزالق التي يمكن أن يجر البلاد إليها،  و لم يكن لديهم أدنى تصور عن مساحة العنف التي يمكن أن يقود الشعب السوري إليها، و لم يكن لديهم ضوابط حتى ضمن الحدود الأخلاقية لإيقاعهم و لخطابهم و لوسائلهم و إمكانياتهم.
تصدر هؤلاء المعارضون المشهد السياسي، و في الخفاء كان جزء منهم يتصدر مشهد التسليح الذي كان ارتجاليا ولم يكن محسوبا، فزجوا بالناس في صراع مسلح غير متكافئ على الإطلاق، و باعوا الثائرين وهم السقوط القريب، لم يكن في حسابات المعارضة السورية أي خطة أو قراءة للواقع أو استقراء للمستقبل، لقد أعمتهم شهوة السلطة و إغراءاتها، فصاروا يتحينون الدخول إلى دمشق و لو كان ذلك على ظهر "الشيطان" أو الناتو الذي لن يأتي.
سارع جزء من المعارضين و من الكيانات المعارضة لتمويل مجموعات مسلحة و بنما لم يمدوهم بأدوات الحرب المطلوبة، تم تحويلهم إلى ميليشيات متحاربة حتى فيما بينها.
لا بد من مواجهة المعارضة التي لم تتمكن بعد نحو ثلاث سنوات مثلا من إدارة حتى معبر حدودي واحد يتعرض فيه السوريين حاليا و بشكل يومي لكل أنواع الذل و المهانة، و كل أنواع انتهاك حقوق الإنسان، هذه المعارضة التي تغنت يوما ما بداعش و اعتبرت أفرادها ثواراً، كما اعتبرت جبهة النصرة التي تصر على نهجها القاعدي جزءا من الثورة.
لاشك أن النظام السوري مجرم و يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية و لكن هل هذا يكفي، أو هل نكون بذلك قد أرضينا ضمائرنا؟
ليس خافيا على أحد المستوى الهزلي الذي وصلت إليه المعارضة في أدائها، مثل التقاتل على الكراسي و المناصب الوهمية  الذي وصل حدا عبثيا كوميديا ساخرا، و هذا وحده يؤكد طبيعة و بنية المعارضة السورية في انتهازيتها، و هذه الانتهازية ظهرت منذ الأيام الأولى في عملها لتزّعم  ثورة الشباب السوري و ادعاء تمثيل الشعب السوري و هي غير قادرة حتى على تمثيل نفسها، و من ثم أدخلت نفسها في سوق المزادات السياسي و جعلت نفسها عرضة للبيع بين دول إقليمية و يحاول أفرادها على الدوام أن يكسبوا رعاة جدد لمصالحهم و مكتسباتهم.
كان التسلح عفويا في عدة أماكن جراء العنف الذي مارسه النظام، ولكن ليست هنا الحكاية، بل تتمثل الحكاية في المجموعات المسلحة التي دعمها معارضون و دفعوها للموت دون أن يوفروا لها ما يكفي من مواد الإسعافات الأولية، أو ما يكفي من الذخيرة ليدافعوا من خلالها عن أنفسهم، و كأحد المراسلين الميدانيين شاهدت ذلك و عايشته مرات عدة على أرض الواقع.
و بالطبع هناك من المعارضين من رحب كثيرا بالقاعدة و أخواتها سرا و علانية دون حتى قراءة الواقع أو المستقبل أو حساب المتغيرات العسكرية، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، و لاشك أن دور الرواية عن الرعاية المخابراتية من قبل النظام لداعش و مثيلاتها يلعب دوره في العقل المتخيل و لكن الواقع ليس هنا فقط.
لم تتمكن المعارضة بعد نحو أربع سنوات من تكاثر مخيمات اللجوء من تحسين الخدمات المقدمة فيها، و تتفاجئ المعارضة في كل عام أن الشتاء في بلادنا قاس و أن الأمطار و الثلوج تحاصر اللاجئين و تسبب لهم الموت، لم تكن المعارضة قادرة حتى على حماية هؤلاء الناس أو أطفالهم و تم تركهم في مهب الريح و المرض و الأميّة مع بعض الصور التذكارية.
مع دخولنا في العام الخامس لانطلاق الثورة السورية لا يمكن أن ننسى أو نتناسى أو نصمت عن التقصير الذي هو بحجم جريمة من قبل المعارضة بحق شعبنا و لاجئينا و أطفالنا، ولا يمكن السكوت عن مأساة التعليم و حرمان الأطفال منه، كما لايمكن السكون عن جريمة انتظام عددا كبيرا من الأطفال في صفوف المقاتلين.
و لا يمكن التغاضي أيضا عن المبررات التي تسوقها المعارضة لرفع العتب أو التهرب من تحمل المسؤولية، إن الشكوى من قلة الأموال غير مقبولة، ادعاء معارضين بأن دورهم سياسي فقط هو عذر أقبح من ذنب، إذ أن من يعتبر نفسه ممثلا للشعب السوري عليه أن يتحمل كافة مسؤولياته تجاه هذا الشعب، و المبررات التي يسوقها بعض قادة هذه المعارضة بأنهم كانوا محرومون من العمل السياسي طيلة عقود و يفتقرون للخبرة الكافية هو اعتراف يدينهم، إذ طالما تعترف بنفسك بأنك دون خبرة سياسية كافية لماذا تتصدر المشهد؟ و لماذا تحتكر العمل و التمويل و المبادرة و الخطاب و المجال العام إضافة إلى قراري السلم و الحرب!!؟
إن تحزب المعارضة الأعمى لمصالحها جعلها تصاب بالصمم أيضا عن سماع الحقيقة و تبصرها، فأصيبت بداء المزايدة الثورية حتى على دماء الضحايا، و تطلب من الشيطان ليخلصها من النظام في رطانة سياسية ميكافيلية تخلو حتى من الحد الأدنى لأي رؤية استشرافية لما يمكن أن يحل بالوطن و بإنسانه الذي أرهقته سنوات الحرب التي مثلت هذه المعارضة أحد أطرافها في نكران للحالة الثورية السلمية بل و بمتاجرة مفضوحة بالأيام الأولى للثورة حينما أوهمنا المعارضون أن النظام قاب قوسين أو أدنى من السقوط .
لم يكن السلاح خيارا ثوريا، و إذا كان عنف النظام قد فرضه على الأرض فإن سذاجة المعارضة كرستها، و لم يكن اللجوء و التشرد رغبة أهلية، و إذا كانت مخالب النظام دفعت الناس إلى الهرب فإن المعارضة باعت هؤلاء الذين تتاجر باسمهم و بقضيتهم للمجهول، و إذا كان التحرير إرادة و مقاومة شعبية فإن المعارضة باعت هذا النصر للقاعدة و أخواتها و تفرعاتها، و إذا كان جنيف اثنين قابلا للتحقق في لحظة ما أو أن الإرادة الدولية سئمت النظام و رغبت بالتخلص منه فإن الأداء المترهل و المخزي للمعارضة و رخص ثمنها جعل الأمر منوطا بالبحث عن بديل غير متوفر البتة, و إذا كان ثمة مسؤولية يتحملها النظام الذي صار مؤخرا واحدا من تفاصيل العنف الجارية في سوريا بعد تعويم داعش له، فإن المعارضة تتحمل المسؤولية أيضا و ذلك مع دخولنا العام الخامس للثورة السورية و التي تفرض علينا التجربة خلال السنوات الماضية أن نوجه أصابع الاتهام لكل من كان مسؤولا عن كارثتنا.
لا بد من عملية مراجعة حقيقية للذات، و لابد من دراسة نقدية جادة لما مر علينا خلال السنوات الأربع من عمر الثورة، من أجل حل المشكلات و الخروج من حالة الاستعصاء الدموية التي علقنا بها، لابد من وقفة سورية مسؤولة و لو لمرة واحدة لتفادي ماهو أعظم و أسوأ.
يدرك السوريون جميعا و في مقدمتهم جمهور المقهورين والمقتلعين والنازحين واللاجئين، دور المعارضة السلبي على الثورة السورية، و ربما لعب حجم العنف الذي يمارسه النظام في إخفاء عورة هذه المعارضة ولو لحين، و لكن لاشك أن جميعهم يرون سروال المعارضة العاري المعروض على الملأ.
 

علِّق