عدد القراءات: 7923

بعد 6 سنوات من التجربة بالدم...قراءة في مسارات الثورة السورية

 

في الأيام الأولى للثورة ومع بدء النظام وماكينته الإعلامية ،الضخ الهائل لمفردات  مثل السلفيين والمندسن والعملاء...الخ إيذاناً منه بإخماد "الحراك الشعبي" المطالب بالحرية والكرامة.

كان واضحاً جداً لمن يدرك عقلية هذا النظام وأساليبه الاستخباراتية بأنه سوف يسعى إلى تطييف الحراك والعمل على ضربه من داخله  في حال اتسعت رقعته لتشمل بقية المحافظات السورية، وبدأت إشارات الاستفهام لدى الشارع السوري تأخذ طريقها إلى العلن حول مفهوم السلفية، ومن هم هؤلاء الذين يتهمهم النظام بالسلفية، وما هو شكل السلفي ولباسه وطعامه ومن هم جيرانه وأقاربه.؟.. وقد تجلى ذلك في المظاهرات التي رفعت  شعارات تنفي عن نفسها السلفية و تنبذها دون أن يكون هنالك قراءة دنيا لدى الناس عن ماهية هذا المصطلح، في مجتمع عرف عنه على الدوام الاعتدال سواء في التدين أو الحياة العادية، ولكن الاعتدال ضمن أيديولوجيا جاهزة مثل الدين سوف تكون له مسارات دامية جداً خلال عمر الثورة السورية، ولم يكن لدى الناس العاديين أدنى فكرة عن مآلاتها، وكذلك لم يكن هنالك من الحصانة تجاهها ما يكفي لتبدأ عملية الاحتواء كي لا يحدث الانزلاق داخل الثورة التي انطلقت بشعارات عظيمة، ولكنها كانت تحتمل الكثير من الوجهات، ومن هنا بالتحديد نجح النظام في رهانه على ضرب المجتمع كمقدمة لضرب الثورة/ ليس كقيمة وإنما كمشروع، ورهان النظام لم يكن يعتمد الصدفة، أو يترك لها منفذاً بل اعتمد على نشأته منذ عام 1963 أيام المكتب الثاني وصولاً إلى الشكل الأمني المطلق في إدارة البلد خلال العقود الأخيرة، من حيث جمع المعلومات عن كل شخص على حدة في سوريا حتى أدق تفاصيله اليومية، إستعداداً ليوم عظيم كهذا تثور فيه البلاد كلها ضده وضد سلطته، ليسهل عليه إدارة الأشخاص والمجموعات "المتمردة".. إدارة غير مباشرة سواء عبر عملائه داخل الثورة عندما بث مواداً شفهية أو مكتوبة داخل الشارع الثائر أو عبر الميديا الخاصة به وفي مقدمتها الإعلام المرئي وما يسمى"الجيش الإلكتروني السوري"، وقد نجح هذا الأخير بتسجيل الكثير من النقاط في سلة الثورة وما يسمى"المعارضة" التي واكبته في تقديم الأهداف المجانية ليضربها وبقسوة -تحديداً فيما يخص عمل كثير من التنسيقيات- حيث استطاع هذا الجيش الإلكتروني أولاً أن يفنّد المبالغات "المتعمدة"  في أخبارها ويستغلها في اجتذاب حاضنة النظام أولاً..

"بالتزامن مع كل ذلك كانت قنوات دينية إقليمية قد بدأت تبث البرامج الموجهة إلى الثورة السورية، وقد تلقفها كثير من الشارع الثائر بسرعة ليتخذ منها مرجعية إضافية وأكثر إنفاذاً في مشاعره"

 

وثانياً نجح في تسويقها للرأي العام العالمي لتبدو أنها مجرد تنسيقيات تبث أخباراً كاذبة، ناهيك عن أن الكثير من التنسيقيات كانت تعتبر مرجعية مطلقة لدى عينات من الشباب الثائر الذي لم يسبق له أن انخرط في أية تجربة سياسية أو تنظيمية سابقة، وليس لديه من الإرث التاريخي والسياسي ما يكفي ليكون سديد الرأي والموقف، وبالتالي فإن أية مرجعية بديلة سوف تكون موضع ترحيب ومصداقية لديه طالما أنها مناهضة للنظام..

 

بالتزامن مع كل ذلك كانت قنوات دينية إقليمية قد بدأت تبث البرامج الموجهة إلى الثورة السورية، وقد تلقفها كثير من الشارع الثائر بسرعة ليتخذ منها مرجعية إضافية وأكثر إنفاذاً في مشاعره،  وصولاً إلى التأثير المباشر فيه لتصبح مرجعية مطلقة تستطيع أن تملي تعاليمها وتجد من يطبقها بحرفية، خاصة مع بدء العمل المسلح الذي انطلق عبر تجربة "الجيش السوري الحر" من ضباط وأفراد منشقين عن جيش النظام بدؤوا القتال تحت راية الثورة السورية..

لا أريد أن أكون متطرفاً وأقول بأن ثمة تعاونٌ كامل بين ماكينات النظام الإعلامية وبين هذه القنوات، ولكن من باب التساؤل المشروع: ما الذي جمع الشامي على المغربي كما يقال في شحن شارع مضطرب ومكشوف، حين بدأت هذه القنوات تكتب في أعلى شاشتها "الدم السني واحد" والنظام في ترويجه للجماعات الإرهابية المسلحة..؟!

هذا التساؤل في حينه كان ليبدو مثاراً للسخرية، ولكن مع إشهار زعيم القاعدة أيمن الظواهري لتنظيمه السوري "جبهة النصرة" كان هذا التساؤل يبدو منطقياً في فترة تبعت إطلاق النظام سراح مجموعة من الإسلاميين، لم يلبثوا أن أسسوا تنظيمات جهادية مثل أحرار الشام وجيش الإسلام حظيت بإمكانات مالية هائلة واستطاعت في فترة قياسية تجنيد الكثير من الشباب على خلفيات عقائدية محضة..

وبالعودة إلى جبهة النصرة التي بدورها حصلت على تغطية سياسية واجتماعية هائلة داخل جمهور الثورة في بداية عملها في الأراضي السورية رغم أن النصرة فرع من تنظيم القاعدة الذي لا يوجد في أدبياته مفردة واحدة عن التحرر أو المجتمع المدني أو حتى الدولة نفسها، ثم نجده وقد شبّ وأصبح فصيلاً  قوياً على مستوى القيادة والإمداد والتنظي، ويتملك ماكينة إعلامية ودعوية وجدت لها حواضن في جميع أماكن انتشارها، وكانت لها الأسبقية في ضرب تجربة الجيش الحر الذي بدأ الخناق يضيق عليه لوجستياً، وانفرط عقده بشكل كبير ليصبح مجرد فصائل تحمل تسميات إسلامية لتضمن المساعدة أو الإمداد من الفصائل الجهادية الناشئة في سوريا والتي لم تلبث لاحقاً أن حاربته بدعوى الردة..

 

وخلال هذا المسار الذي امتد لعامين بعد إنطلاق الثورة، لم يكن لدى الشباب السوري الثائر خيار  اًخر إلا الانقياد وراء العاطفة الغريزية، التي تحكم الإنسان بأن يتكتل في مجموعة تشبهه حين يشعر بالخطر،  ولم يكن الالتحاق بالطائفة قراراً داخلياً بقدر ما أنه وجهة وحيدة في الفوضى الحاصلة على الأرض، خاصة مع بدء المجازر الطائفية التي ارتكبتها ميليشيات طائفية تتبع للنظام، والبداية من قرية الحولة حيث المجزرة التي تعتبر بداية القطيعة الكلية داخل النسيج الاجتماعي السوري، لضرب كثير من حالات العمل الإنساني والاجتماعي بين طائفتي الصراع "السنة-العلويين" حيث كانت تعمل  في دمشق مجموعات قليلة  على إغاثة النازحين من حمص بمبادرات فردية وتمويل ذاتي، وبعضها كان ينشط في لقاءات داخلية وسرية لبحث الوضع ومحاولة التوعية فيما بينهم وحتى التأثير  في محيطهم، لسحب الذرائع من النظام، ومنع تصوير الأمر على أنه صراع طائفي ضمن هامش ضيق لهذا التحرك، وهنا أعتقد شخصياً بأن مجزرة الحولة وما تلاها من مجازر طائفية أحد أسبابها هو وأد حالة ناشئة من التكافل الإجتماعي انخرط فيها الشباب المثقف والواعي من مختلف الطوائف، وقد رافق ذلك حملة الاعتقالات لبعض الشباب والشابات العلويين المنخرطين في هذه الحالة التي لم تلبث أن تفككت مع تطور الصراع، وقد تجاهل إعلام "المعارضة" في حينه هذه التفاصيل وغيبها، وحتى عندما كنت أتداولها على نطاقي الضيق كنت أرجم بالمبالغة..

بالعودة إلى الشباب السوري الثائر، والذي من المفترض أن يكون هو العمود الفقري للتغيير المرتجى، كان غالبية هؤلاء من الذين هجروا مقاعد الدراسة للإلتحاق بسوق العمل لزيادة دخل الأسرة، أو لطبيعة الظروف الاقتصادية المريرة التي عانى منها الناس تحديداً في السنوات الخمس التي سبقت الثورة، وتغوّلت فيها مافيات السلطة ورموزها واستشرى الفساد والبطالة والمحسوبيات.

 

هذا الشباب الغضّ الذي أسلم نفسه فريسة لسوق العمل الخاص والمهن اليدوية في ظل جو تعسفي و استبدادي من أرباب العمل، ولا يملك أن يتمرد عليه أو ينفض عنه، ولد لديه نوع من العنف المضاد والكامن الذي قد يفرغه داخل المنزل أو في هوامش السيطرة لديه مثل الحارة أو عبر دائرته الشخصية من رفاق وعلاقات اجتماعية، ولم يكن ليحتاج هذا العنف الباطني إلى أكثر من شرارة كي ينفجر، فكان الشكل الأولي له هو الثورة من خلال المظاهرات الصاخبة التي عمت أرجاء البلاد، وتالياً عبر مآاًلات الثورة وتراكماتها الداخلية؛ من إرتفاع وتيرة قصف النظام وإجرامه، و تقاطر قوافل الشهداء، وتحوّل البلد إلى أكوام من الركام.

كان كل هذا من مسوغات النزعة إلى العنف المباشر الذي في جانب منه يعتبر ردة فعل طبيعية وفي جوانب أخرى تراكمات استطاعت أن تنفذ منها الإيديولوجيات المستحدثة في الثورة، وجميعها تحمل شعار الدين والطائفة في مواجهة إجرام النظام الذي تكتل داخل طائفته التي يتشكل منها أهم أعمدته الحيوية "تحديداً الجيش والأمن" لأسباب عديدة تخدم بقاءه وديمومته، فصار الأمر يبدو وكأنه حرب وجود بين السنة وبين العلويين، وهذا هو الشكل الوحيد والشعار الوحيد الذي تحتاجه الأصوليات والنظام على حد سواء في حماية مشاريعها في التمكّن في السلطة والسيطرة والجغرافيا، وهذا الثالوث لازال هو الوجه الوحيد للصراع بين طرفي النزاع، غير أن النظام كان أذكى في إخفاء الصبغة الطائفية على المستوى الإعلامي، في حين كان الطرف الاًخر مجاهراً به على مستوى الخطاب والفعل والحشد، مما جعل الأمر يبدو وكأن الثورة برمتها هي مجموعات إسلامية سنيّة تريد القضاء على الأقليات، وقد أضّر هذا الخطاب التعبوي العلني بالثورة وأهدافها الأولى التي انطلقت بها من السعي إلى بلد حر مدني تعددي ديمقراطي عماده المواطنة والعيش المشترك، وبطبيعة الحال لم تعد هذه المفردات تجد لها حاضنة يعتدّ بها بعد ستة أعوام من عمر الثورة وزهاء مليون شهيد ونصف مليون معتقل، ولا ينسحب الأمر على حواضن الثورة فقط، بل كذلك على حواضن النظام أيضاً، حيث وبمتابعة سريعة للمواقع الإلكترونية للطرفين تجد غالبية الشباب على الجانبين يتوعّدون بعضهم بالإبادة، متسلحين بالثأر، فهذا مات له أخ وذاك عائلة وبالكاد تجد مفردات لا تحمل الشتائم البذيئة للرموز الدينية لدى الطرفين..

 

"وبدأت الهوية الوطنية المدفونة أصلاً طيلة ستة عقود تدخل في مرحلة التجزئة الأخيرة، حيث أن أي حديث داخل سوريا اليوم لا يكون مصحوباً بالهوية الفرعية أي الطائفة والدين والقومية هو حديث فارغ لن يجد له صدىً وسط هذه الفوضى الكلية"

 

وبدأت الهوية الوطنية المدفونة أصلاً طيلة ستة عقود تدخل في مرحلة التجزئة الأخيرة حيث أن أي حديث داخل سوريا اليوم لا يكون مصحوباً بالهوية الفرعية أي الطائفة والدين والقومية هو حديث فارغ لن يجد له صدى وسط هذه الفوضى الكلية، التي تضع قدماً صلبة  في طريق الانهيار الكلي، في حين يمسك بالقدم الأخرى اللاعبون الدوليون في الساحة السورية، وبات من الصعب جذب الناس إلى فهم وطني عام ونزع هذه الانتماءات الضيقة لصالح مشروع إنقاذ وطني قد يجنبنا التقسيم الفعلي الذي هو حاصل الآن على المستوى النفسي والديموغرافي.

ولكن يبقى الرهان قائماً على إحياء حالة وطنية وهي مسؤولية كل سوري يؤمن بإسقاط الديكتاتورية الحالية ومرفقاتها الشبيهة داخل الثورة من أصوليات متمددة تعمل على توسيع رقعتها بالسطوة تارة وأخرى بالنصوص الدينية التي تستخدم لتثبيت المشروع الديكتاتوري الموازي وذلك باللعب على عواطف الناس وانتماءاتهم الدينية..

وهذه المسؤولية تكمن بداية في ضخ المزيد من مواد التوعية وفض الاشتباك بين النصوص، واحترام معتقدات الاًخرين، وحقهم بالتعبير عن الرأي ضمن مكاشفة سورية وطنية لا تقيّد فرداً أو جماعة بمزاج واحد يكون إمتداداً لثقافة البعث الكريهة بقيادته للدولة والمجتمع..

 

"ومراكمة الأخطاء بدعوى مقارعة النظام تنتج نظاماً اًخر يشبه المتاهة ويجعل من أي حالة وطنية طريق شائك ومعقد"

 

فالثورة ليست قديسة بالكامل والثوار ليسوا معصومين ومراكمة الأخطاء بدعوى مقارعة النظام، تنتج نظاماً آخر يشبه المتاهة ويجعل من أي حالة وطنية طريق شائك ومعقد.

السوريون اليوم تحديداً أمام قرار مصيري إزاء تدمير هويتهم الوطنية وطمسها ربما لقرون، وهذا القرار يتجلى في أن يكونوا يداً واحدة لإنقاذ ما تبقى من البلد والمجتمع بشكل أساسي قبل أن يجدوا أنفسهم أمام خيار التقسيم أو الحرب عليهم وهم عملياً بدون أي تغطية عسكرية وطنية ضمن فوضى التقاتل المناهض للنظام والذي في غالبه لا يتبنى قرار الثورة ولا مشروعها ولا حتى يعترف بالثورة ضمن أدبياته.

أعتقد بأن الشعب السوري لو وحّد جهوده السياسية والعسكرية والمدنية فإنه قادر على إسقاط سريع للنظام وبتكلفة أقل بكثير مما مضى، وإلا فإن هذا النظام وحلفاؤه سوف يتصيدوننا واحداً تلو الاًخر حتى لو كنا في أقاصي الأرض.

علِّق

المنشورات: 2
القراءات: 10361

مقالات الكاتب

سوريون
التعليقات: 2