صورة eiad
نشرت في .November 27, 2015

* محمد محمد فاروق المصري

 

شكلت أحداث صحيفة Charlie Hebdo  في بداية العام الحالي ثم بعدها أحداث باريس الأخيرة فاجعة كبيرة على العالم كله وعلى الشعب الفرنسي بشكل خاص، وحتى ندرك حجم الصدمة بالنسبة للفرنسيين ولاسيما الباريسيين منهم يكفينا أن نعلم أن قسماً كبيراً من سكان باريس - بعد أن رأى ما حل بالمدن الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية - قرر مهادنة هتلر حفاظاً على مدينتهم وعلى  أرواحهم الأمر الذي كان له دور في هزيمة الجيش الفرنسي يومها وأدى إلى سقوط فرنسا ثم تقسيمها على يد الألمان.

 

بعيداً عن مسألة تحديد هوية المعتدي وانتماءه ودوافعه – التي انشغل بها العرب أكثر من الفرنسيين أنفسهم - من المهم أن نتعرف على الطريقة التحليلية التي قرأ بها الفرنسيون تلك الأحداث حيث بدؤوا بتفكيك الواقعة وتحليلها بصورة دقيقة وشفافة ليتمكنوا من فهم الأسباب المباشرة وغير المباشرة، ليسهل بعد ذلك معرفة الخلل بكل جوانبه.

بعد 8 أشهر من أحداث صحيفة Charlie Hebdo وفي يوم 21/9/2015 عرضت القناة الفرنسية France2 ضمن برنامجها Cash investigation تقريراً صحفياً بعنوان: (التجارة بالخوف Le business de la peur)، كما أعيد نشر هذا التقرير على القناة الفرنسية TV5 بتاريخ 18/11/2015 أي بعد أحداث باريس الأخيرة بأيام.

ظهر الدافع لدى الصحفيين في إعداد هذا التقرير نتيجة مقارنتهم بين حجم الهجمات وبين ما تقوم به الحكومة الفرنسية من إجرءات أمنية توصف بأنها لا يمكن اختراقها، فعمدوا إلى غربلة الإحصائيات والدراسات التي تتناولها وسائل الإعلام الرسمية.

تحدث التقرير عن وجود مسؤولية مشتركة ثلاثية بين الحكومة الفرنسية ومراكز الأبحاث والشركات المصنعة فيما يخص قضية الأمن والسلامة وحماية الحرية.

تكمن هذه المسؤولية في تهويل الوقائع وتضخيم الأرقام والتلاعب باستطلاعات الرأي لزرع الخوف بين الناس فيقوموا بتأييد الإجراءات الأمنية التي تكلف خزينة الدولة المليارات دون أن يكون لها جدوى تقابل هذه المبالغ التي يدفعها الشعب، أما السياسيون فهم من يقوم بدور الدعاية والإعلان بمساعدة مراكز الأبحاث لتجني شركات أجهزة الحماية والسلامة الأرباح الطائلة في نهاية المطاف.

بدأ التقرير باختراق الفريق الصحفي للبوابات الآلية وأجهزة الكشف عن الهوية في مطار Roissy Charles de Gaulle – والتي تعتبر فائقة الأمان – حيث تمكن صحفيان وبسلاسة من العبور بعد أن تبادلا جوازات سفرهما واستخدما بصمات أصابع كاذبة.

كل ذلك لم يمنع رئيس مركز الأبحاث والتكنولوجيا لشركة Safran Morpho ( التي تقوم بتزويد المطارات بأجهزة الكشف تلك) من التمسك بالقول بأن جهازه هو واحد من أكثر الأجهزة فعالية في العالم!!!.

هذه التقنية أغرقت اليوم كل القطاعات؛ من الفنادق إلى الكليات والمدارس، الكل أصبح يميل إلى أن يكون مجهزاً بقارئ بصمات الأصابع لضمان قدر أكبر من الأمن. هذا النظام يوصف بأنه معصوم من قبل أولئك الذين ينتجونه، ولكن هل هو كذلك حقا؟!.

المفارقة الثانية التي عرضها التقرير هي مسألة: اغتصاب الهوية، والتي يقصد بها عمليات سرقة المعلومات الشخصية من رقم البريد الالكتروني إلى رقم الحساب البنكي حيث لا يعد الشخص قادراً على التصرف بشيء مطلقاً.

ظهرت عدة برامج ودراسات تحذر الناس من خطر هذه العمليات، رافق ذلك حملة إعلانية حول خطر رمي الأوراق الشخصية في سلة المهملات قبل تمزيقها، كما عرضت بعض القنوات الفرنسية خبيراً في قضايا الجرائم يتناول أوراقاً من حاويات القمامة ويبين للناس أن أهم سبب في حصول عمليات اغتصاب الهوية هو التهاون في إتلاف كشوفات الحساب والفواتير.

يشير هذا الخبير إلى أن ضحايا عمليات اغتصاب الهوية يقدر بـ 210 ألف فرنسي كل سنة، إلا أن هذا الرقم يعتمد على دراسة قدمتها شركة Credoc، وهي دراسة بعيدة كلياً عن الأرقام الرسمية في  أقسام الشرطة، والتي تذكر بأن العدد هو 10997 شكوى فقط عام 2009.

إذاً ما قيمة ما بين أيدينا من أرقام ونتائج إذا كان لدينا – ما يسمى – خبيراً بالجرائم لا يتردد في التلاعب بالأرقام من أجل تأجيج الخوف لدى الناس؟!.

من إذاً صاحب المصلحة في تضخيم الأرقام؟ الجواب يرد من خلال اسم الشركة الراعية للدراسة، وهي شركة Fellowes شركة أميركية لتصنيع آلات تقطيع الورق، التي لا تألوا جهداً في اختراع الوسائل لإقناع المستهلكين بشراء أجهزتها.

المفارقة الثالثة في التقرير كانت انتشار كاميرات المراقبة في فرنسا والتي بدأ تركيبها عام 2007 ليصل عددها اليوم إلى 40 ألف كاميرا غطت 450 مدينة و1700 بلدة صغيرة.

الغريب في الموضوع أن نظام المراقبة هذا لم يكن حقيقياً ففي بلدة مثل Rennes-les-Bains  والتي لا تعدو أن تكون أكثر من منتجع صحي بين جبال البرانس والبحر الأبيض المتوسط تضم 180 نسمة (حسب إحصائيات 2012) تم تركيب 7 كاميرات أي بمعدل كاميرا واحدة لكل 25 شخصاً وهو معدل أعلى من العاصمة باريس نفسها!!!.

خلال تحليل الإحصائيات، أوضحت تصريحات وزير الداخلية السابق وكذلك رئيس اللجنة الوطنية لكاميرات الحماية أن هذا النظام هو سراب أمني، دون أن يتطرقوا إلى هدر المال العام.

تنفق فرنسا كل سنة 10 مليارات يورو في مجال الأمن والسلامة وحماية الأشخاص، فهل فعلاً ما يتم إنفاقه هو حصن حقيقي ضد انعدام الأمن أم أنه عملية احتيال مالية واسعة ؟!.

لقد ازدهر سوق السلامة والأمن مع التهديدات الإرهابية، ومن الملاحظ أنه حقق قفزة نوعية بعد أحداث 11 أيلول ثم بعد أحداث Charlie Hebdo، فهل انخفض معدل الجرائم مقابل ارتفاع هذه الأرباح؟!.

لخّص لنا التقرير فكرته بالنصيحة التي ختم بها مادته حيث قال: في المرة القادمة إن حاول أحدهم إخافتك فتأكد أنه ليس بحوزته ما يبيعه لك.

 

المرجع: هذا المقال هو ترجمة لأبرز ما جاء في التقرير المشار إليه، بالإضافة إلى ما جاء في المقال التعريفي بالتقرير والذي نشر في صحيفة لوموند الفرنسية Le monde بتاريخ 21/9/2015.

 

التعليقات

أوافق مع كل ما جاء في المقالة . ألف شكر مهندس محمد على الإحاطة

علِّق