عدد القراءات: 4060

الشعوب العربية وحركة التاريخ

نسمع بين الفينة والأخرى أصواتا تترحم على أيام ما قبل الثورة، وتعبر عن رغبتها في العودة إلى لحظات الهدوء التي سبقت عاصفة الربيع العربي. هذا الحنين مفهوم لمن كان يمتلك السكن والعمل والدخل المناسب، وممن رضي بالانزواء داخل دائرته الخاصة غير مكترث بالشأن العام والمصلحة الوطنية ومستقبل البلاد. ولكنه لم يكن مقبولا للشباب العاطل عن العمل الفاقد للأمل بحياة كريمة، كما لم يكن مقبولا لمن يؤمن أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

الشعب السوري--وشعوب الربيع العربي عموما--لم يختر الصراع والقتال ولكنه خرج في ثورة سلمية مطالبا بإصلاحات ضرورية وبإنهاء الفساد الذي حول حياة الكثرة الغالبة إلى حياة الفاقة والعيش دون مستوى الكفاف. القتل والدمار فرض على السوريين الأحرار ولم يكن خيارهم طوال السنوات الثلاثة الماضية.
الشعب السوري ليس وحيدا في مواجهة التحديات والتعرض للهجوم الدموي من نظام الاستبداد. فهذا حال العديد من شعوب العربية. ما تمر به دول الربيع العربي هو قدرها الذي لم تختاره بل وجدت نفسها في معمعته عندما طالبت بحقوق مشروعة وإصلاحات ضرورية. نعم قدر الجيل الحالي من أبناء دول الربيع العربي حمل عبئ التغيير، ولكنها مهمة تعطي لهذا الجيل دورا تاريخيا ضروريا، كما فعلت الأجيال التي قادت التحولات في كل المجتمعات التي حققت حريتها وشرعت ببناء دول متقدمة ثقافيا وعلميا وصناعيا. العبء الذي يحمله الجيل المكافح والمجاهد من أجل مستقبل أفضل هو تحدي وشرف معا في آن.
الكفاح والتضحيات التي قدمت قد تبدو للبعض جهدا ضائعا مع سعي الطغم الحاكمة التي تتحكم بالدولة العميقة ومؤسساتها إلى قلب الطاولة على الشعوب المصرة على الحصول على الحرية والكرامة والعدالة والتساوي تحت سقف القانون. هذه الجهود والتضحيات لا يمكن وأدها مهما تعاظمت قدرات القوى التي تقف خلف الثورات المضادة، لأن التغيرات التي يسعى لتحقيقها الثوار تغييرات ضرورة في سياق التطور التاريخي للمجتمعات العربية والمشرقية.
وفي سياق التحديات والآلام والثورات المضادة وتخاذل أدعياء الصداقة وشراسة الأعداء لا بأس ان نذكر بأن منطقة المشرق برمتها تقف على عتبة تحولات كبيرة وحيوية. الشعوب العربية وشعوب دول المشرق تتحرك مع حركة التاريخ، لذلك فإن قدرها اليوم سيتحقق بالخروج من القمقم التي وضعت فيه، وستنتهي مرحلة القيادات المستلبة التي تكتسب شرعيتها من خلال قهر الإنسان المشرقي والحيلولة دون تطوير مجتمعه واقتصاده وسياساته الوطنية.
ثورات الربيع العربي شكلت حركة المد الأولى باتجاه التحرر من أنظمة الفساد والتسلط، كما شكلت الخطوات الأولى والأساسية لاستعادة الشعوب زمام المبادرة ووضع حد للجهود الخارجية الرامية إلى تكريس حالة الاستلاب. وحركات المد ستتوالى كأمواج البحر ولن تجدي نفعا كل الثورات المضادة التي تبني سدودا جديدة لوقف المد لأن الحركة الرامية لتقييد الحريات ومنع التطور التاريخي للمجتمع في جوهرها حركة معاكسة لحركة التاريخ. مد الحرية قادم وسيهدم السدود المصطنعة كما تهدم أمواج البحر القلاع الرملية المبنية على الشطآن.
وبطبيعة التحولات التاريخية الكبيرة، فإن انهيار بُنى الاستبداد لن ينقل المجتمعات العربية والمشرقية إلى مجتمعات منظمة ومتطورة بين ليلة وضحاها، ولن تقضي نهائيا في ضربة واحدة على جذور التخلف والتبعية والاستلاب. لكن استئناف حياة الحرية، وعودة الروح والرسالة للشعوب سيشكل الخطوة الأولى الضرورية واللازمة لوضع هذه المجتمعات على الطريق الصحيح لاستئناف دورها التاريخي البناء، والعودة إلى حياة الإبداع والانتاج والرقي العلمي والمعرفي.
فالأحرار، والأحرار وحدهم، هم القادرون على الإبداع ولاجتهاد والابتكار ولا والعطاء. أما المستلبين فليس لهم إلا الاجترار والتقليد والاستهلاك والاستجداء!
 

علِّق