نشرت في .January 09, 2016

 

* ميخائيل سعد

 

قبل حوالي ثلاثين عاما، سافرت صديقة حمصية الى باريس. بعد عودتها الى حمص جاءت لزيارتنا حاملة بين يديها كيساً ورقياً ملوناً بألوان التنين الصيني، حكت لي كيف تعرفت بالمقهى على شاب يتكلم اللهجة السورية، وعندما اصبحا على طاولة واحدة سألها من أي المدن السورية العامرة هي، فردت نافخةً صدرها، الذي لم يكن ينقصه النهوض آنذاك، أنا من حمص. كان صديقي سجيناً ماركسياً، ولكنه فضّل العيش في باريس بعد خروجه من السجن وسوريا، وكانت قراءته للناس تعتمد المعايير الماركسية التي كانت منتشرة في أوساط اليسار السوري وغيره، ومنها المظهر الخارجي، وخاصة نوعية الثياب أو الحذاء، لذلك سألها، ناظراً الى ثيابها الفاخرة بريبة: لي صديق في حمص، الا أن طرقكما قد لا تلتقي الا بأذن الله، كالخطين المستقيمين، في بعض المدارس العربية.

قاطعته صديقيتي، وكانت خبيرة بهذا النوع من الشباب وطرق تفكيرهم: هل لك ان تقول لي اولاً اسم صديقك كي أقول لك اذا كنت أعرفه أم لا؟

 

اعتدل صديقي الماركسي العربي في كرسيه الباريسي الوثير، وقال لها ناظراً الى حلقات الدخان الصاعدة من سيكاره الكوبي: ميخائيل سعد، هل مرّ هذا الاسم أمام حضرتكم؟

سردت الحمصية ما تعرفه عني أمام صديقي، فوجدا بعدها مساحة للتفاهم لم أعرف أبعادها ولا عمقها وحميميتها والى أي درجة بلغت، لا منه ولا منها، ولكن معرفتي بطبيعة كل منهما جعلتني أتذكر نكتة كان يتداولها الحوارنة عن أبي مفلح  «محمود الزعبي» قبل أن يجده حراس حافظ الاسد منتحراً بخمس رصاصات في الرأس في 21 أيار / مايو 2000 .

تقول النكتة أن أبا مفلح، على عادة المسؤولين السوريين، وبعد موافقة المخابرات، كان عنده صاحبة يتردد عليها كلما كان «معصّب» من معلمه حافظ، وعندما يكون غير قادر على الرد عليه، كان يتصل بصاحبته، يخبرها أنه سيتعشى عندها هذه الليلة. حدث ذلك بعد لقاءٍ عاصف بينه وبين الرئيس، مسح فيه حافظ الاسد الارض برئيس وزرائه، تماماً كما يفعل الآن بشار بوزير إعلامه، وفهمت المرأة من لهجة أبي مفلح مقدار ضيقه، ونوعية البهدلة التي تلقاها، فقررت ان تحضّر له عشاء «دسماً» يخفف كربه وينسيه البهدلة ويفرّغ من احتقانه!

التزم أبو مفلح بالتقاليد المعروفة عند زيارة عزيز، فتأبط علبة «راحة» ودخل الى بيت صاحبته التي استقبله بكل حفاوة العشيق المهم، وقادته الى منضدة العشاء، فما كان منه الا أن فتح علبة الراحة ووضعها على الطاولة، بعد ان عرضها على صاحبة البيت، التي وافقت فرحة عليها بغمزة من عينيها. كان السورين في ذلك الزمن يعيشون في نعمة « التقنين » الكهربائي، فلا يعرف احد بما فيهم رئيس الوزراء متى تنقطع الكهرباء، ولماذا، ومتى تعود، ولكن الاكيد أن أبا مفلح، على عادة الريفيين الذين يحبون الحلويات، كانت نظراته طوال الوقت مسلطة على علبة الراحة، رغم حركات الغنج التي كانت تمارسها العشيقة، والتي كانت تجلس ملتصقة به، فما إن انقطت الكهرباء حتى مالت المرأة على كتف الرجل قائلة: «خود» راحتك أبو مفلح. قال لها: هل أنت متأكدة؟ قالت: طبعا حبيبي، فما كان منه الا أن التقط علبة الراحة «وشمع الخيط» هاربا من البيت، لينفرد مع «راحته!»

في عودة الى ذكر الصديقة والصديق، الذي لم أعرف حتى الان -بسبب موت الصديق وهجرت الصديقة للاقامة في العاصمة- مَن منهما أخذ «راحته» وهرب، ولكن في يوم الوداع حمل صديقي معه الكيس الورقي الملوّن على طريقة ألوان التنين الصيني وفيه «افرول» ولادي لابني عمرو، وقد كتب على بطاقة صغيرة: أردتُ أن تكون هدية باريسية الى ابنك عمرو، وإذ بها صناعة صينية، فلا تعتب علينا، من شان الله يا أبا عمرو.

كنت أظن أن حادث الهدية «الصينية» حادثة عابرة وبالصدفة، ولكن ما برهنته الايام اللاحقة انه كان ضمن خطة مدروسة لغزو أسواق العالم والسطو على «راحته» المحلية. ففي كل البلدان التي زرتها، بعد أن حصلت على جواز سفر غربي، كانت تتكرر قصص البضاعة «الصينية»، فقد أرسل لي صديق سوري يقيم في القاهرة مجموعة من الهدايا الصغيرة تمثل بعض الآثار الفرعونية، وقد كتب:

إنها بضاعة صينية يا صديقي.

قبل عدة سنوات، وبعد تهرّب استمر سنوات، وجدت نفسي مضطرا للرضوخ لرغبة زوجتي في الذهاب  لزيارة أقرب مدينة امريكية، تبعد عن مونتريال بحدود مائة كيلو متر، وبعد عودتنا الى البيت اكتشفت أن كل ما اشترته كان صناعة صينية. في مونتريال، انتشرت البضاعة الصينية بشكل واسع لدرجة أصبح المواطن الكندي يفضل الثياب المستعملة على تلك البضاعة.

عندما وصلت الى تركيا منذ عامين، اشتريت بعض القمصان على أساس انها صناعة تركية، ولكن بعد التدقيق تبين انها صينية، جرى تزوير ماركاتها بهدف غش الزبائن.

لم يتوقف التأثير الصيني على البضائع بل امتد ليشمل السياسة أيضا، فقد تناقلت الاخبار مؤخرا أن الصين قد وجهت دعوة الى وزير خارجية بشار الاسد وليد المعلم، ثم الى رئيس الائتلاف خالد خوجة، للحوار معهما حول «الازمة» السورية.

في نص الدعوة الموجهة الى المسؤولين السوريين، اشارة مكتوبة بخط ناعم وصغير عن ضرورة إحضار «علبة راحة» معهما، لعل الصين تعيد تصنيع راحة الحلقوم، فيخرج الكلام السياسي بين الوفدين المتفاوضين بسهولة أكثر ويتفقا على «تعهيد» سوريا الى الصينيين ذون ضجة، فالصين تحب القوة الحريرية.

 

* ميخائيل سعد: كاتب ومغترب سوري مقيم في منتريال-كندا منذ ٢٦سنة

 

علِّق