نشرت في .November 13, 2015

تقوم أجهزة البوليس في الأنظمة الديكتاتورية بدور رئيسي بمصادرة حقوق الناس في المجتمعات التي تحكمها، لكن أغلب التفريط في هذه الحقوق لا يتم على يد هذه الأجهزة، بقدر ما يتم على أيدي الناس أنفسهم، وما تفعله هذه الأجهزة هي أنها تعطيهم نماذج توضّح لهم الطريق الذي تريدهم أن يتبعوه!.
فرغم وجود عدّة أجهزة أمن عادة في هذه الأنظمة، إلا أنّه يستحيل أن تنجح بمراقبة كل شخص على مدار الوقت، وبسماع كل مكالمة، والتنصّت على كل بيت!.
وقد أثبتت الأحداث التي حصلت في سورية خلال السنوات الماضية أن أجهزة الأمن العديدة لم تمتلك كل المعلومات ولا نصفها، ولم تستطع وقف الاحتجاجات حتى في أيامها الأولى، بل وأثبتت التحقيقات التي كانت تقوم بها مع المعتقلين أنها لا تملك معلومات حقيقية، وأنها كانت تعتمد على القمع الذي يمارسه المواطنون بحق أنفسهم أكثر من اعتمادها على قوتها الفعلية، والتي لا يمكن بها أن تحكم شعباً لأشهر، لا لنصف قرن!.


لقد أدّت السنوات العجاف التي تلت وصول حزب البعث إلى السلطة، واستيراد نظام القمع الناصري، إلى ولادة "ثقافة القمع الذاتي"، وهي ثقافة حرصت أجهزة الأمن على رعايتها، باعتبارها السلاح الأول الذي يؤمّن سيطرتها في المجتمع، والخطوط الحمراء التي تسبق حتى خطوط الأجهزة نفسها!.
فقد اعتاد الطفل السوري أن يسمع من أبويه أمثلة تحضّه على الاستغناء عن حريته في الرأي والتعبير، وعن حقّه في المشاركة السياسية، وحقّه في الكرامة الإنسانية، فأمّه تقول له: "الإيد الي ما بتقدر عليها، بوسها وإدعي عليها بالكسر"، وأبوه يخبره بأن "الحيطان لها آذان"، وجده يقول له: الي بجوّز إمي بقله يا عمي"، و"حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس"، و"الموت مع الجماعة رحمة"، و"ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمه"..!.


ومما تتصف به هذه الثقافة أنها قابلة للتوارث، فكان الأب يحرص على نقل الرعب الذي سمعه أو رآه في فترة سابقة، لا يعيها الطفل أو لم يكن موجوداً وقتها، ويتأكد من استشعار ابنه لذلك الرعب، حتى لو أن مبرراته وسياقه قد اختلف!.
وترسم هذه الثقافة عادة دربين منفصلين، يحاول الوالدان غرس مفهومها في أطفالهم منذ الصغر: إما أن تعيش، وتبتعد عن وجع الرأس أو أن تنتهي حياتك وتفجعنا إن تدخّلت فيما لا يعنيك (ويشمل ذلك كل ما له علاقة بالحقوق المدنية والسياسية)!.
وقد ترسّخ الفصل بين هذين الطريقين في معظم الدول القمعية، حتى تحوّل الأهل إلى أداة القمع الأولى للطفل أو الشاب إن رأوا لديه ميولاً سياسية، أو توجهاً للتفكير النقدي، أو محاولة للخروج من الصندوق الذي وضعه المجتمع فيه، حتى يكفوا أجهزة الأمن مؤنة الاعتقال والتحقيق والاستجواب!.
ويمكن لنا في سورية أن نُلاحظ عمق هذه الثقافة في ذلك التيار الذي اصطُلح على تسميته بتيار "كنا عايشيين"، والذي يعني بلغة الحقوقيين أننا كنا راضين بالحصول على جزء من حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومتنازلين عن معظم حقوقنا المدنية والسياسية، ولا نرغب بتغير هذه الحزمة!.
والحق أن هذه الثقافة ليست سورية المنشأ، ولا يدّعي السوريون حقوق الملكية الفكرية لها، فهي ثقافة سادت نصف العالم على الأقل بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسست على يد أنظمة هتلر وستالين وموسوليني، لكنها -كما كل الثقافات الرديئة- سرعان ما انتقلت إلى المجتمعات التي حكمها مقلّدون للآباء المؤسسين لمدرسة الحديد والنار، فعاشها المصريون في عهد عبد الناصر، والعراقيون في عهد صدام، والليبيون في عهد القذافي.. الخ!.


وقد استطاعت ثقافة القمع الذاتي أن تمنع السوريين من تخفيض سقف مواطنتهم حتى أكثر مما حلمت به أجهزة الرعب تلك، فكان السوري يُغيّر محطة التلفاز إن ظهر عليها ما يعتقد أنه ربما يزعج "الأمن"، خشية أن يسمعه جاره، أو حتى يكتب ابنه فيه تقريراً، ويخاف أن يضحك على نكتة يُشمّ فيها نقد للخطوط الحمراء، ويخاف أن يتكلم مع شريكته بشؤون السياسة حتى وهم وحدهم في سرير النوم!.
وفي الواقع فإنّ هذه الثقافة لم تنشأ من فراغ، فقد كانت أجهزة الأمن تعتقل بين الحين والآخر شخصاً من أجل نكتة قالها أو ضحك عليها، وتقوم بتعذيبه، وتنشر قصته بين المعتقلين، وبين جيرانه ومجتمعه، فتعمّ حكايته بين الناس، ليرسموا بدمه وعذاباته خطاً أحمراً لهم ولأولادهم!.
وبطبيعة الحال فإنّ هذه الثقافة تُقدّم مجتمعاً نموذجياً للأنظمة البوليسية، فهي تصنع شعباً "له تم ياكل ما له تم يحكي" كما يقول المثل الشعبي الرائج، وبالتالي فإنّ تغيير السياسات نحو انفتاح أكثر أو انتهاكات أقل لا يبدو منطقياً لصناع القرار في هذه الأنظمة، ولا يجدون إلحاحاً حتى في مجاراة العالم من حولهم!.
إن مفاهيم حقوق الإنسان تستدعي إيماناً بها من المواطن نفسه قبل أن ينتظر من سلطته تطبيقها، فالسجين عليه أن يقتنع أولاً بأنه سجين، وأن مكانه الطبيعي هو خارج السجن، وأن الحرية حقّ له، وإلا لن تتمكن أي قوة من إخراجه من السجن، وإن فعلت فإنّه ينقل السجن معه في داخله، وهو ما نراه من أشخاص خرجوا من سورية، ولم تعد سيوف الأجهزة الأمنية مسلطة عليهم، ولكنهم يتصرّفون كما لو أنّهم في سورية الثمانينيات!.


 

علِّق