عدد القراءات: 14183

المسلم التقليدي…. المتهم الضحية

 

توقعت أن تثير المقالة التي عنونتها بـ (كيف يتحول المسلم إلى ارهابي) لغطاً كبيراً، و أن تستجلب الكثير من الردود والرفض كعادة ما يحصل عند الاقتراب من النقد الديني، وبالفعل أحصيت أكثر من 600 ردّ بين تعليقات على موقع السوري الجديد وعلى صفحتي الشخصية، ومشاركات و منشورات وفيديوهات على صفحات الآخرين، ونقاشات دارت في مجموعات اسلامية وغير اسلامية.

وكنا قد نشرنا 6 ردود رسمية وصلت إلى موقع السوري الجديد هذه روابطها لمن يرغب:  (  د.وائل حبنكة الميداني - د. نبيل طرابيشي-  د. علاء الدين آل رشي- غزوان الميداني- عبد المجيد عقيل- معتز شكري فيصل)

رغم ذلك لم أكن أتخيل أن يبلغ الاهتمام بالمادة هذا الحد، فقد دعيت إلى جلسة حوارية في العاصمة واشنطن مع عدد الاسلاميين والمثقفين لنقاش المادة بتاريخ 2 نيسان الجاري 2016، كذلك تلقيت دعوة لمناظرة على النت مع إحدى التنظيمات الشبابية الإسلامية في مصر اعتذرت عنها لاشتراط منظميها أن يكون الحوار مقتصراً على الأدلة الدينية فقط ورفضهم الاستدلال بالأدلة العقلية، كذلك تلقيت دعوة أخرى من منظمة هولندية للمشاركة بمؤتمر شبابي حول الارهاب يعقد منتصف العام، وقد اعتذرت عنها أيضاً لأنني شعرت أنه ستتم استضافتي على مبدأ (شهد شاهد من أهله)، وبالطبع لا أريد أن أكون في هكذا مكان، وليس هذا هدف ما أكتب.

 

أشكر كل من تكرّم بالرد بشكل محترم، سواء مؤيداً موافقاً، أو رافضاً منتقداً مفنداً، و أرأف لحال وعقول الذين انشغلوا بالسباب والتخوين والشخصنة، فأضاعوا وقتهم ووقتنا، و خسروا فرصة المشاركة بنقاش مسألة مهمة جداً تشكل محور حياة المسلمين اليوم.

سأعقب على التعليقات في نهاية المادة كونها الجزء الأصغر من المسألة ككل، و سأستبق ذلك بطرق مواضيع أكثر أهمية وشمولية، في محاولة استقراء منظومة تفكير المسلم التقليدي اليوم، والآليات التي تقوده إلى استنتاجاته وتكوين تصوراته حول دينه.

إن فهم هذه الآلية أمر رئيسي و مهم جداً، ويضعنا أمام حالة مشخّصة نستطيع ان نعرف كيف تفكر، ونتوقع ماذا ستفعل.

 

المقال هنا تفصيلي، لذلك سأقسّمه إلى محاور :

أ- مدخل

ب- أنواع المسلمين اليوم

ت- كيف يكوّن المسلم التقليدي فكره وتصوّراته عن دينه؟

ث- آليات الدفاع عند المسلم التقليدي

ج- تعليق على الردود التي وردت مقالة (كيف يتحول المسلم إلى إرهابي)

ح - خاتمة

 

أ- مدخل

بداية أعتقد أن تداعيات المادة لم تنجم عن أهميتها بحد ذاتها، بقدر ما لأنها خرقت المحظور واقتربت من النص القرآني الذي يقرّ به عموم المسلمين كمصدر أول للشريعة في الإسلام، و يعتبرونه كتاباً محكماً مطلقاً صالحاً لكل زمان ومكان، وهو ما أسقط سقف النقاش الديني الذي ما يزال يحوم في أجرأ أوجهه حول التساؤل عن متن الحديث الشريف، حيث إن  كثيرين استخدموا هذا الشك  للهروب نحو نفي بعض النصوص التي تربط العنف بالتشريع الإسلامي، وكانوا يجدون في ذلك مخرجاً لقطع تلك الصلة المفترضة، لكن أمام آيات قرآنية محكمة صعبُ عليهم أن يفعلوا ذلك، سيما وأنهم لم يتوقعوا أن يجرؤ أحدهم على فتح هذا الموضوع، فكيف إذا كان من يفعل مسلماً من طينتهم، , من المفترض أنه محكوم وواقع تحت الضوابط المعتادة..؟!

وهنا كان هؤلاء أمام موقفين، إما أن يقبلوا بالأمر الواقع و يناقشوا الموضوع بنوع من التقبّل ويعملوا عقولهم فيه، ويحاولوا أن يجدوا مخرجاً و حلاً له (وهؤلاء هم القلة)، و إما يعمدوا إلى التجريح بالكاتب وشتمه والطعن بكلامه بدليل وبغير دليل بقصد التأثير على مصداقية ما قال والتقليل من أهميته، (و هم للأسف الغالبية الغالبة).

 

لا أنكر أنني في المقالة إياها تبنيت وجهة نظر الإرهابي من المسألة، واستدللت بالآيات القرآنية التي تحرّضه على العنف والقتال، وتجاهلت الآيات الأخرى التي تؤدي عكس المعنى، ورغم ذلك لا أعتقد أنني أخطأت عندما فعلت ذلك، فقد أعلنت بداية أنني سأتقمّص دوراً، وسأطرح قضية ومسألة واضحة تطمح لتفسير ظاهرة الإرهابي المسلم، ولماذا يمكن أن ينتج الدين الذي جاء لخير البشرية أمثال هؤلاء، وهنا يكون دوري كمحامي الحق العام في المحكمة وليس القاضي، دون أن أنفي أن لدي وجهة نظر شخصية كشاب مسلم يعنيه ما يجري، وما يرتكب باسم دينه وينعكس عليه. مع الاعتذار طبعاً من كل من فهم من المقالة أنني أتهم جميع المسلمين بالارهاب، فأنا لم أقصد ذلك بالتأكيد، على الأقل لأنني مسلم ايضاَ ولا أعتبر نفسي ارهابياً…!!

 

سأخرج من نطاق تقييم الردود على المادة، لأنتقل إلى تحليلها كظاهرة، فهي على تنوعها كعينة إحصائية هامة شملت المسلم التقليدي، والمتدين، والفقية، والليبرالي، و العلماني وحتى الملحد، تقدم نموذجاً معقولاً يستحق الدراسة، وصورة عن حال المسلمين وكيفية تشكيل رأيهم العام حول الدين عموماً، و موضوعة العنف والإرهاب خصوصاً.

وسأقوم بقراءة المسألة بقدر معرفتي المتواضعة، أولاً كصحفي درس أساليب رصد وقياس الرأي العام، وثانياً كمسلم تقليدي يعلم تماماً البيئة التي يتحدث عنها، كما سأدلف إلى تسليط الضوء على الماكينة والمنظومة التي تبني شخصية المسلم التقليدي انطلاقاً مما تخبرته شخصياً خلال قرابة 10 سنوات قضيتها في معاهد تحفيظ القرآن، قارئاً وحافظاً.

 

ب- أنواع المسلمين اليوم

 

دعونا نميّز بين 5 أنواع رئيسة من المسلمين اليوم في ضوء ما نعرفه و نخبره من حياتنا اليومية، وسأضع رقماً افتراضياً  يمثّل نسبة تقريبية لكل منهم من مجموع عموم المسلمين

1-  مسلم متشدد (2%):

- الدين هو محور حياته وغايته ويرى كل شيء من خلاله

- مسكون بنظرية المؤامرة على الإسلام

- يؤدي الفرائض والسنن والنوافل، ويكثر من التعبّد

- يلتزم التزاماً كاملاً بالمظاهر العامة للدين، (اللحية، الخمار….)

- لديه تصورات إلغائية عن الأديان والأقوام الأخرى، وينظر لهم على أنهم كافرون وفاسدون ومنحلّون أخلاقياً، ويتمنى لهم السوء والخراب.

- يعبد النصوص، ويقتطعها من سياقها، ويعتبرها أوامر تنفيذية مطالب كمسلم بتنفيذها

- يستسلم استسلاماً كلياً لرجال الدين وينفذ ما يطلبونه منه.

- يؤمن بالدعوة للدين، وبفرضها إجبارياً بكل الوسائل الممكنة بما فيها العنف

- يؤمن بأن الاسلام منتصر، وأنه سيسود الأمم ويكون ملكاً جبرياً، وأن دولة الخلافة قادمة لا محالة.

- لا يقرأ بشكل عام، أو أنه يقرأ من مصادر أحادية الثقافة (السلفية- الجهادية…)

- من السهل جداً خداعه وتحويله إلى قنبلة.

 

2-  مسلم تقليدي (65%):

- يؤدي الفرائض والسنن الأساسية في الدين، ويحافظ على مظاهر الدين العامة في حياته

- لديه تصورات فضائلية عن الدين، ويؤمن بأن الاسلام دين رحمة ومحبة وسلام، لكن له أسنان عند الحاجة، و يبرر له بعض العنف والانتهاكات في سبيل ذلك.

- يقدّس النصوص ويقدم النقل على العقل، ويعتبر تفسيرها على غير ما وردت في التراث الإسلامي عبثاً بالدين والرسالة.

- يقدس أو يحترم رجال الدين أو بعضهم، ويظن نفسه أقل أهلية وأدنى مرتبة منهم.

- يؤمن أن المسلمين -دون غيرهم من البشر- هم فقط من سينجون في نهاية المطاف، ويدخلون الجنة على درجات ومراتب.

- لديه تصورات دونية عن الأديان والأقوام الأخرى، وينظر لهم على أنهم كافرون وفاسدون ومنحلّون أخلاقياً،  لكن لا يعمل على تغييرهم،أو أنه يعمل على ذلك بأسلوب ناعم..

- لا يقرأ إلا نادراً، أو أنه يقصر قراءته على المصادر الرئيسية (القرآن، بعض كتب الأحاديث)، ويستقي معظم عرفته بالدين من المشائخ من خلال الخطب والدروس الدينية

- لا مانع لديه من العيش في دولة ديموقراطية، لكنه يحلم بدولة الخلافة الاسلامية، ويؤمن بصوابيتها وبأن الوعد بقيامها نافذ.

- مسالم بطبعه، لكن إذا تعرض أحد لدينه او معتقداته  قد يلجأ للعنف.

- قد يسهل خداعه، ويمكن تحويله إلى قنبلة في ظروف معينة.

 

3- مسلم متحرر (15%):

- يؤمن بالله ونبيه

- يؤدي بعض الفرائض والطقوس دون التزام، وكنوع من محاكاة للمجتمع.

- لا يلتزم بالحفاظ على المظاهر العامة للدين، (الحجاب….)

- لديه شكوك حول بعض النصوص، ولا يقدس النص بشكل اعتباطي.

- لا يؤمن بتفّرد رجال الدين، ويعتقد أنه مؤهل ليفكّر ويستنتج مثلهم أو أكثر منهم.

- يؤمن بأن الإسلام مثله مثل كل الأديان، نزلت لصالح الإنسان لكن أتباعها لا يقدمون صورة صحيحة عنها.

- ليس لديه نتيجة حاسمة لموضوع الثواب والعقاب والجنة والنار.

- يؤمن بدولة ديموقراطية غير دينية

- مهتم بحياته وثقافته، لكنه لا يقرأ كثيراً عن الدين.

- يصعب خداعه

 

4- مسلم غير مهتم (10%):

- غير ديني، قد يؤمن بالله ونبيه كفكرة عامة دون أن يعطي بالاً للموضوع

- ولد مسلماً وهويته مسلم وليس لديه مشكلة مع ذلك، لكنه غير مهتم بتقديم نفسه كمسلم.

- يندمج سريعاً بمحيطه، ولا يؤدي الفرائض والطقوس إلا إذا كان من حوله يفعل.

- ليس لديه موقف من رجال الدين، ولم يفكّر بالأمر.

- لا يلتزم بالحفاظ على المظاهر العامة للدين

- منشغل كلية بحياته الشخصية، و لا يهتم بالحياة العامة.

- لا يهتم بشكل ونوع نظام الحكم، المهم أن يحافظ على خصوصيته ومصالحه.

- غير مثقف

 

5- مسلم ناكر (8%):

- لا يؤمن بالله ونبيه، ويعتبر الأمر مجرد كذبة

- لا يؤدي أياً من الفرائض، و يرفض الالتزام بأي من مظاهر الدين، ويسخر ممن يؤديها

- معجب بالغرب وتجربته، ويتمنى لو أنه ولد هناك

- يعتقد ان الاسلام دين عنف وارهاب، ويحاول الابتعاد عن المسلمين وبيئتهم

- يؤمن بدولة علمانية قاسية، تضع أسساً وقوانين حديّة ضد الدين وتدخله بالحياة العامة.

- مهتم بحياته الشخصية، ولا يقرأ كثيراً عن الدين، بل بكل ما ينتقده

 

هذا تقسيم افتراضي غير مبني على أساس علمي، إنما هو قراءة عمومية للمشهد  فقط بقصد إعطاء صورة عن الموضوع، وعرض النموذج الذي تتحدث عنه المقالة،  وبالتأكيد هناك درجات متفاوتة بين الأنواع الخمسة، وهناك أناس يتنقلون من نوع إلى آخر بحسب الظروف، كما يحدث مؤخراً حيث انتقل كثير من المسلمين التقليديين إلى صف المنكرين للإسلام، أو بالعكس باتجاه التشدد.

 

 

ت- كيف يكوّن المسلم التقليدي فكره وتصوّراته عن دينه؟

 

في كل ما سأتناوله أدناه سأركّز على نموذج المسلم التقليدي كحامل أساسي للدين الإسلامي، وصاحب النسبة الأعلى من عديد أتباعه.

 

باستثناء قلة من الناس لا تشكّل نسبة معلومة، فإن معرفة معظم المسلمين التقليديين بدينهم هي بالغالب مجرد انطباعات وأفكار عامة وتصوّرات فضائلية ومسلّمات، اكتسبوها نتيجة تأثير مجتمع من حولهم يربط كل مفاصل حياتهم بالدين، ويجعله الفضيلة الوحيدة، والقيمة العليا، ويحوّله إلى انتماء أول وأخير للإنسان، فتحولت تلك الانطباعات إلى قناعات راسخة، و لم تنشأ  بالضرورة عن آليات تفكير أو إدراك، ولم تأت كنتيجة  تحصيل معرفي حقيقي يلمس جوهر الرسالة ومقاصد الشريعة، وفهم دورالإنسان في الأرض

 

إجمالاً يكتسب المسلم التقليدي معرفته بالدين من ثلاثة مصادر رئيسية

- المجتمع: العرف والتقاليد والنقل والمشافهة

- رجال الدين: خطب، ودروس

- اطلاع: قراءة بسيطة تقتصر على بعض الكتب الرئيسية في الدين والتي تدخل تحت إطار (المعلوم من الدين بالضرورة)

 

إن المصادر الثلاثة هذه، غير معرفية في علوم اليوم، ولا يمكن اعتبارها تنتج علماً حقيقياً.

أما نسبة المسلمين الذين يحصّلون معرفتهم بالدين عن طريق القراءة والاكتساب الذاتي فقليلة جداً، ومن هذه النسبة القليلة نسبة أقل بكثير من تقرأ عن الدين من مصادر متعددة وتقاطع ذلك مع المعارف والعلوم الإنسانية والطبيعية، بينما النسبة الباقية تقرأ عن الدين وعن كل علوم الحياة  بشكل أحادي المصدر، أي من كتب الدين نفسها، وهي التي تكّون معارفهم وقناعاتهم العامة في معظم مسائل الحياة، حتى التي لا تتعلق بالدين نفسه.

 

سيكون من الظلم و الإجحاف تحميل المسلم التقليدي اليوم تبعات أزمة التطرف والعنف التي ترتكب باسم الدين، لا أقصد المسلم المسالم فقط، بل حتى من كان أحد أدوات التطرف والإرهاب ومنفذيه، فالمسلم كائن طبيعي ككل البشر له طموحاتهم وأحلامهم في العيش بأمان وسلام وتحقيق نجاحات شخصية وتكوين عائلة وأسرة وما إلى هنالك، ولم يخلقه الله بطريقة خاصة و زرع فيه خريطة جينية مختلفة عن بقية البشر، وخصص منها كروموزمات خاصة بالتطرف والإرهاب.

المختلف في حالة المسلم أنه وقع ضحية سلسلة من الظروف تحالفت جميعها ضده على مدى قرون لتصنعه على هذه الشاكلة، فكوّن عن نفسه وعن دينه مجموعة قناعات يظنّها -هو فقط- فرادة وتميزاً وسمواً عن غيره من البشر، بينما هي في حقيقة الأمر ليست سوى خليط معقد من نتائج ظروف قهرية، وإشكاليات ذهنية وأزمات نفسية وحضارية وإنسانية.


 

يمكن تلخيص الظروف التي ساهمت في تشكيل قناعات وأفكار المسلم التقليدي كما يلي:

 

1-  ماضي عنفي للإسلام:

منذ وفاة النبي محمد، لم يهنئ المسلمون بأي فترة استقرار معتبرة  تتيح لهم إنتاج فعل وفكر وثقافة حضارية، والمعلوم أن الاستقرار لازمة لأي انتاج حضاري.

الذي حصل أن المسلمين ومنذ فجر الدعوة وحتى اللحظة قضوا جلّ تاريخهم في تحديات وجودية، بين اقتتال داخلي، أو قتال خارجي، وتبعثروا في جماعات وفرق وطوائف كيّفت كل منها فهماً خاصاً للدين يلائم مصالحها، حتى أصبح من الصعب اليوم أن تجد مسلمين اثنين لديهما فهم وتصور واحد للدين، فكيف بأمة من مليار ونصف.؟.

بالنتيجة لعب ذلك دوراً رئيسياً في تشكيل التراث الاسلامي الذي ننهل منه اليوم، وبات إيجاد الرسالة الحقيقية أشبه بالبحث عن نقطة إبرة في كومة قش.

 

لنتجاوز فترة دولة النبي محمد كي لا ندخل في إطار الأخذ والرد وتناول المقدّس، ولنسلط الضوء على ما حدث بعد وفاته عام 11 للهجرة

- دخل خليفته ابو بكر مبكراً في اقتتال مع القبائل العربية فيما سُمي (حروب الردّة)، ثم افتتح سلسلة حروب خارجية تحت ما نسميه (الفتوحات الإسلامية) فأرسل خالد بن الوليد إلى الكوفة بالعراق، و أبو عبيدة بن الجراح إلى حمص، و يزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، و شرحبيل بن حسنة إلى الأردن، وعمرو بن العاص إلى القدس.

- مات أبو بكر عام 13 للهجرة، والدولة الإسلامية خلال أقل من سنتين من عهده صارت أضعاف أضعاف دولة محمد، فامتلكت مساحات شاسعة من الأرض في بلاد الشام والعراق، لم تستطع أن تديرها إلا بالسيف نظراً للعمر القصير للدعوة التي لم تنتج إدارة دولة حقيقية سوى تشريعات عامة استخلصها المسلمون من القرآن ومن سيرة النبي الذي عاش في مناخ وظروف جغرافية وديموغرافية وسياسية مختلفة. ومع إضافة البعد الإنساني والفهم الذاتي للدين لدى الصحابة، استفرد (الفاتحون) بشؤون المناطق التي استولوا عليها، واعتمدوا بشكل رئيسي منهج (الإسلام أو السيف أو الجزية) فتحول كثير من سكّان هذه المناطق إلى الدين الجديد، ليس إيماناً بل خشية وخوفاً، وهو ما لا يحب التاريخ الإسلامي أن يقوله، ويفضل أن يصدّق أن عشرات ومئات الألوف من البشر هبط عليهم وحي الإسلام بين ليلة وضحاها عندما رؤوا لمعان سيوف جيوش المسلمين وهي تدخل مناطقهم.

- بعد ذلك جاء عمر بن الخطاب الذي تابع (الفتوحات) في الشام و أطلق فتوحات جديدة في مصر وفارس وأرمينية، ثم قُتل عمر عام 23  للهجرة طعناً وهو يؤدي صلاة الفجر على ايدي أبو لؤلؤة فيروز الفارسي، ومنهم من قال أنه كان يؤدي مناسك الحج على صعيد عرفة.

- ثم جاء عثمان واستمر بالفتوحات باتجاه الدولة الساسانية وقبرص، ثم قُتل عثمان عام 35 للهجرة خلال ما يسمى (الفتنة الكبرى) والتي نشأت على إثر خلافات بينه وبين الولاة الفاتحين كان محورها أحقية السيطرة على مناطق الثروات والغنائم في البلاد الجديدة.

ثم جاء علي بن أبي طالب، وبعد استلامه الخلافة ببضعة اشهر فقط وقعت معركة الجمل عام 36  للهجرة بسبب خصومة بينه وبين طلحة والزبير ومعهما عائشة بنت أبي بكر زوجة النبي محمد، ثم بعد أقل من عام  وقع خلاف آخر بينه وبين معاوية فدار قتال بين جيشيهما في موقعة صفين رفعت فيها المصاحف على أسنّة الرماح، وقتل عدد فيها من صحابة الرسول على رأسهم عمار بن ياسر، قبل أن يلجأ المتقاتلون للتحكيم، وينشقّ 1200 من مقاتلي عليّ عنه رافضين التحكيم مع معاوية الذي وصفوه بالكافر، وقد شكل هؤلاء ما يعرف بفئة (الخوارج) التي تعدّ أول انشقاق رئيسي وعميق في الإسلام، والغريب أنه حدث بين الصحابة أنفسهم، والنبي لم يمض على وفاته ألا بضع سنين، ثم قتل علي عام 40 للهجرة وهو يؤدي صلاة الفجر في الكوفة على ايدي ابن ملجم.

 

بالمحصلة، وفي صراعات داخلية محضة قضى ثلاثة من أصل أربعة خلفاء قتلاً وهم بين أيدي ربهم خلال أقل من 30 سنة من وفاة النبي، وقضي قرابة 400 من صحابة الرسول اقتتالاً بين بعضهم، ولم يستثن ذلك حتى المبشرين منهم بالجنة، وحصل أكبر شرخ في تاريخ الإسلام بين سنة وشيعة ما نزال ندفع ثمنه حتى اليوم.

لقد حدث كل ذلك قبل أن تُخلق الصهيونية والماسونية وأمريكا (التي تتآمر على الاسلام) بأكثر من 1400 سنة..!! لكن رغم ذلك كانت نظرية المؤامرة حاضرة حتى منذ ذلك التاريخ، و لا بأس في هذا السياق أن يتهم المؤرخون المسلمون الفرس وبني اسرائيل بأنهم وراء مصائب الإسلام من حينه…!!

- لم تنته القصة هنا، عام 41 للهجرة تأسست الدولة الأموية في دمشق على أنقاض دولة الخلافة الراشدة وبدمائها، واستمر بنو أمية بالغزو تحت اسم (الفتوحات الإسلامية) حتى وصلوا اسبانيا، ويسجّل التاريخ هنا أن الدولة الأموية شهدت بروز بوادر حضارية حقيقية، لكن ما لا يحب المؤرخون المسلمون ذكره هنا، أن ذلك حصل تحديداً في أكثر فترات الدولة الأموية تفلتاً وتحرراً من الدين، حيث افتتن الفاتحون القادمون من صحراء الجزيرة العربية بالمدنية والحضارة والتحرر في بلاد الشام واسبانيا، فاعجبهم الأمر، وأطلقوا بعض الحريات، وازدهر العمران و الفنون والعلوم، وشاع انتشار الخمور والمغاني حتى في مجالس الخليفة، مع حفاظ الأخيرين على المظاهر الطقوسية للإسلام، كما أنشئ الخلفاء من حولهم طبقة من رجال الدين تبرر وتهوّن عليهم ما يفعلون، وتعمل على تسليم المبايعين (الشعب) لولي أمرهم وأميرهم، وتحرّم عليهم الخروج عليه، وقد ترك أولئك موروثاً دينياً كبيراً في هذا الإطار ما يزال كثير من المسلمين يأخذون به حتى اليوم.

- لكن الدولة الأموية لم تدم أكثر من 90 سنة، فقد أنهكتها حروبها مع الخوارج والشيعة، فقد تقاتل يزيد بن معاوية والحسين بن علي في كربلاء، وقُطع رأس حفيد النبي ووضع على رمح.

- ثم حصل خلاف دامٍ على السلطة بين هشام بن عبد الملك الذي كان يريد تعيين ابنه مسلمة بدلاً من الوليد، وانقلب الوليد وأخذ الخلافة، وبدأ بملاحقة وقتل كل من أيّد هشام ومسلمة، وقد أدَّت انتقامات الوليد هذه إلى ثوران بعض القبائل التي انتمى إليها ضحاياه، فاجتمع عدد كبيرٌ منها، واستمالوا إلى صفهم ابنه يزيد  فقادهم وجمعَ 1000 رجل منهم وذهبوا إلى قصر الخليفة وقتلوه، وفتحَ مقتله الوليد حروباً لم تنته بين المتنازعين على الحكم.

- استغل العباسيون الذين بدؤوا يتوسعون في خراسان والعراق ضعف الأمويين وواقعوهم في معركة الزاب الكبير سنة 132  للهجرة، وكانت هذه المعركة هي نهاية الدولة الأموية وسُقوطها.

- بعد أن تمكّن لهم الأمر، ونتيجة تحكم الشيعة الحاقدين على بني أمية بهم، قضى العباسيون على سلالة الأمويين عن بكرة أبيها، وأخرجوا عظام من من كان ميتاً من قبل وجلدوها، وقتلوا معظم رجالات الدولة والموظفين الذين عملوا تحت أيديهم، ولم ينج منهم إلا من لجأ إلى الأندلس وهم قلة قليلة.

- رغم بروز فترة ذهبية ازدهرت فيها العلوم والفنون في الدولة العباسية كسابقتها الأموية، إلا أن الاقتتال الداخلي والحروب الخارجية لم تهدأ، بل كانت الأسوأ في تاريخ الإسلام، ونتيجة الكراهية بين السنة والشيعة، وترامي أطراف الدولة، واستفراد الولاة في الولايات بالسلطة، ازدهرت صناعة الفرق والطوائف، حتى بلغ عددها ما يقارب 160 فرقة ومذهباً، وكان لكل منها معتقداتها الدينية الخاصة وشعاراتها وطريقتها في الدعوة لتحقيق أهدافها في إقامة الحكم الذي تريد، ونشأت دول داخل الدولة العباسية وعلى أطرافها، فمن الدولة العقيلية إلى الدولة المروانية اللتين ورثتا الدولة الحمدانية، إلى الدولة البويهية، إلى السلاجقة  في بغداد، إلى الفاطيين في مصر، إلى الأيوبيين والمماليك في الشام، وتزامن كل ذلك مع الحملات الصليبية على بلاد الشام، قبل أن يغزوا المغول بغداد في نهاية المطاف، ويسقطوا الدولة العباسية عام  656 للهجرة عن عمر ناهز 524 سنة جلّها الحروب والفتن والاقتتال الداخلي.

من المفيد التذكير هنا أن أغلب التراث الإسلامي الذي نعتمد عليه اليوم  من تفاسير للقرآن وتوثيق للحديث خرج من أتون التمذهب والتشتت الديني وظهور رجال دين السلاطين في الدولة العباسية، وكان على رأس هؤلاء  البخاري ومسلم في مجال الحديث، وفي مجال التفسير الطبري (صاحب تفسير الطبري)  والقرطبي صاحب (الجامع لأحكام القرآن) وجميعهم من أهم المراجع المعتمدة في الإسلام حتى اليوم، إن لم يكونوا هم الأهم.

 

- بعد ذلك نشأت ممالك كثيرة وقصيرة العمر في الشام ومصروالعراق  كانت تقوم على آثار بعضها وبعد أن تدمرها، قبل أن يدخل العثمانيون  فيحتلوا البلاد العربية ويغرقوها قرابة 500 سنة في الظلام والجوع والكثير من الطقوسية الدينية، واقتادوا شبابها إلى معاركهم في أوربا والبحر الأسود بدعوى (الفتوحات الإسلامية).

- تحرر العرب من العثمانيين بداية القرن العشرين، ولم يتمتعوا إلا بفترات هدوء بسيطة قبل أن يبدأ عصر الانتداب الأوربي الذي ألقى العرب والمسلمين في حالة خضوع وقتال مستمر، ولينتهي عصر الانتداب أواسط القرن العشرين وتظهر معه الأمم المتحدة كمنظمة عالمية أنهت عهود الاحتلال القديم وفتحت صفحة جديدة في تاريخ البشرية، وبينما كان المفترض أن يكون ذلك إشارة إلى أن  فترة الاستقرار ستأتي أخيراً إلى الأمة العربية والإسلامية لتبدأ بناء مستقبلها، وإذ بإسرائيل تظهر - وبقرار من الأمم المتحدة ذاتها- كعدو جديد في المنطقة يحتل الأراضي العربية والإسلامية، وهو ما أعاد استفاقة الصراع المحمدي-اليهودي في جزيرة العرب، وأعاد وصل ما قطعته كل هذه السنين، وأبقى المسلمين في دائرة القتال العقائدي.

- بعد ذلك بدأ في العالم العربي والاسلامي عصر الديكتاتوريات العسكرية  بما تحمله من خراب ودمار وقهر وظلم، ثم لتظهر في إيران (الثورة الإسلامية) وتطلق شعاراتها التوسعية والثأرية، ولتعيد إلى الواجهة أيضاً مشروع الاقتتال السني-الشيعي المستمر منذ القرن الأول للهجرة.

 

بعد هذا السرد السريع الذي يلخّص آلاف المآسي وعشرات الفرق والمذاهب، وملايين الجثث من المسلمين الذين قتلوا تحت راية لا إله إلا الله، سيكون من السذاجة أن نعتبر أن المسلمين أخذوا فرصتهم لينتجوا حضارة حقيقية، و يأسسوا لنهضة فكرية وإنسانية…!!

 

 

 

2-  غزارة وفوضى المعلومات:

فهم الدين معضلة شبه مستحيلة الحل، وذلك لكثرة ما أغرقه رجالاته عبر العصور بالمرويات واللسانيات، وكتبوا ألوف العناوين وملايين الصفحات، ووقعوا في التهافت والسيلان، حتى أصبح البحث عن اليقين فيها عملية شبه مستحيلة.

لنأخذ مثالاً على ذلك  تفسير القرآن الكريم. فقد أحصى الشيخ عبد الرحمن السديس للقرآن وحده  133 تفسيراً نشر أسماءها في قائمة واحدة، علماً أن هذا الاحصاء لم يشمل سوى التفاسير المعتمدة في مذهب أهل السنة والجماعة فقط.

في عناوين هذه القائمة يمكن ملاحظة التهافت بكل وضوح، فمثلاً  لتفسير ابن كثير لوحده هناك 9 كتب مختلفة ولكتّاب مختلفين حملت عنوان (مختصر تفسير ابن كثير)، وهكذا تقف مشدوهاً، فلا تفهم لماذا يوجد 9 مختصرات مختلفة لذات المصدر، ولا تفهم معنى أن يكون المختصر الواحد يقع في مئات وآلاف الصفحات، ولا تفهم لماذا يحتاج التفسير إلى تفسير، ولا تفهم لماذا يوجد بالأصل تفسير للقرآن الذي من المفترض أنه نزل عربياً بيناً واضحاً غير معوج، ونزل لكل الناس على اختلاف مستويات ثقافتهم ...؟!

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) النور 34

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) الكهف 1

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف 2

 

هذا بالنسبة للقرآن فقط، ولك أن تتخيل المشهد عندما تضيف إليها عشرات الألوف من كتب الحديث والسيرة والفقه والعقيدة والدراسات؛ و ملايين من العناوين والصفحات التي تنضح باللغو واللسانيات والحشو والذاتية والتبارز اللغوي، والتي ما زالت تنتَج حتى  اللحظة ولمّا تنتهي بعد، فعدا عن رجال الدين التقليديين المتسابقين للتأليف والتأويل والافتاء، تخرّج المعاهد و الجامعات الإسلامية حول العالم كل عام ألوفاً من الأئمة وطلبة الشريعة من مختلف التخصصات الدينية، وينتمون  لشتى المذاهب الدينية والتيارات الفكرية، و يقوم هؤلاء بالضرورة بضخ مزيد ومزيد من الدراسات ورسائل التخرج والكتب ليضيفوا إلى الفوضى مزيداً ومزيداً منها، وليجد المسلم التقليدي نفسه تائهاً خاضعاً  لتفاسير وارهاصات فكرية ومذهبية وسياسية، ولأمزجة أشخاص وثقافتهم و أفكارهم وتصوراتهم الشخصية و تهيؤاتهم، وربما مشاكلهم النفسية والجنسية، كما تشير الكثير من الكتب التي تتحدث عن ثقافة النكاح.

لقد أنفق من يطيب لنا تسميتهم بـ (علماء المسلمين) على مدى تاريخهم جلّ وقتهم في إنتاج كلام ومزيد ومزيد من الكلام، وأدخلوا الناس في تفاصيل لا طائل منها،  وأقحموا أنفسهم وأقحموا المسلمين في كل شيء وجعلوه ديناً، حتى صار هناك فقه للعمارة، وفقه لركوب الطائرة، وفقه للهواتف الذكية يخبرك كيف تتعامل مع الموبايل وما يجوز وما لا يجوز فيه، وفقه للمعاملات المالية كتبها مشايخ لا علاقة لهم بعلوم الاقتصاد وفروعه، وأصبحوا يناقشون الاقصاد الحديث القائم على البورصات  والائتمانات البنكية والتجارة الالكترونية بعبارات مثل (الربا والشفعة والوقف واللقطة).

هذه بعض أمثلة للكتب التي تنتج على صعيد الفقه فقط، وتضخ في الأسواق وتتحول إلى دروس وبرامج تلفزونية وإذاعية ومحتوى الكتروني يحاصر المسلم أينما أدار وجهه .



 

3-  سيطرة طبقة رجال الدين

هذه الفوضى الهائلة بالمعلومات جعلت المسلم تائهاً ضائعاً يبحث عن طريقه بين غابة من القصب،  وهو ما أتاح لرجال الدين (العلماء) فرصة تسيّد الناس وقيادة عقولهم والسيطرة عليهم،  فأصبحوا هم السادة وهم العارفون بكل شيء، ولا بأس هنا من الاستقواء بالنصوص لتكريس هذه المكانة  ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) ،(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، و هكذا تحول رجال الدين إلى منظومة سيطرة أصبحت آلية اكتساب لا يتخلون عنها، وهذا الاكتساب ليس مالياً فقط (رواتب من الحكومة، عوائد طباعة كتب، أجور ظهور في برامج واستكتابات من الصحافة، مؤتمرات وندوات- سفر وتجوال- تبرعات) بل إنه يأخذ وجوهاً كثيرة (المكانة الاجتماعية والوجاهة - أتباع ومريدون...)،  وعليه بات هؤلاء يدافعون عن هذه المكتسبات بأسنانهم، ويستخدمون الدين وآيات القرآن وأحاديث النبي لتعزيز مكانتهم وترسيخها في عقول البسطاء، مستقوين بذلك ببراعة الخطابة، و حسن الكلم، كما يقومون بحماية بعضهم البعض عبر العصور كي لا يتمكن أي من المسلمين من خرق هذا الحلف المقدس ( البخاري معصوم و مقدس ولا يخطئ عند أئمة المسلمين - اضغط)

 

وقد رضي عموم المسلمين بهذه المقايضة المدمّرة، أولاً تسليماً بما يظنونه أوامر إلهية ونبوية باتباع العلماء (الذين يخشون الله) والامتثال لهم، وثانياً لأنهم بحاجة فعلية لمن يخرجهم من غابة القصب، ويلخّص لهم فوضى الدين بعبارات بسيطة وقصيرة، و أوامر وفتاوي واضحة،  فعموم المسلمين هم أناس عاديون يعملون ويعيلون عائلاتهم ولهم مشاغلهم الحياتية، و لا يملكون ترف الوقت ليدخلوا في هذه المعمعة ويغرقوا فيها، لا بأس إذاً من الذهاب إلى المساجد وحضور الدروس الدينية أو الانصات عبر المذياع، أو مشاهدة برامج المشايخ الذين تولوا هذه المهمة، ومنحهم صدور المجالس، ومنابر الاحتفالات والمناسبات.

 

هذا ناهيك عن الأسباب السياسية المعروفة التي  أنشأت وساهمت في تكريس  طبقة رجال الدين، والتي يلخصها صاحب الربيعي في كتابه  (السلطة الدينية والسلطة السياسية في الوطن العربي)  كما يلي:

" إن أهم خدمة تقدِّمها السلطةُ الدينية للسلطة السياسية هي إضفاء الشرعية الدينية على أعمال الأخيرة. والدلائل على ذلك كثيرة: فقد اختلفت الفتاوى الدينية باختلاف المواقف السياسية. ففي الستينات من القرن الماضي، أفتى محمد شلتوت، الإمام الأكبر للجامع الأزهر، بحرمة الصلح مع إسرائيل، لتُغَيَّر الفتوى في السبعينات من القرن نفسه، فتحلِّل الصلح مع إسرائيل، على لسان محمد متولي الشعراوي، وزير الأوقاف، وعبد الحليم محمود، شيخ الأزهر، وذلك بعد اتفاقيات كامب ديفيد. وهذا يعكس تناغمًا بين الدين والسياسية في الوطن العربي، بما يخدم السياسيين ومشايخهم. وتعدَّى الأمر ذلك إلى أن أضحت هذه الجهات الدينية منخرطةً في مؤسَّسات رسمية، كجزء من السلطة السياسية. وهذا ينطبق أيضًا على الأحزاب السياسية، وخاصة منها ذات التوجُّهات الدينية، فتحاكم مَن يعارضها بناءً على الدينفالحكم إما حلالاً أو حرامًاوتسيِّرُ أمورَها ونشاطاتِها بناءً على المنطق السياسي. فالموقف إما متوافق مع مصالح الحزب أو متعارض معها، دون أن يخضع هذا الموقف أو النشاط للتشريح الفقهي، كما يتم التعامل مع الآخر"

 

رجال الدين.jpg

 

4-  تسطيح العقل:

 إن قلة ثقافة المسلم التقليدي للأسباب المبيّنة أعلاه، واعتماده في معرفته بدينه على رجال الدين الذين امتهنوا عقله، وسطّحوا تفكيره إما بسوء نية (دور يلعبونه لمصالح سياسة أو لمكاسب شخصية) أو بحسن نية (بسبب جهلهم وسهولة تحول أي فاشل وجاهل إلى شيخ)، وأيضاً لبراعة الأخيرين بالوصول إليه بكل الوسائل، واستخدام التكنولوجيا الحديثة (النت- الفضائيات) لمحاصرته في كل مكان، كل ذلك حول المسلم التقليدي إلى وعاء يسهل ملؤه بأية أفكار.

 لقد بلغ الأمر من تسطيح واستسخاف عقل المسلم التقليدي أن استسهل رجال الدين قول أي شيء في أي شيء، طالما الناس مستعدون للتصديق والاتعاظ وأخذ الدروس من الكلِم، فمن الحكايا والقصص المفبركة، إلى قصص الإعجاز العلمي، إلى...إلى..، لا يهم رجال الدين النزاهة العملية والأخلاقية، والأثر السلبي لقول أفكار ومعلومات مغلوطة ولصقها بالدين في زمن بات كل شيء فيه يوثق ويترجم ويصل لأصقاع المعمورة، ويمكن تفنيده بكبسة زر.

وتسابقت الأقنية والإذاعات لملاحقة الجمهور المتعطّش للخديعة على مبدأ (الجمهور عايز كدة)، وفي عصر الفضاء والتكنولوجيا والطب الحديث لن تجد قناة فضائية يشاهدها الملايين مانعاً من أن تبث قناة تقريراً عن الاستطباب ببول البعير، طالما ذلك وارد في كتاب البخاري، أصحّ الكتب بعد القرآن ..!! ( تقرير تلفزيوني عن فوائد بول البعير الصحية - اضغط)

ولا مانع أيضاً أن تجري قناة LBC اللبنانية لقاءً مع سيّاف قاطع للرؤوس يطبق الحدود في السعودية، وأن تتغنى بقطفه للرؤوس اليانعة تطبيقاً للشريعة (تقرير عن السياف البيشي قاطف الرؤوس- اضغط)

و شيخ كبير كنبيل العوضي له ملايين المتابعين يخرج على الفضائيات ليتحدث عن مخاطر سبونج بوب (اضغط)

 

و هاكم الشيخ د.راتب النابلسي الذي قضى عمراً وهو يشرح في كل مناسبة نظرية الإعجاز العلمي في البعوضة انطلاقاً من قوله تعالى " إن الله لايستحي ان يضرب مثلآ ما بعوضة فما فوقها " متحدياً الغرب أن يأتوا بشيء من مثله، وفي كل مرة ينبهر الناس ويسبحون ويثنون على كلام الشيخ وعلمه، دون أن يدركوا أنه لولا علوم الغرب لما عرف الشيخ بالأصل هذه المعلومات غير الموجودة في متن الآية، هذا بغض النظر عن الأخطاء العلمية الفادحة التي يقع فيها الشيخ في كل مرة.

 

و زغلول النجار يتحدث عن الفالق الذي يشقّ القمر انطلاقاً من حديث معجزة النبي محمد بين كفار مكة، ويستدل بدراسات مكذوبة لوكالة ناسا، ورغم ذلك الناس يكبرون ويهللون ويسبّحون ويتناقلون الموضوع كحقيقة ثابتة، وكدليل على إعجاز الدين.

 

وذلكم منصور الكيالي يتحدث عن اختراع الدفع النفاس قبل 1400 سنة من حديث عن (الضراط) في صحيح مسلم، فيحول علمه الفيزيائي إلى سخافة مريرة تجد من يصدقها ويعجب لها.

وعمر عبد الكافي ينقل بإعجاب عن هتلر افتتاحه خطبة عصماء بقوله تعالى (اقتربت الساعة وانشق القمر)، خطبة سمعها عبد الكافي ولم يعلم بها الألمان أنفسهم، ناهيكم عن سوء وخطورة تنسيب كلام الله إلى مجرم قتل الملايين كأدولف هتلر، وإبداء الاعجاب الإسلامي  به لمجرد أنه قتل يهوداً.

وبدل أن يسموا رجال الدين بعقل المسلم وفكره، ويفتحوا آفاق تفكيره نحو الحياة والتعايش وخدمة الإنسانية، انحدروا بعقله وإدراكه إلى الحضيض الفكري والأخلاقي،  فأصبح الأخير ذلك الإنسان المسلوب المستعد لتصديق أي ترهات بمجرد أنه يسوقها شيخ يبرع بربطها باسم بالله أو النبي، واستحضار نص مناسب للحالة.

وهكذا انتشرت دروس الافتاء على الهاتف والنت والفضائيات، وصار المسلم التقليدي يستفتي رجال الدين بكل شؤون حياته، بدءأً من الوضوء وانتهاء بفراش الزوجية.

 

ومن الحوادث الطريفة هنا اتصال أحد المشاهدين على برنامج للشيخ (محمود المصري) على قناة الناس يسأله التالي:

سمعت ان ماليزيا تزمع إطلاق رائدة فضاء محجبة في رحلة على مكوك أمريكي، فهل يجوز يا شيخ أن تختلي المسلمة برجال كفار في الفضاء؟

الأغرب من السؤال كان رد الشيخ المصري: بالطبع لا يجوز… هداها الله.

لم يلفت نظر السائل والمسؤول أهمية هذا الانجاز العلمي للبشرية، وللمسلمين تحديداً، ما لفت نظرهما من الموضوع هو شرعية هذه المسألة…!!

 

5- مفهوم الخضوع والعبودية:

هناك فهم مغلوط لدى عموم المسلمين حول دينهم، فهم تائهون حتى اللحظة بين مفهومين:

- هل هو دين جاء بالقداسة، وبهدف تكليف البشر بأداء مراسم العبودية لله

- أم رسالة فكرية وإنسانية إلى البشرية، نزلت من خالق يريد صلاحهم وسعادتهم؟

 

إن إدراك الفرق بين الاثنين هو إدراك لروح الإسلام ومقاصده، في كونه رسالة تحرر، أم حكم عبودية.

الذي حصل أن الإسلام وقع في فخ القداسة لدى أتباعه، وكأن نزول هذا الدين جاء فقط  لتحويل الناس من عبادة اصنام حول الكعبة، إلى عبادة الكعبة ذاتها، ولقد كرّس رجال الدين فكرة العبودية في الإسلام نتيجة فهمهم القاصر لماهية هذا الإله العظيم وقدرته، فتم تصوير خالق الأكوان الشاسعة التي لا تشكل فيه الكرة الارضية بكل من عليها من كائنات نقطة في محيط، وكأنه متفرع لمتابعة ماذا يفعل هؤلاء  (النقطة) لأجله ولإشعاره بعظمته.

 

يقول الشيخ راتب النابلسي رداً على سؤال (لماذا خلق الله الإنسان؟)

"هذا الكون دليل على وجود خالق عظيم له أسماء حسنى فما يليق بجلال الله أن يتركنا من دون هدف من وجودنا, فما هو الهدف ؟ الهدف هو العبادة أن تعرفه فتطيعه, فتسعد بقربه, العبادة هي الهدف من خلق الكون أو من خلق الإنسان والجن. ربنا عز وجل نفى أن يخلق السموات والأرض إلا بالحق، وأن يخلقها عبثاً، وأن يكون بخلقها لاعباً، وأن يخلقها سدىً، و أن يهمل الإنسان، هذا كله نفاه الله عز وجل وأثبت قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) "

 

ورغم أن جموع المسلمين يتآلفون مع فكرة أنهم خلقوا للعبادة فقط، وأن الحياة الدنيا هي دار فناء وامتحان أعدّت فقط لاختبار قدرتهم على تحمّل الألم والصعاب لإثبات محبتهم وعبوديتهم لله.

إلا أن أي شخص طبيعي وسويّ ستبدوا له الفكرة عبثية وتتسم بكثير من الساديّة، وسينطلق السؤال في رأسه :

"ما هذا الإله الذي خلق الناس ورماهم في أتون أرض تعجّ بالحروب والدماء والآلام فقط لكي يعبدوه، ألم يكن يستطيع أن يخلق كائنات باردة لا تتمتع بالمشاعر والأحاسيس ليؤدوا له تلك المهمة، بدل أن يوضع الإنسان وسط هكذا شرور وعذابات وآلام تمزّقه، ثم يطلب منه تحمّلها فوق كل ذلك..؟"

لن يقول ذلك الملحد فقط، بل سيقوله أتباع الأديان الابراهيمة السابقة (اليهودية والمسيحية) ففكرة الإله في عقائدهم مختلفة تماماً عن مفهوم العبودية الجبرية في الإسلام، فهو هناك يُعبد طوعاً وتقرباً لمن يريد منه المساعدة والخلاص من شرور البشر، وهو ليس ذلك الإله الإسلامي الذي ينهك عباده بأداء طقوس العبودية من مناسك وعبادات وغيرها كي ينالوا رضاه.

 

لقد أصبح مفهوم العبادة وقدسيتها عند المسلم التقليدي مشوهاً للغاية، وأصبح التزاماً جبرياً يعاقب من لا ينفّذه، أكثر منه سمواً روحياً واخلاقياً وسلوكياً، و صار هدف أقامة الشريعة، أهم من فكرة اختيار ما هو صالح للناس في حال تصادمت مصالحهم مع الشريعة.

هذا التفاني في تقديم التنازلات حولت المسلم إلى متلبّس بالدين، والذي صار بالنسبة له أمراً شخصياً، كالعرض والشرف، فإن تكلم عنه أحد بنقد أو بسوء، يشعر بأنه من الطبيعي والواجب أن يستفزّ كل جوارحه وطاقته وعنفه لإيقافه، حتى دون أن يكلفه أحد بهذه المهمة، معتقداً أن ذلك سيكون (في ميزان حسناته). غير آبه بمدى تأثير ذلك سلباً عليه وعلى الدين نفسه، وإمكانية أن يتحول ذلك إلى استعداء جسدي، كما حدث مع فرج فودة ونجيب محفوظ.

والملاحظ هنا أن الدين ليس القرآن والحديث بالضرورة، بل هو البخاري وابن تيمية والعريفي وسواهم، فالاقتراب من أي من هذه الأقانيم هو اعتداء على الإسلام، وهنا تكمن خطورة المسألة… حين يتطوع المسلم التقليدي لحماية للكهنوت، رغم أنه (لا رهبانية في الاسلام).

 

6- العبادة بالترهيب

من ضمن آليات القيادة والسيطرة المتبعة في التراث الإسلامي الترهيب، وهي سلسلة مروّعة من الأحكام والعقوبات والجزءات في الدنيا والآخرة، تحوّل المسلم إلى هدف مشروع لماكينة تعذيب رهيبة على أيدي وحوش لا يتمتعون بأي رحمة في حال لم يلتزم بدينه، وهكذا تتحول الرسالة التي جاءت لصالح الإنسان وتحريره وسموّه، إلى فيلم رعب على المسلم أن يشاهده ويعيش لحظاته دوماً كي يتّعظ..!!.

قلة من درسوا الآثار النفسية لهذه الثقافة، ومدى تأثيرها في عقل المسلم، والآثار السلبية التي تنشأ عنها.

لقد برع رجال الدين على مدى التاريخ الإسلامي في استخدام أسلوب الترهيب لتدجين العامة وتطويعهم ودفعهم للالتزام بما يظنونه (ديناً)، ويندر ألأ تسمع رجل لا يلجأ لهذا الأسلوب القهري لتثبيت سيطرته على الجموع، ولتسطيح عقولهم، وحتى أيضاً لمداراة جهله وقلة ثقافته حينما يصادفه مأزق ما، فإذا سأله أحدهم عن مسألة ما فيها شكّ أو ريبة ، يكفي الشيخ أن يقول له:

ألم تسمع قوله تعالى  ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) 

فيتحول السائل إلى ضال، ويصبح السؤال خطئاً يستوجب الاستغفار والتوبة، وبالنتيجة تتحطم ماكينة الشك والإدراك عند المسلم، وهي لوازم حقيقة لأي عملية إدراك.

ويبقى الفضاء طلقاً للمشايخ ليقولوا ما يشاؤون (وجدي غنيم رداً على من نفى العنف في الاسلام: من لا يعلم أن النبي قتل معارضيه ومنقديه وقطع رؤوسهم فهو جاهل بدينه- اضغط

كتب تارك الصلاة.jpg

 

من أشكال ثقافة الترهيب مسألة عقوبة تارك الصلاة:

فهناك عشرات إن لم نقل مئات المشاهد المرعبة التي تم تصويرها بخيال سادي في كتب التفسير والسيرة، تتحدث عن عقوبات تارك الصلاة، والأهوال التي سيواجهها، حتى صار أمر الصلاة طقوسياً شكلياً جداً ومجرد حركات تؤدّى، و صار أداؤها أهم من أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وسيحاسبه المجتمع على الأولى بقوة وعنف، وسيكفّره ويستحل دمه (إن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، أما عدم الالتزام بالثانية (تنهى عن الفحشاء والمنكر) فهذه مسألة أقل أهمية، و تُلتمس له فيها الأعذار، و يستطيع مرتكبها أن يتوب عنها متى شاء و مهما مارس من شرور، وستتم مسامحته، أو يكفيه أن يرضي غرور (إلهه المصطنع ) بالرطن ببعض (الأوراد) ليمحو له ذنوبه ويعيده طاهراً كيوم ولدته أمه.


 

من أشكل ثقافة  الترهيب ايضاً مسألة عذاب القبر:

تحتل ثقافة (عذاب القبر) جزءاً هاماً من التراث الاسلامي، وقد أبدع فيها المفسرون ورواة الحديث، واليوم يستخدمها رجال الدين بكثرة في خطبهم ودروسهم،  ويسوقون لك قصص الشجاع الأقرع، والحفرة  والثعبان وغيرها من المشاهد المروّعة التي لم تثبت صحة معظمها حتى في القرآن والسنة، لكن لا بأس من استخدامها لهدف نبيل وهو الهداية…!!.

ومع تقدم التكنولوجيا، استخدم رجال الدين هذه الوسائل الجديدة، ونقلوا رعب القبور من الكتب إلى الشاشات، حتى صارت أفلام الرعب في هوليود مجرد تسلية أمامها، ففزعك من الأخيرة ينتهي منذ لحظة نهاية الفيلم وإدراكك أن ما رأيته مجرد تمثيل و أوهام، لكن مع النسخة الإسلامية منها فإن الرعب بلا حدود، فما تراه ليس وهماً، بل شيء سيصبح حقيقة وستكون أنت صحيته.

و كنوع من الواقعية قام مشايخ كبار بتصوير حلقات تلفزيونية داخل القبر ليذكروك لما ينتظرك، كالشيخ نبيل العوضي نبيل العوضي (العوضي داخل القبر- اضغط)

وذاك شيخ آخر قام شخصياً بتجريب الموت والدفن، ولتتحول إيمانياته ممزوجة مع الخوف الطبيعي من الأماكن المغلقة إلى رهاب حقيقي سيجعلك تظن وتقتنع وترتدع من عذاب القبر : (شيخ إماراتي يجري ظلمة القبر 20 دقيقة- اضغط)

 

عذاب القبور.jpg


 

7- استعداء المخالف:

رويداً رويداً، ونتيجة هذا الضخ العدائي المستمر في عقولهم من قبل رجال الدين ومن التراث الاسلامي القتالي (الجهادي)، تحول كثير من المسلمين التقليديين إلى حماة للدين، فتجد المسلم التقليدي في كثير من الأحيان يتدخل بشكل فجّ بشؤون الآخرين، لتغيير ما يعتقده منكراً، ويظن نفسه آثماً إن لم يفعل، وقد لا يتورع بعضهم عن استخدام العنف في سبيل ذلك، وقد سمعنا بقصص الجماعة النسائية السلفية التي ظهرت في مصر عام 2011، وصارت تستوقف غير المحجبات في الشارع، فيحاصرنهنّ وينصحوهنّ بلبس الحجاب كي لا يكنّ فتنة للشباب، ومن ترفض منهن يرمينها بماء نار (الأسيد) ليتركن في وجهها أثراً وذكرى إسلامية لن تنساها.

 

لقد تحولت منظومة السيطرة الدينية إلى ما يشبه القفص الذي يحيط بالمسلم التقليدي من كل الجهات، والمشكلة أنه اعتاد عليه وألفه، فأصبح لا يريد التفكير والتحليق خارج قضبانه حتى لو فتح له الباب،  ويصوّر له الأمر على أن أي محاولة لفعل ذلك هي تفلّت وضلال وانحلال، ومن لا يأبه للامر ويخرج خارج القفص، يصبح بالنسبة للبقية هو منفلتاً وخصماً وعدواً، ويصبح هو المستهجن ، وهو المرفوض، وتنقلب المفاهيم هنا رأساً على عقب، فيغلب شعور الجماعة، وغريزة القطيع، ويصبح المألوف هو الصحيح، وليس الصحيح هو الصحيح.

 

فمثلاً عندما يشكك احدهم بالبخاري الذي نسب إلى النبي محمد زواجه بطفلة من 6 سنين، ونقل عنه التداوي ببول البعير، ومشاركته بقتل الأسرى، ودعوته لقتل من انتقده، ويحاول أن ينزهه عن هذه الأفعال، يهبّ المسلمون التقليديون للدفاع عن البخاري  بكل بسالة، غير عابئين بالنبي نفسه وسمعته، وأنهم بدفاعهم هذا إنما يثبتون ما نقله البخاري عنه من تصرفات وسلوكيات تضع اشارات استفهام كثيرة حول حقيقة نبوته وطهرانيتها، وهذا تماماً ما حصل مع محمد شحرور و اسلام البحيري مثلاً، لقد كان فريداً وغريباً أن يقوم كثير من المسلمين المعارضين للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي -ومنهم الأخوان المسلمون-  بمباركة خطوة سجن البحيري وإسكاته ومحاصرته ومنعهه من الظهور على الملأ، في حين ما يزال الفضاء رحباً لمشايخ مثل الحويني ومحمد حسان وعمر عبد الكافي ليبثوا الكراهية في عقول ملايين من المسلمين الذين يجلسون أمامهم بالقرفصاء إنصاتاً وإعجاباً.

 

 

8- نظرية المؤامرة:

تلعب نظرية المؤامرة دوراً محورياً في عقل المسلم التقليدي، يعزز ذلك أنها جزء أصيل من المنظومة الدينية ككل، ولا داعي هنا لإعادة سوق النصوص التي تتحدث عن مكر اليهود وخديعتهم، والنصارى وخبثهم، و المنافقين وكذبهم، و الكفار ومؤامراتهم.

لم يذكر التراث الإسلامي كله ولا في أي موضع منه مثلاً، احتمال أن يكون ولو واحد من القرشيين الذين رفضوا الإسلام في مكة معارضاً للنبي كأي معارض سياسي اليوم، فالتراث الاسلامي يسلبه حتى حقّه في حرية الفكر والمعتقد، ويحوله في التاريخ إلى جاهلي وكافر دميم سيء الخلق والخلقة (كما ظهر في فيلم الرسالة) و متهم يجب قتله، بل يتم التغنّي بطريقة قتله و تبجيل الإساءة لمعتقده، وكم من المسلمين غرغرت عيونهم بالدموع لرؤية الأصنام تحطم حول الكعبة في الفيلم ذاته، وكم منهم بارك ما فعله المسلمون ببني قريظة عندما أخذوهم جميعاً بجريرة بعضهم حتى لم يبق يهودي واحد من المدينة ولا مسيحي واحد من نجران في السعودية اليوم، وكم منهم  تغنى ببطولات الفاتحين في الأندلس الذين خيروا الناس في بلادهم وأوطانهم وعلى أرضهم بين الإسلام أو القتل، وكم منهم شعر بالسعادة وربما احتفل وهو يرى طائرات بن لادن تدكّ برجي التجارة في نييوركوتقتل آلاف (الكفار) عام 2001..؟!!

يحدث ذلك  في نفس الوقت الذي يستغرب فيه (المسلم التقليدي نفسه) ويستنكر ما يقوله المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب، ويعتبره عدواً للمسلمين والإنسانية ومريضاً بالإسلاموفبيا (هو كذلك بطبيعة الحال)، على الرغم من أنه -المسلم-  يتمتع بكامل حقوقه الدينية وممارسة شعائره الإسلامية في قلب بلاد ترامب بل والدعوة لدينه على الملأ، بينما هو في بلده الأصلي يتململ من المسيحيين، ويسلبهم حقوقهم ومواطنتهم، ويعتبر رغبتهم ببناء كنيسة جديدة تستوعب مصليهم عملاً عدوانياً، ويحرم المسيحي من التبشير لدينه في بلده، ويعتبر ذلك خروجاً عن الطاعة وسلوكاً يستوجب الرد بكل الوسائل،  ويصرّ على أن يكون دين الرئيس الإسلام، و أن تكون أحكام الدستور مستمدة من الإسلام، وهنا يحضرنا ما قاله أحد القيادات الأخوانية في مصر ذات يوم، مهدداً أقباط مصر بعد أن تحوّل مسلم مصري إلى المسيحية وآوته الكنيسة:

"انتبهوا يا أقباط مصر، واتقوا غضبنا، ولا تنسوا ما فعله عمرو بن العاص بكم"  


 

بالتأكيد توجد هناك مؤامرات كنوع من الخديعة السياسية، والسياسة بحد ذاتها هي تآمر لخدمة المصالح، وهو أسلوب اتبعه حتى النبي محمد في غزواته (الحرب خدعة)،  لكن كمّ السذاجة الموجود في نظرية المؤامرة لدى المسلم التقليدي، وتعميمها بهذه الطريقة لتبرير أخطائه وهزائمه، قد يشير أحياناً إلى مشاكل عقلية يمكن توصيفها.

فمعظم المسلمين مثلاً يؤمنون أن كلاً من التوراة والانجيل قد تنبأ وأعطى دلالات ونصوصاً صريحة بظهور النبي محمد، قد يكون ذلك صحيحاً، لكن الاستنتجاج الغريب الذي يقدمه المسلمون ليبرروا عدم دخول جميع المسيحيين واليهود بالإسلام، أن أولئك قاموا بإخفاء تلك الآيات والعلامات من كتبهم، لأنهم يعلمون أن الإسلام هو دين الحق وهو الدين العدل، وعلى هذا الأساس يقتنع المسلم التقليدي وبشكل عجيب بأن اليهود والمسيحيين يعلمون أنهم على خطأ، لكنهم لن يتبعوا الدين الصحيح وسيدخلون جهنم راضين فقط نكاية بالمسلمين…!!!

 

التراث الإسلامي يسمي لنا كل نص ديني يتضمن قولاً أو فعلاً يسيء لصورة المسلمين ولا يقدمهم كأبطال، يسميه (اسرائيليات) تم دسّها، ويسمي قتلة الخلفاء والصحابة بالمتآمرين الذين يريدون تهديم الإسلام، لكن عندما يصل الأمر إلى صحابي مثل عمار بن ياسر كان النبي قد قال له "ستقتلك الفئة الباغية" يبدأ بالتبرير لمعاوية وجيشه، وبتمس له الأعذار، ثم يتغني بفتوحاته التي أعزّت الإسلام والمسلمين.

نظرية المؤامرة حاضرة بقوة اليوم على خلفية ما يحصل في سورية، لا أتكلم فقط عن السياسة، بل أقصد مسألة اللجوء في أوربا، فهناك كثيرون من المسلمين يعتقدون أن ألمانيا استقبلت اللاجئين السوريين لمؤامرة تخفيها عليهم، فمن قائل بأنها تحتاج اليد العاملة، إلى قائل بأنها تريد إفساد المسلمين وتنصيرهم...إلى إلى.

وهكذا تتحول الفضيلة إلى مؤامرة، ويصبح من يساعدك ويقدم لك العون بعد أن لفظك أخوك المسلم من بلده، يصبح مذموماً، وتأخذ منه المساعدة والعون ومستحقات شعبه باستحقار، وتقول في نفسك (عليهم أن يدفعوا ضريبة احتلالهم لنا ذات يوم - هذا واجبهم لأنهم لم يطيحوا ببشار الأسد)...!!!

نظرية المؤامرة تحول المسلم إلى الشخص الذكي الوحيد على وجه الأرض، الفاهم لكل ما يحصل ولا يمكن خداعه، المتنبه إلى كل التفاصيل، لكن لسبب ما فإن كل هذه النباهة والفطنة لم تفلح في تحسين واقعه…!!!

 


 

ج- آليات الدفاع عند المسلم التقليدي

يمكننا التمييز بين نوعين من الدفاع عند الكائنات الحية:


1- الدفاع الغريزي:

وهو ما يشترك به الإنسان والحيوان معاً، كنوع من الإجراءات الطبيعية التلقائية لمواجهة التهديدات التي يتعرض لها الكائن الحي، كدفاع الحيوانات عن مناطقها وأبنائها، يقابله عند الإنسان بالإضافة إلى ما سبق (الدفاع عن الأرض والأولاد و...) مواجهته لمن يهدده بالتعنيف اللفظي كالسب والشتم والتقذيع.
هذا النوع من الدفاع ينتج عند الشعور بالتهديد أو الخوف أو الغضب، حيث يزداد إفراز الأدرينالين في الدم، مما يؤدي إلى زيادة نبضات القلب وارتفاع الضغط الشرياني، و ضخ  مزيد من الدم والأوكسجين في العضلات وهو ما يمنحها قوة زائدة عن المعتاد، وبالنتيجة يتأهب الجسم ويصبح وضعية الاستعداد للمواجهة والهجوم والتصرف بعدوانية.

عصبيباً يؤثر تبدل هذه الحالة الكيميائية على الدماغ،  فيغيب التفكير السليم وتتشتت الأفكار وتأخذ السلوكيات طابعاً عصبياً تلقائياً، ويفتقد الكائن للحكمة والرشد في الرد، وهذا ما نجده مثلاً عندما تجد أم ابنها في منتصف شارع وثمة سيارة مسرعة تتقدم نحوه، فهي وبتلقائية ودون تفكير تركض نحو ابنها وتحتضنه، دون ادراك أن السيارة ستصدمهما معاً.

2- الدفاع العقلي (الذهني):
هذا النوع من الدفاع يتميز به الإنسان دوناً عن غيره من الكائنات الحية، فهو يعتمد على آليات المنطق والتحليل والاستدلال و القياس والمحاكمات العقلية، ويميل إلى استخلاص النتائج والعبر، وبناء على هذه الميزة تم وصف الإنسان في علم الحياة الطبيعية بـ (الحيوان العاقل)، فقد حباه الله دون سائر خلقه بقدرات عالية من التفكير والذكاء.
هذان النوعان من آليات الدفاع موجودان لدى الإنسان، لكن هذه العملية تختلف من شخص لآخر، وكلما ازداد الإنسان ذكاءً وهدوءاً و علماً وثقافة، تزداد قدرته على حل المواجهات والمواقف بالتفكير والتحليل (الدفاع العقلي).

علم النفس يقول أن هذين النوعين يعملان لدى الإنسان بشكل متعاكس، فصعود أحدهما يكون على حساب هبوط الآخر، وأن أغلب المواجهات المتكافئة (التي لا تستخدم فيها وسائط القوة المفرطة) تكون الغلبة فيها في نهاية المطاف للإنسان الهادئ الذكي وصاحب الحيلة (الدفاع الذهني)، على حساب الغاضب صاحب القوة والعضلات (الدفاع الغريزي)، حتى أن هذه المواجهات كثيراً ما تنتهي قبل حدوث أي تماس مباشر.
 

 

 


  ح - ردود  

كل ما سبق كان ضرورياً ولازماً حتى أنتقل منه للتعقيب على الردود، فهي ستوفر علي الكثير من عناء الشرح:
للأسف، ومن خلال الردود التي قرأتها على المقالة بشكل خاص، ومن خلال التصريحات و السلوكيات المعتادة للمسلم التقليدي في مواجهة التحديات والهجوم الذي يتعرض له بشكل عام، نجد أنه يغلب عليه أسلوب الدفاع الغريزي، وليس العقلي.
أسباب ذلك كثيرة ومتداخلة وتحتاج إلى بحث من متخصصين، لكن عدا أن ذلك يعود بشكل رئيسي إلى قلة الثقافة والوعي، إلا أنه لا يمكن إغفال دور التربية الدينية والمجتمعية التي وصفناها أعلاه  في تحويل المسلم التقليدي إلى ذلك الكائن العصابي الذي يغلّب الغضبَ على العقل حين يعتقد أن أحداً يتعرض لدينه، لذلك مثلاً لم يكن من الصعب أن تتسبب رسومات مسيئة للرسول رسمها فنان دانماركي عام 2006 ، واخرى نشرتها مجلة شارل ايبديو عام 2014 ، لإلهاب مشاعر الملايين من المسلمين غضباً ووعيداً حول العالم، وليخرجوا طواعية و ليقوموا بحرق السفارات والتحطيم والتكسير بل والقتل تحت شعار (إلا رسول الله)، و في حين أنهم خرجوا للتظاهر للقول بأن محمداً هو (نبي الرحمة) فإنهم فعلوا كل شيء يثبت عكس ذلك.
مع ملاحظة أن المسلمين بالمحصلة فعلوا ذلك لأجل رسوم كرتونية ضد شخص مات منذ 1400 سنة ولن يضيره الأمر في شيء، فيما يصمتون في ذات الوقت تجاه مقتل مئات الألوف من أتباعه أمام أعينهم، ولم نر طيلة 5 سنوات مظاهرة واحدة ذات قيمة في العالم الإسلامي لأجل السوريين...!

 

سأعقب على الردود التي قرأتها لمادة (كيف يتحول المسلم إلى إرهابي) من خلال عناوين وتصنيفات عريضة:

 

1- لماذا لا تتحدث عن إرهاب الأديان والدول الأخرى؟

هذا سؤال لا يبحث عن جواب، هذا سؤال معدّ للتهرب من تحمّل المسؤولية،  ولوضعك أمام امتحان مفتعل للمصداقية، بقصد محاصرتك والتقليل من أهمية ما تقول، وتغيير مسار النقاش والفكرة التي تطرحها، فهو يطالبك عندما تتناول مسألة العنف في التشريع الاسلامي، أن تقدم قائمة (ليستة) بانتهاكات الدول والأديان الأخرى كي تثبت أنك غير منحاز، وإن لم تفعل أنت ، يتبرّع المعلقون للقيام بالواجب، ويبدؤون بتذكيرك بالحروب الصليبية واحتلال فلسطين و غزو أمريكا للعراق وسواها ويغرقونك بالقصص والصور والفيديوهات، ويتركون الأمر لعواطف الناس ومشاعر المظلومية لديهم،  ليغيروا محور الحديث وينقلوه إلى مكان آخر، وبينما تكون أنت تطرح قضية محددة وواضحة، تجد نفسك بعد حين مضطراً للدخول في معركة حسن نوايا، ولتقديم تنازلات عن أطروحتك، ونشر توضيحات واعتذارات تدفع فيها عن نفسك تهمة التبرير للمجرمين الآخرين، ونكرانك لأصلك وقومك ودينك.

 

إجمالاً هذه العملية تشبه الحالة النفسية المعروفة لمصاب بمرض مخجل كالإيدز، حيث يقوم المريض بمحاولة نقل العدوى لأكبر عدد من الناس كي يتغلب على شعوره الذاتي بأنه الوحيد.

وهنا أسأل التالي:

- هل إذا أشرنا إلى انتهاكات الأديان الأخرى يعني أن ما يرتكب باسم الإسلام يصبح مبرراً ومقبولاً؟

- ولماذا هذه المقارنة الاجبارية، ونحن الذين نقول عن الإسلام أنه دين الله الذي لن يقبل سواه (إن الدين عند الله الاسلام)، وهو الدين الكامل الصالح الخاتم الناسخ لما قبله، فلماذا يجب أن نضعه على ميزان المقارنة مع هو أقل وأقدم وأدنى منه؟

تخيل مثلاً لو أن أحد النواب الألمان انتقد حكومة بلاده بسبب وجود شارع غير مؤهل في إحدى الولايات، هل تعتقد أن كافة أعضاء البرلمان الألماني سيثورون عليه ويبدؤون بالقول (قبل ان تتكلم عن شوارع ألمانيا هل رأيت شوارع سورية، هل تعلم كم شخصاً قتل في شوارع مصر بسبب سوئها؟.....)...!!!


 

2- لا أعلم، لكنك بالتأكيد لا تعلم:

من الردود العجائبية التي يكررها كثيرون ويقذفونها في وجهك ككرة ثلج (لست متخصصاً في العلوم الدينية كي أناقشك وأفنّد أقوالك، لكن فهمك مغلوط، وما قلته خاطئ)

هو لا يعلم عما تتحدث، ولا يملك الحجة لمواجهتك، ولا يريد أصلاً مناقشتك لأنه غير متخصص، لكنه متأكد بأنك مخطئ.!!!

لقد كانت مقالتي السابقة طويلة، وغالباً المقالات الطويلة لا تحظى بقراءات كثيرة، وبعد أن ناقشت بعض من علقوا عليها تأكدت أن كثيرين ممن علقوا واتهموا وأخذوا مواقف حدية، لم يقرؤوها حتى، وحكموا عليها من العنوان أو من السطور الأولى، أحدهم قالها لي صراحة، فبعد أن ناقشني لنصف ساعة لم يترك فيها اتهاماً إلا ونثره في وجهي، ولما واجهته بحقيقة أن بعض الأفكار التي يتهمني بها لم أقلها حتى في مقالتي، عاد وقاد لي (بالحقيقة لم أقرأ المادة… لكنني قرأت ردّ الدكتور وائل حبنكة وانتقاداته لها، وهو رجل عالم وابن عالم، وأنا أثق برأيه)

إن طبيعة هذا الرد تشير إلى أمر هام، وهو استصغار المسلم التقليدي لعقله أمام من يسميهم (العلماء)، فهو لا يجرؤ على نقاش أمور الدين، ويعتبر نفسه أدنى من أن يفعل، فيتبنّى رأي رجال الدين الذين يثق بهم، ويعتبر رأيه رأيهم.

هذا الأمر يعيدنا إلى ما شرحته حين تحدثت عن الظروف التي شكّلت عقل المسلم التقليدي، ويعيدنا إلى مسألة آليات الدفاع عنده.


 

3- تطرح مشكلة دون حل:

لم ادعّ يوماً أنني أملك حلاً للمشاكل والأفكار التي أطرحها، فأنا مثل أي شاب سوري ومسلم  وجد نفسه في أتون أزمة ومعركة كبيرة تتمحور حول دينه وهويته، وصار الأمر يمس حياته وأمنه الشخصي، وهو يحاول أن يبحث عن مخرج ولمّا يجد بعد، ناهيك عن أن هذه معضلة لم تستطع أمة كاملة أن تحلّها بعد، فكيف يطالب شخص واحد بذلك.

ثم إنني وبحكم كوني صحفياً، فإن مهمتي الأساسية هي طرح القضايا والمشاكل وليس حلّها، فالصحفي عندما يتحدث مثلاً عن وجود فساد في مؤسسة ما، ليس مطلوباً منه أن يحقق مع الجناة ويحاسبهم ويقتادهم للسجن، فهو يملك صوته ومنبره فقط، وهو ليس مؤسسة قائمة لها آليات تنفيذية ومحاكم وسجون وجهاز شرطة.

ورغم ذلك أعتقد أن مثل هذا الرد، ومثل هذه النقاشات التي نفتحها الآن هي نوع من الحلول، فتشخيص المرض يسبق العلاج ووصف الدواء.

 

4- إنه ليس الوقت المناسب، وأنت تساعد الأعداء بتكريس فكرة الارهاب عن المسلمين:

أصحاب هذا الرأي يقولون إنه ليس الوقت المناسب لفتح موضوع فكري كعلاقة العنف بالدين، وأن نقاشه على الملأ ونشر الشبهات و الانتقادات حوله (سيما عنما يأتي على يد مسلمين أمثالي ويتواجدون في الغرب)  هو أشبه بطعن الضحية، ومساعدة  الجاني وتبرير جرائمه، فالمتربصون كثر، والذين يقتلون ويظلمون الناس بحجة مكافحة الارهاب يستخدمون هذه التصريحات لتبرير الاستمرار بجرائمهم.

 

هذا الرد رغم أنه شكلاً يدخل تحت بند (نظرية المؤامرة) إلا أنه جدير بالاهتمام والملاحظة، وفيه بعض المنطق. سأرد عليه على مستويين:

 

أ- إذا نظرنا للموضوع بشكل راهني، سنجد بالفعل أن بشار الأسد والسيسي والحشد الشيعي في العراق يستخدمون حجة مكافحة الارهاب لقتل وقمع المسلمين وترويعهم وكسر إرادتهم، وتكريس حكم قهري ظالم فوق رؤوسهم، ونجد على الطرف المقابل أن دول العالم تغضّ النظر عن انتهاكاتهم في سبيل هذا الهدف.

لكن رغم قسوة المشهد، هل يعني ذلك أن نصمت عن أخطاء ترتكب باسمنا، وتحملنا المسؤولية، ويكلفنا استمرارها الكثير؟

هنا نعود بالذاكرة إلى بدايات ظهور النصرة عام 2012 وإعلانها تبعيتها للقاعدة ودخولها كطرف إلى جانب الثورة، عندما غضّ معظم السوريين -بمن فيهم قيادات المعارضة- النظر عن مشروع النصرة الجهادي، وتجاهلوا  انتهاكاتها التي بدأت تظهر، ومنها حادثة قتل طفل في حلب بحجة سبّه للنبي، ثم رجم امرأة زانية، وقطع يد سارق، وغيرها من الحوادث، حينها كان معظم السوريين يقولون في قرارة أنفسهم  (إنها الحرب، الأخطاء تحصل… المهم أنهم يقاتلون الأسد الآن، وسنناقش الموضوع لاحقاً) وعليه سامح السوريون المجاهدين (الذين تركوا أموالهم وديارهم وجاؤوا نصرة لنا) وقبلوا بمبدأ دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، دون أن يعوا حقيقة أيهما هو الأكبر وأيهما الأصغر،وهكذا وفّروا  لهذا التنظيم الإرهابي حاضنة شعبية وشرعية ثورية، وقدموا ذلك كهدية على طبق من ذهب  للأسد ليثبت نظرية محاربته للإرهاب، وليستجلب كل القوى الشريرة في العالم لتقاتل معه، ولتحميه روسيا في مجلس الأمن وترفع الفيتو ثلاث مرات بحجة أنه من الخطأ إسقاط نظام شرعي يحارب الإرهاب، ثم لينضم المجتمع الدولي بغالبيته إلى قافلة الروس بعد أن ظهرت داعش (الابنة الشرعية للنصرة) وتعلن الجهاد العالمي، وتقوم بالفعل بتنفيذ تهديداتها في العمق الأوروبي.

هل يحتاج الأمر لعملية حسابية معقدة لإدراك كم خسرنا منذ العام 2012 من ضحايا ودمار وعذابات وآلام بسبب ذلك، وهل كان يجب أن ندفع كل هذا الثمن طيلة 4 سنين قبل أن تخرج المظاهرات في معرة النعمان، وتكشف النصرة عن مشروعها التدميري للثورة السورية؟ وهل لو أننا عرينا التنظيم من حينه ولم نوفر له المأوى والمبرر، كان لكل ما حصل -أو لجزء منه- أن يحصل؟ جواب هذا السؤال هو تماماً الردّ على حجة (هذا ليس وقته).!!

 

ب- أما إذا نظرنا إلى الموضوع من الناحية الاستراتيجية بعيدة المدى، فإن طرح هذه المكاشفات على قسوتها هو استحقاق قادم لا محالة، بل لقد تأخّر كثيراً حتى استفحل ووصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من التأزّم، والتي حدثت وتفاقمت  تحديداً بسبب عدم نقاش المسألة بجدية طيلة عقود وقرون، وتركها تتفاعل وتترسخ على يد الساسة كنصوص أصبحت جزءاً من الدين يدافع المسلمون عنها اليوم.

على مدى التاريخ الإسلامي تم قمع وإسكات معظم الحركات التنويرية والتجديدية في الإسلام بشكل مبكّر ومنذ مهد الدعوة، وهنا لا بدّ من المرور بسرعة على المعتزلة الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري  في البصرة كحركة اصلاحية دينية وسط أمة انقسمت على نفسها بين سنة وشيعة، وقد نادى المعتزلة بتقديم العقل على النقل، وأحدثوا ثورة فكرية حقيقية،  كانت لتغيّر واقع المسلمين اليوم.

 

يقول أحمد أمين عنهم في كتابه (ظهر الإسلام):

"كان للمعتزلة منهج خاصّ أشبه ما يكون بمنهج من يسمّيهم الإفرنج العقليين، عمادهم الشكّ أوّلاً والتجربة ثانياً، والحكم أخيراً. وللجاحظ فى كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشكّ، وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلاّ إذا أقرّه العقل، ويؤوّلون الآيات حسب ما يتّفق والعقل كما فعل الزمخشري في الكشّاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجنّ لأنّ الله تعالى يقول: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) ويهزأون بمن يخاف من الجنّ، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، و يؤسّسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل و فلسفة اليونان"

إلا أن ما حدث أن المعتزلة  تعرضوا للقمع لأسباب سياسية بحتة على يد الخليفة العباسي المتوكل، وتمت ملاحقتهم وأحرقت كتبهم، وتم تكفيرهم، وكان الثمن الأقسى لقمعهم خلّو الجوّ لظهور كتبة الحديث الذين أضاعوا المسلمين فوق ضياعهم، ولو لم يتم قمعهم وأخذوا فرصتهم لعشنا إسلاماً آخر اليوم. الغريب في الموضوع أن  معظم المجامع الدينية اليوم وبعد مرور 1200 سنة على قتل آخر معتزل، لا تذكر منهم سوى قصية (خلق القرآن) وهي قضية فلسفية عميقة، و تعتبرهم فرقة ضالة، بل اتهمهم (شيخ الإسلام) ابن تيمية بالإلحاد:

"لكن معنى التوحيد عندهم يتضمن نفى الصفات... وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته، ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد، وإرادة الكائنات والقدرة على شيء"

والأغرب أن مثل هذه التهم هي ذاتها التي ما زال يرطنها المسلمون اليوم ضد كل من يخرج عن المألوف ويحاول إصلاح المنظومة الدينية.

(للاستزادة حول حكم المعتزلة لدى الفقهاء اليوم - اضغط)

 

 

5- الظلم سبب الإرهاب

أحد الأساتذة  المعلقين كتب رداً يقول فيه أن سبب الارهاب هو الظلم، وذكر مجموعة من المظالم التي تطال المسلمين اليوم، رغم انني كنت ذكرتها بنفسي في متن المادة الأولى.

بالتأكيد إن أحد وجوه الإرهاب هو قضية المظلومية، وكما سبق و ذكرت، لا ينكر عاقل الظلم الذي يتعرض له المسلمون، لكن عودة لهذا التبرير، أي ظلم يبرر أن يقوم مظلوم بقتل مظلومين ؟

ثم من قال أن  فكر العنف في الإسلام هو قضية القرن العشرين، هل نظرنا نظرة عادلة ومحايدة لتاريخ المسلمين؟

هنا أعيد السائل إلى ما كتبته أعلاه في (الظروف التي ساهمت في صناعة المسلم التقليدي)

 

 

6- الارهاب يقتل من المسلمين أكثر من غيرهم:

صحيح وغير صحيح؛

صحيح إذا اعتبرنا أن من تقتلهم داعش في سورية والعراق مسلمون، لكن التنظيم يملك من الأدلة ما يكفي ليقول أن من قتلهم مرتدين وكفرة، وتبرير ذلك بسيط للغاية، كثير من كتائب الجيش الحر تتبع لقوى سياسية في الائتلاف والمعارضة، وهذه القوى تأخذ الدعم والتمويل من دول أجنبية يعتبرها المسلمون دولاً صليبية وكافرة، هنا ببساطة ندخل تحت بند الموالاة، و تستخدم داعش النص القرآني ، وهي لن تجد واحداً، بل خمساً:
- (يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)المائدة: 51
- (يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة)  الممتحنة: 1
- (يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ الكفار أوْلِيَاءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) المائدة: 57
- (يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) آل عمران: 118
- (لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ)  المجادلة: 22

بل أكثر من ذلك، سيعتقد الداعشيون أنهم يحسنون صنعاً، ولديهم ما يفهمونه أيضاً ويفاخرون به.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

وكي نخرج من إطار التفسير الكيفي للنصوص، وتبرأة النص القرآني من الفهم الداعشي له، سأتوسّع أكثر في موضوعة التفسير في فقرة خاصة تحت عنوان (التأصيل)، لتروا بأنفسكم كيف أنه من السهل -بل من السهل جداً- تبرير ما تفعله داعش، ليس لأنه عز وجل قصد ذلك، بل لأن المفسرين اتفقوا عليه..!!

 

7- عدم الالتزام بالدين هو السبب
يميل البعض إلى جلد الذات لتفسير مصاب المسلمين وانكسارهم، وهنا يصبح الضحية هو السبب، وتسمع أقولاً من قبيل، (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)، وهكذا يصبح الأمر أنه نستحق ما يحلّ بنا، سيما أن لا أحد ينكر أننا مفككون ومهزمون، وإن كان تبرير الأمر بالنص القرآني يجعله قدراً محتوماً على المسلمين، لنعود مجدداً إلى السؤال الأزلي (هل الإنسان مسيّر أم مخيّر)
اجمالاً يكرر رجال الدين هذا الاتهام كثيراً على المنابر، ويوبخون المسلمين ويحملونهم المسؤولية دائماً فيما وصل إليه حالهم، دون أن يأخذوا بالاعتبار أن واقع المسلمين ناتج عن عوامل كثيرة متداخلة، و أولها هو التأثير السلبي لطبقة رجال الدين أنفسهم طيلة هذه القرون، وهو ما بينته أعلاه. 

 


8- تصرفات فردية قمت بتعميمها
بعض التعليقات عابت على المادة أنها قامت بتضخيم حالات فردية، وجعلها ظاهرة، وتعميمها على جميع المسلمين.
بالتأكيد التعميم لغة الأغبياء، ونسبة من يقومون بأعمال إرهابية قليلة جداً إلى مجموع عموم المسلمين، و هذه حقيقة، لكن من القاعدة إلى بوكو حرام إلى الشباب الصومالي إلى داعش إلى النصرة، إلى جماعة التكفير والجهاد، ومن أحداث 11 سبتمبر عام 2001، إلى هجمات لندن ثم مدريد ثم باريس وأخيراً بروكسل عام 2016، نحن نتحدث عن 15 عاماً على الأقل مرت منذ شيوع الارهاب، وفي مناطق جغرافية متباعدة، وعلى ايدي مسلمين مختلفي القوميات واللغات، فهل يصلح الحديث عن تصرفات فردية هنا..!!.

 

الحقيقة الأخرى أن الارهاب لا يشمل المخططين والمنفذين فقط، بل والمبررين أيضاً،  فكثير من المسلمين يباركون هذه الجرائم ويجدون لها تبريرات مختلفة، وهنا لا ننسى مشاعر الناس في مختلف أصقاع العالم الإسلامي عندما رؤوا برجي التجارة العالمي ينهاران عام 2001، ولم يقتصر ذلك على مشاعر السرور والغبطة وتعظيم ما فعلته القاعدة، واعتبار ما حصل انتقاما إلهياً ، بل تجسد بسلوكيات مثبتة وموثقة، فقد وزعت الحلويات في الأراضي الفلسطينية، وفي باكستان وأفغانستان وإيران خرجت احتفالات شعبية هائلة، ولولا الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي لرأيت الاحتفالات تصدح في كل العواصم العربية والاسلامية، ومن ينكر حالنا حينها فهو يكذب على نفسه وعلى التاريخ

 

 

 

9- استخدمت النصوص التي تناسب هواك، ونسيت الأخرى المعاكسة:

النسبة الأكبر من الردود  اعتمدت الآلية التقليدية إياها؛ وهي إيراد آيات أخرى مضادة ومعاكسة في المعنى للأيات التي سقتها (آيات الرحمة)، دون أن يستطيع أصحابها إنكار الأولى(آيات القتال)، ثم يقولون لك متهمين مستهزئين مشككين ( لمَ  لمْ لا تذكر هذه الآيات أيضاً).

هنا يدّعي المدافع الحياد والمصداقية، ويريد منك أن تنظر إلى المسألة من كافة أوجهها، وفي حين أنه يطالبك بدراسة أسباب نزول (آيات القتال) واحدة واحدة، وفهم راهنية كل منها، وأنه ربما جاءت في سياق محصور بحادثة معينة، يقوم هو بعرض الآيات المقابلة هكذا على الاطلاق دون أن يدرس أسباب نزولها، ودون أن يرى إن كانت جاءت في سياق محصور بحادثة معينة لا يمكن تعميمها، فيقع هو فيما يتهمك فيه.

على اية حال، وفيما يخصّ هذا التفصيل تحديداً، سآتي أدناه على ذكر مسألة مهمة جداً في القرآن وهي الناسخ والمنسوخ، وكيف أن كثيراً من الأئمة أجمعوا على أن آية واحدة من آيات القتال وهي آية السيف (الآية رقم 5 من سورة التوبة) نسخت كل آيات الرحمة في القرآن وأبطلت مفعولها.

 

10- أنت عميل، تقوم بتشويه صورة الإسلام عن قصد، وهذا دور موكل تقوم به:

هذا من الاتهامات التقليدية التي تقذف في وجه كل من ينتقد الموروث الديني، وقد سمعها كل من قبلي، وأسمعها أنا أكثر خصوصاً لأنني أعيش في أمريكا (العدو الأول للمسلمين، وسبب كل شرور الأمة) كما يعتقد كثيرون.

هذا الاتهام يفترض أنك بالضرورة تعمل لصالح جهة ما تحارب الإسلام، وتنفذ مخططاً عدوانياً القصد منه هو زرع الشك في نفس الانسان بدينه، وأن هذا هو التفسير الوحيد لما تقوم به.

على أن الأسوء في هذه الاتهامات هو هوية من يسوقها، فمن خلال الردود التي وردت على مقالتي واتهمتني باتهامات مشابهة، هناك شخص يعيش منذ عقود في أمريكا الكافرة، ويحمل جنسيتها وبتمتع بحمايتها، ثم تسمعه  في المجالس يقول  ( الشربجي عميل للأمريكان ويقبض منهم).

وهناك آخر يقوم بكل الموبقات التي تتخيلونها (جنس، خمور…..) ولا يقيم من الدين أية فريضة بل هو ملحد دون أن يعلن، عدا عن انه لم يقدّم اي شيء لبلده وقضية وطنه الجريح سوى الكلام، هذا الشخص يهاجمني ويتهمني بالتجني على الإسلام والافتئات على رجالاته، رغم أنه هو تحديداً -وبعرف من يدافع عنهم- يعتبر كافراً لمجرّد أنه لا يقيم لاصلاة.

هكذا بكل بساطة يتناول حماة الدين ويتناقلون تهماً تطال آخرين على أنها حقيقة واقعة، و دون أن يقدموا أي دليل أو إثبات على كلامهم، بل دون أن يدفعهم إيمانهم الديني بالعمل بموجب الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبيتنوا..)

 

12- تسلّط الضوء على مجموعة منبوذة من رجال الدين وتظهرها للعلن.

التعليق هنا جاء على أعقاب إشارتي لبعض التصريحات العنفية التي يسوقها رجال دين كالحويني وأمثاله، والافتراض هنا أن أمثال هؤلاء هم حالة نادرة ومرفوضة لدى الجمهور المسلم، وقد قمت أنا بتضخيم حالتهم، وأنه كان يجب علي الإشارة بالمقابل إلى رجال دين آخرين معتدلين يحظون بإعجاب الجمهور المسلم.

سأتحدى هنا من يقول ذلك بتسمية رجل دين تقليدي واحد من الصنف الذي يتحدثون عنه، وليس في تاريخه وتصريحاته سقطة واحدة على الأقل بالتحريض على العنف والقتل بذات الطريقة التي تفهمها داعش، وأطلق هذا الرهان هنا وأنا مستعد لقبول التحدي.

آلاف المشايخ على آلاف المنابر،، وعلى عشرات القنوات الفضائية، على مئات مواقع الانترنت، وورائهم عشرات الملايين من المعجبين والمتابعين، كل هؤلاء هم منبوذون..!!!.

 

إذا رصدنا حجم هؤلاء وتأثيرهم على الفيسبوك فقط، كوسيلة متوفرة للجميع يمكن القياس عليها سنجد ما يلي:

- العريفي: الذي قال أن المرأة ناقصة عقل بسبب غدة نسي اسمها  21 مليون متابع

- الحويني : الذي أفتى باحتلال بلاد الكفار وقتل رجالهم وسبي نسائهم  630  ألف متابع

- ابن عثيمين: مفتي الوهابية والكراهية والموت 873 ألف متابع حتى وهو ميّت..!!

- عمر عبد الكافي: صاحب القصص والحكايا والافتراءات، قرابة  400 ألف متابع

 

 

بالمقابل نجد على الطرف الآخر ما يلي:

- جودت سعيد: شيخ السلام والجهاد اللاعنفي أقل من 10 آلاف متابع، وكثيرون يصفونه بالخرف

- محمد شحرور: الذي يحاول أن يجد مخرجاً عصرياً للإسلام  66 ألف متابع ، كثير منهم انضموا للصفحة فقط لمهاجمته وشتيمته.

ودلالات الأرقام لوحدها تكفي للإشارة إلى من هم المنبوذون من قبل عموم المسلمين، ومن هم المرحب والمحتفى بهم….!!!

 


 

 

13- من يقومون بالعمليات الارهابية مجرمون ومنفلتون اصلاً، و لا يمثلون الإسلام:

بعض المعلقين أشار لجزئية مهمة، وهي أن بعض منفذي الهجمات الارهابية في أوروبا هم أناس كانوا معروفين بتفلتهم وعدم التزامهم بمظاهر الدين، وبالتالي هم لا يمثلون الإسلام أصلاً ، ولا يجيز تجيير أفعالهم على الدين.

لجهة توصيف حال هؤلاء هذا الكلام صحيح، فقبل أسابيع ظهر على اليوتيوب فيديو للشقيقين ابراهيم وصلاح عبد السلام المنفذين لهجمات باريس (شارلي إيبيدو) يظهران فيه وهما مخموران ويرقصان في ملهى ليلي، وهذه ليست الحالة الوحيدة في المناسبة، ففي صفوف داعش العشرات من أمثال هؤلاء، كقاطع الرؤوس البريطاني الشهير الجهادي جون  (عبد الماجد عبد الباري) والذي كان مغني راب ، وكذلك دينيس كاسبيرت  (أبو طلحة الألماني) الذي كان مغنياً منفلتاً في بارات ومراقص ألمانيا ، وكذلك  المغني التونسي مروان الدويري المعروف بـ (إيمينو)، وأيضاً الجهادية سالي جونز عازفة الغيتار السابقة ، والجهادية البريطانية خديجة داري. جميع هؤلاء عرفوا خلال حياتهم بارتكابهم كبرى الموبقات في الدين الإسلامي وهم اليوم في أراضي (دولة الخلافة) يقاتلون في صفوف داعش.

من حيث الشكل يكفي ذكر أسماء هؤلاء لدفع التهمة عن الإسلام لمن ينظر للأمور بشكل سطحي، لكن الحقيقة تقول أن تحوّل هؤلاء من عالم الانفلات إلى عالم التقى والإرهاب لهو إدانة أكبر حتى من إدانة الارهابيين المتدينين، فإمكانية تحول أي إنسان عادي إلى إرهابي بهذه السهولة، يثير الشكوك تجاه جميع المسلمين، إذ لم يعد يمكن توقع ما سيقومون به مهما بلغوا وأثبتوا اندماجهم وعصريتهم.

إن تفسير هذه الحالة يحمل إشارات إدانة للدين نفسه، كونه قادر على تحويل الناس العاديين إلى وحوش، والآلية بسيطة للغاية ومتاحة دوماً، ابحث عن اي منفلت أكل من الدنيا حتى شبع ومارس فيها كل الموبقات حتى اكتفت غريزته،، وبات يشعر بأن حياته مملة وبلا جدوى (هذه حالة نفسية موصوفة لمعظم نجوم الفن) ، وأقنعه بأن الله سيسامحه على كل ما فعل ويمسح كل تاريخه المشين،  بل سيرزقه جنة مليئة بالمتع والسعادة ، وأن كل ما هو مطلوب منه أن يتوب ويقدم شيئاً لخدمة الإسلام بالمقابل، وهكذا تستطيع أن تصنع له هدفاً نبيلاً (كقتال الكفار) ثم اربط الحزام حول خصره ، وسيقوم بالمهمة وينفذها عن قناعة ورغبة.


 

 

14- الدين علم وأنت لست بعالم متخصص:

لعل من أكثر الاتهامات التي كيلت للمقالة أن كاتبها قام بقراءة سطحية للنصوص، وأنه استخدمها دون معرفة وعلم،  وأنه غير مؤهل لنقاش هذا الموضوع، وأن الدين مثله مثل العلم (كالطب والهندسة) لا يجوز لغير المتخصصين والعارفين الخوض فيه.

من حيث المبدأ لا أجدني مضطراً –كمسلم- لأن أتبحر في الدين وأنهل من علومه كي يحق لي الحديث فيه وانتقاده، طالما هو -الدين-  يتدخل ويقحم نفسه في كل تفاصيل حياتي، وطالما يعرضني للشبهة أينما ذهبت،  و يوقفني في المطارات، ويمنع الآخرين من التفاعل معي كإنسان طبيعي ، وطالما ايضاً  يسمح لمسلمين آخرين بالتدخل بحياتي الشخصية وبيتي وعائلتي وقناعاتي، بل يتيح لهم حق محاكمتي وتقيمي، وإطلاق أحكام تصل حد الافتاء بقتلي.

إن النقاش في الدين ليس ترفاً فكرياً نمارسه، بل بات أمراً مصيرياً و مسألة حياة وموت لملايين المسلمين الذين يعانون بمجرد انتمائهم لهذا الدين.

وهنا تصبح عبارة (الدين علم) ساذجة للغاية، فالعلم يناقش في أروقة العلم في الجامعات والمعاهد والمخابر وبين المختصين ولا يطلب من الجميع فهمه والايمان به والامتثال له، و محاسبتهم وعقابهم إن لم يفعلوا.

فإذا كان الدين علماً محصوراً بالمختصين فإن ذلك يعني بالضرورة سقوط التكليف عن غيرهم من أمثالنا نحن الجهلة، وابقاء أداء المناسك والفروض حكراً بالمتخصصين دون غيرهم، تماماً كما في العقائد الباطنية كالموحدين الدروز، حيث يختار المرء بنفسه أن يتعلّم ويصبح من (العقّال) فيكلف بأداء الواجبات الدينية، أو أن لا يفعل فيصبح من (الجهّال) غير الملتزمين بأية مناسك، فأي مسلم يرضى أن يصبح الدين غير ملزم..؟!

ثم إن العلم لا يناقش أبداً بالطريقة التي تتم في مؤسساتنا الدينية، فالعلم يقوم على مدخلات صحيحة قابلة للقياس، ويخضع الاختبار والتجريب والتنقيح بغية الوصول للنتائج، وليس على الإيمانيات التي لا يمكن إثباتها علمياً، لذلك لا يمكن توصيف الدين بالطب والهندسة كما يقول البعض بكل بداءة.

وحتى في العلوم الإنسانية كالفلسفة والتاريخ، فهي تعتمد مبادئ كالمحاكمات العقلية والاستنتاجات والاستنباطات والدراسات المجتمعية وعلوم الآثار والتنقيب وغيرها، أما ما يجري في المؤسسات دينية فهو أبعد ما يكون عن ذلك، وليس سوى اجتراراً مكروراً لأقول أشخاص عن أشخاص عن أشخاص والغرق في الكلاميات، والغوص في تفاصيل لا تعتمد على مقاييس ومحاكمات عقلية إلا ما ندر، وحتى هذه الـ (ما ندر) وهي  التي التدخل تحت مسمى الاجتهاد، فهي ليست محاكمات عقلية بقدر ما هي معادلات توفيق وقياس مع نصوص تشريعات قائمة بالأصل.


 

نصل إلى النقطة الأهم في هذا المقال.

15- التاصيل:

كثير من المنتقدين اتهموني بليّ عنق النص، وأنني أخرجته من سياقه، وقمت بتفسيره بغير معناه، وأنه كان يجب علي الأخذ بقول العلماء قبل أن أقتطع هذه النصوص وأطوّعها لخدمة أفكاري.

سنـأخذ نموذجين من سورة التوبة وندرس تفسيرهما كيف وردتا في قول المفسرين والأئمة الثقاة، والذين يعتبرون المراجع الأولى في تفسير القرآن الكريم لدى عموم المسلمين والمجمعات العلمية الاسلامية.

تعد التوبة من أواخر السور التي نزلت عن النبي محمد بل يقول البراء بن عازب  أنها الأخيرة، وهو ما يجعل لها أهمية زائدة كونها جاءت في خواتم رسالة النبي، والمفترض أنها تلخيص لدعوته.

وتسمى  هذه السورة في بعض المراجع (براءة) بحسب مطلعها، وهي السورة الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة، والتي قال فيها عن ذلك ابن عباس: (سألت علي بن أبي طالب لِمَ لَمْ تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم فقال :لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف).

يرجى الانتباه أولاً إلى مبدأ صلاحية النص القرآني (لكل زمان ومكان)، وهو مبدأ معتمد في جميع المرسسات العلمية الإسلامية، و كان قد  بيّنه و أصّله السيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن).


 

 

- أولاً الآية رقم 5، والمسماة آية السيف أو (الآية الناسخة):

(فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

اتفق كثير من الأئمة والسلف على أن هذه الآية نسخت آيات المغفرة والرحمة في القرآن ونفت مقولها ومفعولها،  لكنهم اختلفوا بعدد الآيات التي نسختها، فيما يلي تلخيص لذلك:

- ابن كثير: نسخت كل عهد بين النبي ، بين أحد المشركين وكل عقد ومدة - تفسير القران العظيم 1/154 .

- ابن عطية: هذه الآية نسخت كل موادعة في  القرآن أو ما جرى مجرى ذلك ،وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية - تفسير ابن عطية 6/412

- السيوطي : كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف- التحبير في علم التفسير ص 432.

- ابن جرير في تفسير قوله تعالى : (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام  الله)  الجاثية: 14، وهذه الآية منسوخة بأمر الله بقتال المشركين - تفسير الطبري25/144.

-  الشوكاني: أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ... وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم - السيل الجرار 4/518-519.

- الزركشي : آية السيف ناسخة لآيات الصفح والعفو- البرهان للزركشي  2/3.

- ابن تيمية : فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/66 .

- النيسابوري: هي الآية الناسخة  ، نسخت من القران مائة آية وأربعاً وعشرين آية - ( الناسخ والمنسوخ)  284.

- ابن عباس: لم يبق لأحد المشركين عهد ولا ذمة منذ ان نزلت براءة (اي سورة التوبة)

- الكلبي: نسخت آية السيف مسالمة الكفار والعفو عنهم والأعراض والصبر  على آذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فانه وقع منه في القران مائة وأربع عشرة  آية من أربع وخمسين سورة-  التسهيل في علوم التنزيل

- الحسن بن فضل: هي آية السيف نسخت هذه الآية كل آية في القران فيها ذكر الأعراض والصبر على آذى الأعداء - تفسير ابن كثير.

- ابن حزم: في القرآن مائة وأربع عشرة آية في ثمان وأربعين سورة نسخت الكل بقوله: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - الناسخ والمنسوخ

- النيسابوري: هي الآية الناسخة  ، نسخت من القران مائة آية وأربعا وعشرين آية - الناسخ والمنسوخ

 

- ثانياً: الآية رقم 29 من سورة التوبة،

(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)

سألخّص أدناه تفسير هذه الآية في أهم 4 مراجع معتمدة للتفسير في الإسلام، وهي ابن كثير، والجلالين، والقرطبي، والطبري، ولمن يرغب بمزيد من الاطلاع يمكنه الرجوع إلى موقع المصحف الالكتروني بجامعة الملك سعود، وهو من أهم المواقع المرجعية التي توثق القرآن وتفاسيره، و متوافر بـ 17 لغة عالمية، وتجدون الموقع على هذا الرابط (اضغط هنا)

  • تفسير الجلالين:

(قاتلو الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) وإلا لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) كالخمر (ولا يدينون بدين الحق) الثابت الناسخ لغيره من الأديان وهو دين الاسلام (من) بيان للذين (الذين أوتوا الكتاب) أي اليهود والنصارى (حتى يعطوا الجزية) الخراج المضروب عليهم كل عام (عن يدٍ) حال أي منقادين أو بأيديهم ولا يأكلون بها (وهم صاغرون) أذلاء منقادون لحكم الاسلام.

  • الطبري:

(قاتلوا) أيها المؤمنون، القومَ (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق)، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام(من الذين أوتوا الكتاب) وهم اليهود والنصارَى.

وأما قوله(عن يد)، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه، وأما قوله (وهم صاغرون)، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون.

 

  • القرطبي:

فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف ، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابهم ، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته . فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة ، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل .

قوله تعالى : عن يد قال ابن عباس : يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا، روى أبو البختري عن سلمان قال : مذمومين . وروى معمر عن قتادة قال : عن قهر . وقيل : عن يد عن إنعام منكم عليهم ؛ لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعمتم عليهم بذلك .

  • ابن كثير:

لما كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، ولهذا قال(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب) وهذه الآية الكريمة  نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى

وقوله (حتى يعطوا الجزية ) أي : إن لم يسلموا (عن يد)  أي : عن قهر لهم وغلبة (وهم صاغرون) أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صغرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه 



أما في عصرنا الحديث، فقد فسر الشيخ متولي الشعراوي هذه الآية بطريقة لا تقل وحشية:

"أخذ الجزية من أهل الكتاب هو إكرام لهم، ونعمة من نعم الإسلام عليهم لأنه استبدلها عن قتلهم، ويجب عليهم دفع ثمن هذه النعمة "

هذه هي التفاسير السائدة عند معظم المسلمين اليوم، وهؤلاء هم العلماء الذين يبجلونهم ويحترمونهم ويعتبرونهم أئمة، ولكم أن تقدروا إن كانت هذه التفاسير هي منبع التطرف أم لا.

 

نبقى في نفس الآية، بالمقابل هناك علماء معاصرون خرجوا بتفسيرات مختلفة وعصرية لهذه الآية، وجردوا عنها معاني العنف، ودخلوا في سياقات اللغة والقياس العقلي:

  • عدنان ابراهيم :

في تفسيره للآية، وبعد أن يستعرض أقوال الأئمة التي جعلتلها معنى واحداً عنفياً ، يقوي ابراهيم كلام محمد بن طاهر بن عاشور، والذي دخل في تراكيب اللغة العربية، وفسّر معنى الإدماج في الاسماء الموصولة (الذي، التي، الذين، اللاتئ، اللائي) في قوله  (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ....) وكيف أن الاسم الموصول هنا يفيد على التخصيص وليس التعميم كما يعتقد الغالبية، أي أن المقصود من الآية، هم فئة من الناس من فئة من أهل الكتاب (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وحصر ذلك بسياق نزول تاريخياً وزمانياً ولم يجعله على الإطلاق

للاطلاع على تفسير عدنان ابراهيم (اضغط هنا)

 

محمد شحرور:

في كتابه الدولة والمجتمع، فسّر محمد شحرور الآية على النحو التالي:

(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) الممتحنة 8.

(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) الممتحنة 9.

سورتا التوبة ومحمد مدنيتان أيضاً، والمدينة المنورة كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية في شبه جزيرة العرب. فيها المواقف السياسية العلنية، وفيها الحرب الأهلية، والحروب الخارجية، وتم تغطية كل ذلك في سورتي محمد والتوبة. فإذا أخذنا الممتحنة، نجد فيهما بيان من نقاتل، ومن لا نقاتل، بغض النظر عن كونه من أهل الكتاب أم من غيرهم. وبما أن باب البر والقسط مفتوح إلى يوم القيامة، ومقبول بمختلف أنواعه المادية والمعنوية، فالله سبحانه لم يحدد شروط وظروف البر والقسط التي يجب توفرها حتى يكون مقبولاً، لكنه حدد مبررات وشروط القتال التي يجب توفرها حتى يكون مشروعاً.

أي انه سبحانه حدد لنا في السورتين شروط وظروف تنفيذ الآية 9 من سورة الممتحنة، في قتال من قاتلنا في الدين، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا. ومن هنا نرى أن محتوى سورتي محمد والتوبة، فيما يخص منهما موضوعنا هذا، ليست مطلقة، بل تحددها وتقيدها الآية 9 من سورة الممتحنة. ونرى دراستها على هذا الأساس، كيلا نقع في وهم التناقض بين السورتين والآية، أي كيف نأخذ الجزية من الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يظاهروا على إخراجنا، عن يدٍ وهم صاغرون؟ وأين البر والقسط في ذلك؟ يقول الله في سورة التوبة {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ..} فكيف، إذا لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يظاهروا على إخراجنا؟

 

الغريب في الموضوع هنا، وهو ما يجعل تعميم تهمة العنف على المسلمين قائمة بذاتها، أن الرجلين الذين أخرجا حلاً عصرياً وانسانياً لتفسير هذه الآية، هم من أكثر الناس بغضاً وكراهية في العالم الإسلام، ليس من قبل العلماء فقط والذين كتبوا فيهم الكتب وألقوا فيهم الخطب واتهموهم بالعمالة والخيانة والجهل، بل من عموم المسلمين، ولعل تجربتنا الشخصية في السوري الجديد من التعليقات التي ترد على مواد محمد شحرور لأكبر دليل على ذلك، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على ادعات المسلمين أن العنف ليس من الإسلام، وهو ما يجعل دعواهم للرد على الإرهاب بأنها فهم خاطئ لحقيقة الدين أمراً غريباً للغاية

 

خاتمة:

يقول محمد أركون في كتابه (من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي)

المصدر الأساس للفقه وبالتالي القضاء ليس هو القرآن بقدر ما هو التفسير، ونقصد بذلك أنّ الفقهاء قد قرأوا القرآن وفسروه بطريقة معينة وأتخذوا بعدئذ قراراتهم ، وقد إستخدموا في تفسيرهم المعارف اللغوية والإخباريّة السائدة في عصرهم وكل هذه الأدبيات تتطلب اليوم مراجعة وإعادة قراءة على ضوء التاريخ النقدي الحديث.

وهنا لا بد من ذكر هذه الحادثة التي يوردها الكاتب السعدي ناصر الدين  والذي كان أحد الشهود عليها:

في اليوم الثاني من الملتقى الدولي الذي احتضنته قاعة المؤتمرات بفندق الأوراسي بالجزائر حول  الإسلامي والحضارة 1980 ، نادى وزير الشؤون الدينية الجزائري وقتها الراحل مولود قاسم العالم الراحل محمد اركون الى المنصة لإلقاء ملخص عن محاضرته.. تقدم أركون  وبدأ في القاء ملخص عن محاضرة تم توزيعها كتابة في اليوم الاول من الملتقى. بعد خمس دقائق فقط بدأت جماعة في القاعة الهتاف والتشويش مطالبة المحاضر بالتوقف عن الكلام. كان على راس الجماعة المشوشة يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وآخرون معظمهم أجانب. ثم وقفوا ورددوا بصوت عال " كافر كافر كافر .. اخرجوه اخرجوه اخرجوا الكافر .. هذا ليس اسلاما، هذا كفر" فهم محمد اركون ان الوسط غير مناسب للاستمرار في ظل عجز رئاسة الملتقى عن تنظيم امور، فطبق اوراقه واتجه مباشرة الى باب الخروج. لم ينتبه احد لما حدث بعدها لكن تبين فيما بعد ان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي تبعه الى الخارج وطلب منه البقاء لكن البروفيسور محمد اركون اعتذر وغادر.

قال الشيخ عبد الرحمن الجيلالي وهو الى جانب محمد اركون اهم باحثين في ميدان الدين والفكر الاسلامي بالجزائر: " فضلت تركه يذهب لانه كان في وضع صعب". وأكد في برنامج  تلفزيوني عام 1999 ان اركون بكى من شدة الصدمة. 

كوفئ القرضاوي بأن فتحت له كل الابواب في الجزائر حتى باب الزواج من عذراء بسن حفيدة، و كوفئ الغزالي بأن صار رئيسا للمجلس العلمي في جامعة الامير عبد القادر بقسنطينة وبرتبة وراتب افضل من رتبة وراتب اي رئيس مجلس علمي جزائري .... فيما رحل محمد اركون الى غير رجعة وحتى مدفنه كان بالمغرب

 

ما أريد قوله من هذه الحادثة في الختام، إلى أننا أعداء أنفسنا، وقاتلوا أبنائنا ومستقبلنا...إن لم نصحُ، وأنا مؤمن أن الصحوة بدأت ولن يستطيع أحد إيقافها

 

 

التعليقات

مقال مهم جدا .. شكرا على هذا الجهد ..

مقال رائع و جهد مشكور عليه، هذا الزمن بحاجة لأمثالك أخي إياد

مقالة رائعة و شاملة. بالفعل نحن نحتاج لإعادة النظر في كل الثوابت و التراث الديني و التخلص من الإستبداد الفكري و المعرفي الديني.

جهد مشكور ولكنه ايضا احدي ومتعصب لفكرة ما ايضا تماما كإتهامه عموم المسلمين بالتعصب والجهل والامثلة التي يسوقها يمكن تفنيدها وردها بسهولة وهو يلجأ للي النصوص بشكل احادي واعتباطي احيانا وربما يكون معذورا بسبب من اقامته بالغرب وكثرة لهجمة الموجهة للاسلام فهو اي اياد يحاول ان يجد تلفيقا يناسب الخواجات ويدرأ هجمتهم الشرسة على الاسلام و"الجهاد" والذي هو الان في الغالب دفاع بحت يجريه المسلمون عن انفسهم ضد المستعمر كما في العراق وافغانستان وفلسطين وغيرها او دفاع ضد حاكم ظالم وطاغية كما في سوريا واليمن والمقال ملئ بالمغالطات من مثل وصف قريش وكفارها بالمعارضة السياسية لمحمد عليه السلام بينما قريش هي التي اخرجت النبي واتباعه من مكة وقتلتهم وعذبتهم او حين يصف المعتزلة بالمتنورين بينما هم مارسوا وبعنف التنكيل بمخالفيهم اولا ايام المأمون والمعتصم دون هوادة واستعانوا بسلطة الدولة لقمع مخالفيهم تماما كما حدث ويحدث عند قمع العلمانيين في العالم العربي خصومهم بالحديد والنار في مصر الحاضر والماضي وسوريا الحاضر والماضي والعراق والجزائر والنظام السوري باعتراف الامم المتحدة قد مارس قمعا شديدا لشعبه واثخانا فيه بالقتل اضعافا مضاعفة عما اقترفته الجماعات الجهادية المختلفة ولكنه تناسى كل هذا كي يكمل استعراضه لفكرته وهكذا دون تدقيق او تمحيص معتمدا نظرية الاخذ بالصوت والتظاهر بالحذاقة التي تعوزه في مثل هذا الموضوع المهم والحيوي

مقال رائع يستحق كل التقدير و مجهود واضح ومميز يجب نشره باستمرار بكل الطرق الممكنة لعله يكون سبب في اعادة الوعي لكثير من الذين خدعوا بالتقليد المتوارث و اعادة نشر الرساله المحمدية بمعناها الحقيقي الحامله للمحبة و السلام و الرافضة للعنف و الظلم التي رضي الله تعالى عنها و رضيها لنا باتباعنا اياها الا وهي الاسلام المعتدل و الوسطية الصالحة لكل مكان و زمان التي ان اتبعناها لن نضل ونفترق بعدها ابدا ولكن اسفي على الذين اهدرت دمائهم نتيجة هذة الفتن و التفرقة التي حرمتنا من حلاوة العيش بهذا الدين العظيم ولكن هي مشيئة الله تعالى ليحاسب كل انسان على نيته و على ما اقترفت يداه ..

لماذا لم يتم نشر تعليقي

علِّق