نشرت في .August 09, 2015


بعد خراب سوريا بدأ ينتشر -ومنذ فترة ليست قصيرة -على الفيس بوك السوري "أدبٌ سوري" يُرجِع أصل الخراب، وما نحن فيه من أوضاع بائسة ومزرية إلى "عقلنا المعاق"، إلى "تربيتنا السيئة"، إلى "تاريخنا العفن"، إلى "العلّة فينا وليست في الآخرين".. إلخ.


كان مفهوماً لو صدر هذا الكلام عن بشار الأسد أو أدونيس أو نبيل فياض وأبي حسن – وهو صدر بالفعل – أما أن يصدر عن ثائرين، وعن أناس لا يُشكّ بسلامة طواياهم وأفعالهم؛ فهذا يعني من جملة ما يعنيه أن الخراب السوري قد وصل إلى مراحل خطيرة جداً، وإلى ما يشتهيه الطاغية.
قد يكون مفهوماً أن "أدب الفيس بوك" هو أدب انطباعي، تفرضه ردود أفعال سريعة، أو اشتعال لحظات غضب، فيأتي "البوست" نزقاً ومرسلاً من دون اعتبار لأي ضوابط، لكن هذا لا يعفي من أن الفيس بوك بات يحتل جزء كبير من  حياتنا، وبات يشكل وسيلة إعلامية خطيرة تلعب دوراً لا يستهان به في تشكيل رأي عام، وفي إدارة صراعات وحوارات وإقامة علاقات، وفي وضع كوضعنا نحن السوريين، وفي ظل مجزرة مستمرة؛ بات الكلام من ذهب، وهو مسؤولية ثقيلة.

لا مفرّ أحياناً من مناقشة البديهيات لإقامة البرهان عليها، ولا بأس من التذكير دائماً بأن "عقلنا ليس معاقاً" و"تربيتنا ليست سيئة"، وأن "تاريخنا ليس عفنا"، وأن العلّة يمكن علاجها. إنما؛ نعم عقليتنا وذهنيتنا معاقة، وتربيتنا سيئة، وتاريخنا فيه من العفن الكثير، وأن العلّة استوطنت فينا، لكن.. على رسلِكم، ما نحن فيه هو نتيجة وليس سبباً، والاختلاط والتشويش بين السبب والنتيجة هو علّة العلل، وجلد الذات هو مازوشية خطيرة، وتضيفون إلى عللكم وأمراضكم مرض خطير آخر، وما هكذا يعالج المريض!
يقول بشار الأسد في خطاب "القسم الثاني" بالحرف: (.... الفساد وضعية أخلاقية يجب أن نراها كمجتمع وليس فقط كدولة وكإدارة وسجن.. ربما يكون الأب والأم غيرا فاسدين ولكن التربية غير صلبة)، إلى أن يقول: (فإذا القضية قضية اجتماعية بنفس الوقت، ولا يكفي أن ننتظر العمل من الدولة)، ثم يقرر "الرئيس" في الختام: (أن الفساد قضية أخلاقية وتربوية بالدرجة الأولى).
طبعاً هذا الكلام الذي قاله بشار الأسد بعد انتهاء سبع سنوات عجاف من حكمه، وكذلك بعد ثلاثين عاماً من حكم أبيه حافظ الأسد، بعد إمسككٍ كاملٍ لكل مفردات وتفاصيل المجتمع السوري من التربية والتعليم، الى الإعلام ، إلى المؤسسات الدينية، إلى الاقتصاد، إلى الجامعات، إلى الطلائع والشبيبة، إلى... إلى...، ليخلُص في النهاية إلى تبرير وضعية الفساد في "سورية الأسد"، وإلى أنها مجرد قضية أخلاقية وتربوية!


لا يمكن في مقال بهذا الحجم مناقشة كل شيء، ولا يعبأ المقال بالرد على بشار الأسد ومن يدور في فلكه، حيث بات معروفاً -حتى للغبي -زيف شعارات دولة الأسد، إنّما، بات ضرورياً أن نخلّص عقليتنا من تلك الثقافة التي سرطن بها نظام البعث الجسد السوري.
يغيب عن ذهنية "أدب جلد الذات" أن ما نحن فيه الآن من تحلل وفساد هو نتيجة ضرب أهم مقوِّمين لا تقوم قائمة أي مجتمع ودولة من دونهما، وهما "قيمة العمل"، والثاني هو "قيمة الكفاءة"، فأي مجتمع وأي دولة ستتقصف كل أساساتها في ظل غياب هذين مقوِّمين، والنتيجة هي مجتمع مفكك ومنخور، وغابة يسود فيها منطقها، وهذا هو حال السوريين الآن.
عمل نظام الأسد باستراتيجية ثابتة وواضحة، وهي ضرب كل مقومات المجتمع المعافى، ولم يكن له أن ينجح في ذلك من دون ضرب قيمة العمل التي تنطوي على معايير إنتاجية وأخلاقية ضرورية لرفعة الفرد والمجتمع. ومن أجل تمرير هذه السياسة المدمرة استعيض عن معيار "الكفاءة" بـ "الولاء"، ذلك الولاء الذي تمت شرعنته في الدستور السوري في المادة الثامنة الشهيرة (حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع)، حيث التمييز بين السوريين، ومعاملتهم وفق كمّ الولاء الذي يقدمونه، ومن هنا تسللت ثقافة كاملة تربّى داخلها السوريون، قوامها الاستزلام والنفاق والمحسوبية والتودد إلى المسؤول و"حلال على الشاطر"، وهي بالمجمل ثقافة طاردة ونابذة لثقافة العمل وقيمه النبيلة. وقد كسّرت تلك السياسة تماماً مقومات الدولة الحديثة، كما كسّرت المواطن المتفاعل والإيجابي.


جاءت الثورة السورية -بما تحمله من شعارات -بالضد تماماً من ثقافة ومقومات الدولة الأسدية، وسياقات هذه الثورة والحائط الذي تقف أمامه باتت معروفة، فالكواكبي صاحب كتاب (طبائع الاستبداد) كان قد تنبّأ منذ أكثر من مائة عام بأن: (فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم، بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار، لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضرب عشواء كثور هائح أو فيل ثائر في مصنع فخار، وتحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال). وهل تنفع الأمنيات هنا بالقول أن يكون الزوال كاملا ماديا وثقافياً؟ّ!
دولة الأسد انتهت أو تلفظ أنفاسها الأخيرة، والأمنيات هي زوال ثقافة تلك "الدولة"، لكن الأمنيات لا تتحقق من دون العمل على غربلة الثقافة الاستبدادية وتعريضها للشمس، كل الثقافات الاستبدادية، وبكل أنواعها قديمها وجديدها. 

علِّق