نشرت في .September 03, 2016

 

على ظهر حياتنا، تتناطح الأفكار التي تتعدد تجلياتها ثم تندلع التساؤلات مشوبة بالشكوك وانعدام اليقين بها، فلا شك أننا نمنح أنفسنا وسط التطورات الراهنة في المعرفة الإنسانية وقتا ضخماً نحوز به على معرفة ضئيلة بذواتنا.

لكن في السواد الذي نعيشه، غالبا ما نفشل في اختيار طقوس الحياة الحقيقية التي نؤمن بأنها الرحم الذي ولد منه يقيننا بالأشياء والأفكار والسلوكيات التي تشبه شخوصنا الحكيمة أو الجنونية، كثيراً ما نمارس الأفعال والتصرفات التي تناقض قناعاتنا ومغايرة لنا خوفا من خسارة حياتنا بشفرة سكين أو بقرار لعين ينهي كل أحلامنا أو حتى من ركوب موجات لانهائية من المنازعات والجدالات مع من يهمنا أمرهم.

 

فأغلبنا محشو بالتنظير حول تأييده الكامل لحرية الإنسان الشخصية والفكرية، مثلا، مهما تعارضت مع أفكاره شريطة أن لا تتعدى تلك الأفكار على حق أو سلامة الغير، لكن هذا التأييد مجمدٌ داخلنا مفتقدٌ لخلاياه الحية التي لو وُجدت فيه لساعدته على أن يصبح وقائع مادية نلتقي بها ونتفاعل معها لتُحيينا، خصوصا المثقف الذي يكون - أليفا فكريا - مع محيطه الثقافي من الأفراد، باحترامه المطلق لوجدانهم وهيئتهم حتى وإن لم يكن يتبناها، لكن في وقت لاحق - يستشرس - فيطبق أنواع الإكراه والتعقيد والتضييق الفكري كافة على من يستطيع فرض نفوذه عليه من عائلته أو أقربائه أو أصدقائه بحجة الاهتمام به أو الخوف والغيرة عليه،  ليعمل على إجباره بالإيمان بما هو يعتقد والتصرف كما يراه مناسبا له، من دون أن يكون له حق الاعتراض أو مجرد إبداء الرأي، لينغمر هذا وذاك بالتناقض الواضح، لينتج فشل صاحب النفوذ باختياره وتحديده لنظرياته ومبادئه من ناحية ويمنع الشخص الواقع تحت سيطرته من السباحة في فضاءاته الخاصة وعدم إظهار حقيقته كما يشاء من ناحية أخرى. مما يترتب على هذه النتيجة كبت طاقاتنا المتراكمة داخلنا حتى إنفجارها بنا، كالإنفجار العظيم، ليبرز كواكب من العقد النفسية والفكرية، تقمصنا للألوان الداكنة بدلا من المضيئة، ونتنحى إلى الإنطوائية المتلكئة بدلا من الإندفاع للإنفتاح نحو الحياة، كتوسع كوننا الرشيق.  


 

وسط تفاصيل الثقافات الواسعة، تتباين السلوكيات والأفكار المألوفة التي اعتاد أفراد المجتمع على ممارستها والإقبال عليها، فالبديهي أو المسموح به في مجتمع ما هو ذاته يمكن أن يتم تحريمه أو استنكاره في المجتمع الآخر، حتى وإن كانا هذان المجتمعين متقاربين ومتجاوين جغرافيا، وتاريخيا، ولغةً، ودينا، بالتالي فإن معظم الناس يكبلون قراراتهم "الشخصية" بردة فعل المجتمع عليها وليس بسبب عدم تناسب هذا القرار مع الدين، فإذا كان الناس يمارسون نشاطا ما يُخالف الدين حتما في أصله ولكنه متعارف عليه في هذا المجتمع من القدم يغض النظر عنه وتنطلق الحجج غير المنطقية لإستمراريته، حتى وإن كان يؤذي الغير سواء بإنسانيته أو صحته أو كرامته، لكن حين يطرح فرد في هذا المجتمع نفسه سلوك غير مألوف، أو فكرة جديدة وغريبة على الثقافة العامة للناس، يتحول المجتمع في اللحظة نفسها إلى مدينة فاضلة ويحاربه باسم الأخلاقيات، والمثاليات، والعفة، والدين، فيرفضونها غالبا رفضا قطعيا في بداية إنتشارها، لكن عندما تستمر بالإنتشار وتصبح شيئا مألوفا يهتم به ويمارسه أغلب أفراد المجتمع تدخل دائرة المباح حتى ولو خالفة الدين، بمعنى أدق، معيار إعتراض الناس على الأفكار الجديدة هو الناس أنفسهم والعادات الاجتماعية وليس الالتزام الديني الحقيقي.

 

هناك من يملك القدرة على حشد التناقضات بكل تفاصيلها في عقله، معظم فئات مجتمعنا يمتلكون هذه الموهبة!، حتى أن نسبة كبيرة منهم تعلم أن الله خلق الإنسان حرا، لكنها مُصرة يوميا على استعباده متشبثة بأحكامها وثقافتها التي تصدر السموم في الحيوات، تعلم أننا خليفة الله على الأرض لإعمارها، وتمضي لتدمير ما أسسه غيرنا، لتجلس وتنعي نفسها، عديمة الفائدة، تدرك بأن المعرفة قوة، ثم تمهد لخلق أجيال متقوقعة بإرثها الثقافي وحده، متغذية على الماضي فقط، سليلة بيئتها الإيديولوجية، ممتنعة عن الإطلاع أو مناقشة أي فكرة تعارض معتقدها، لتحصد الركود الذي نعيشه اليوم.


 

علِّق