تفاوت المستويات الحضارية هو سنة التاريخ في جميع مراحله منذ بدء التاريخ المدون، فلم تمر فترة توحد فيها العالم كله على مستوى حضاري واحد بل يكون هنالك دوما المتقدم والمتخلف ومن بينهما. توالت دورات النهوض والتخلف على كل الأمم والحضارات القديمة وتنازعت الممالك القديمة ذلك الدور القيادي على باقي العالم عبر السلاح والقوة تارة وعبر الاستثمار في المكون الذاتي لتلك الأمم تارة أخرى وعبر مزيج من الإثنين كما في غالب الحالات التاريخية. لا يمكن اختصار معنى الحضارة في التمدن كما فعل ابن خلدون في مقدمته بل يجب الاستطراد في تعريفها إنطلاقاً من أصلها الاشتقاقي: حضر حضوراً؛ و الحضارة هي مظاهر الرُقيّ العلميّ والفنيّ والأدبيّ والاجتماعيّ في الحاضر. قد تكون هذه المظاهر قديمة واستمر تأثيرها إلى اليوم كما الديموقراطية اليونانية وفنون العمارة الإسلامية كما قد تكون مظاهر حديثة أو معاصرة كالموسيقى والسينما الأمريكيتين ونمط الحياة السويدي على سبيل المثال.
إن بناء الحضارة – أي حضارة – إنما يتم عبر اجتماع أمرين؛ أولهما هو الهوية الذاتية والتي هي بناء تراكمي من الخبرات الفريدة للمجموعة المعرفة لتلك الحضارة، قد تكون هذه الخبرات إيجابية كالعيش المشترك والتفاعل الثقافي وقد تكون سلبية كالانخراط في حرب أهلية والانجرار إلى تسلط طائفي أو أقلوي، ولكن تبقى الخبرات في المحصلة مادة بناءة لتلك الحضارة وخبرة مكتسبة لها بمعزل عن نتائجها الأولية. والأمر الثاني الذي يدخل في بناء الحضارة هو التأثير الخارجي الذي تتلقاه تلك الحضارة بشكل منفعل كانتقال العلم والفنون لها أو عبر التدخل الفاعل عبر الغزو والاستعمار الخارجي والذي قد يترك أثره لعقود – وربما قرون – بعد زوال ذلك التدخل الفاعل.
حضارة القوة - حضارة الغزاة
إن سباق التسلح ليس بالبدعة الجديدة فقد رافق ظهور الحضارات الأولى واستمر وجوده على رأس قائمة الأولويات لأي جماعة تطمح للريادة كانت الحروب قديماً أداة لتأمين مصادر الموارد الطبيعية منها والمالية بالإضافة للموارد البشرية عبر الاسترقاق والقبض على الخبراء. لم يكن سباق التسلح هذا بالمهمة السهلة أو الرخيصة؛ فالدول التي وصلت إلى مرحلة تفوق عسكري كان لابد لها أن من الاستثمار في الخيار العسكري الذي يؤدي مهمة التوسع وفرض الهيمنة والتفوق على باقي الامم عبر تركيز إنفاقها ومواردها بل وحتى أدبياتها في سبيل تمكينه. إن كل الأمم التي تقدمت في عصورها كان لابد لها من أن تدخل طوراً استعمارياً يزيد من إمكانياتها المالية والعسكرية ويفرض نمط حياتها وتوجهاتها في ممالك خارج دائرتها المباشرة. فلم تبلغ حضارة الفينيقيين ولا الرومان ولا الحضارة الإسلامية أوجها إلا عبر ركوب البحار وقطع السهول والجبال للسيطرة على أراض وشعوب أخرى. لقد تركت كل من تلك الحضارات بصمتها المميزة على المدن والمناطق التي احتلت، من طرز البناء إلى المحاصيل الزراعية إلى المعتقد الديني، كان للمُحتل إرث من مستعمره. منها ما كان يفرض بقوة السلاح كالدين والسيادة ونظام الحكم واللغة ومنها ما كان تقبله أقل جبرية كالخبرات الصناعية والزراعية والفنون.
المفاتن أقوى من العضلات
لا يكفي لأي أمة غازية لتصبح حضارة مؤثرة أن تتفوق على المستوى العسكري، لا بد لتلك الأمة أن تقدم بنية فكرية ثقافية أقوى من تلك الموجودة في الدول المحتلة. من العلوم إلى الفنون إلى العادات اليومية؛ تحتاج القوة العسكرية ما يترك أثرها بعد أن يستقر غبار المعركة. لن تجد أي أثر حضاري يذكر مما تركته الحملات الصليبية على بلاد الشام ولا الغزاة المغول على حضارة العراق، بينما يسمتر تأثير حضارة العرب في الأندلس مستمراً في طعام الأسبان وموسيقاهم ومبانيهم. وبالرغم من كل الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة في اليابان وفيتنام وغيرها تجد أثر الولايات المتحدة واضحاً في تلك الأمم حتى بعد زوال الاحتلال العسكري. ولا بد لتثبيت تلك البصمة أن يكون المحتوى الحضاري للمستعمر متفوقاً على ذلك المملوك من الأمم المحتلة. لا بد إذا أن يكون المستعمر قد استثمر في نباء منظومة اجتماعية تفرز محتوى علمياً وأدبياً وأخلاقياً يخلق قابلية للأمم الأخرى لتبني هذا النتاج الإنساني طوعاً أو فرضاً. ستبقى موسيقى البوب والجاز الأمريكية وأعمال هوليوود نتاجاً فكرياً أثر على الحركة الفنية في مختلف أنحاء العالم حتى لو زالت سطوة الولايات المتحدة العسكرية بينما لن تستطيع الصين اليوم – حتى بعد أن أصبحت أقوى وأكبر اقتصاد في العالم – إحداث تأثير مشابه رغم عراقة تلك الأمة.
التبني أم الصد
لقد كان الفارق الحضاري بين الأمم القديمة إلا أن القرون الخمسة الماضية شهدت حدوث تفاوت حضاري هائل بين العالم المتقدم والعالم المتخلف لم يشهد التاريخ مثله. لقد جاءت الحقبة الاستعمارية ومن ثم الثورة الصناعية ومن بعدها الثورة التقنية الحديثة لتكرس هذه الهوة بين العالمين بل وتزيد في عمقها بشكل لم يكن للدول والامبراطوريات القديمة خلقه بينها وبين الدول الأخرى. لقد كان الفارق بين الدولة الأموية في الأندلس وبين أوروبا متمثلا بدولة عدالة وقانون و تقدم علمي بسيط يمكن استقدامه وتبنيه في دول أخرى وإزالة ذلك. ولم يكن الفارق بين روما مثلا وبين الامبراطورية الفارسية فوارق حضارية هائلة تستلزم عقوداً لردم هوتها. بالإضافة إلى بطء عملية التطور الذي يمكن بناء الفارق الحضاري والعلمي بين تلك الممالك مقارنة بسرعة تكون هذا الفارق في العصور الحديثة. لقد كانت الحضارات السابقة استئصالية ورافضة للنتاج الفكري للحضارات التي سبقتها ولكن عصور التنوير شهدت تغيراً في تعامل الأمم المنتصرة مع الحضارة المغلوبة. لقد غدى أحد أهم العوامل التي تضفي فاعلية على أي حضارة هي قدرتها على الانفتاح على باقي العوالم وإدماج المكنون الحضاري لباقي الأمم في بنيتها الذاتية. في المقابل تزيد الأمم المنكفئة على نفسها والرافضة لكل ما هو خارجي ومخالف لقيمها؛ تزيد في عمق الهوة بينها وبين الحضارية الإنسانية التي تستمر في التطور يوماً بعد يوم. لقد منحت حركة الترجمة والانفتاح على علوم الفلسفة والفلك الحضارة العربية في صدر الإسلام زخماً أكسبها أسبقية جعلتها بلا منافس في تلك الحقبة. بينما دفعت ذات الأمة ثمناً باهظاً عندما قررت الانكفاء على نفسه وصد أي تأثير خارجي على ما لديها من تراث فكري وحضاري تاركة ركب الحداثة يفوتها لقرون طوال. وفي النظر للتجربة الكورية و بمعاينة تجربة هونغ كونغ على سبيل المثال تجد تسارعاً مبهراً في ركب التمدن والرفاهية ومنها الحضارة الذاتية مستفيدة من تجربة استعمارية كانت هي ذاتها مفروضة على هاييتي ومصر ولم تفرزا ذات النتائج.
إن السباق الحضاري اليوم هو سباق تتابع تبدأ كل أمة فيه حيث انتهت التي قبلها، كل من يحاول تصفير العداد يحكم على حضارته بالاندثار والفشل، نحن اليوم نشهد حضارة عابرة للقارات واللغات، الحضارة التي نراها اليوم إنسانية عالمية تحول السباق فيها من محاولة تشويهها وتطبيعها إلى واجبية تطويرها والإضافة عليها. لا بد لأي أمة تطمح لأن تلحق بركب الحضارة إذاً أن تخلق لها مصدر قوة وتستثمر في خلق هوية داخلية وثقافة فريدة وأن تسارع حتى تصل إلى حيث وصل ركب الحضارة الإنسانية لتنافس على قيادة الركب. لم يعد هنالك مكان لإعادة إحياء التاريخ لبناء حضارة أو تكوين هوية بعد اليوم ويبقى التاريخ مستودعا متعلم منه أخطاء الماضي ونرسم من دروسه خارطة المستقبل.
التعليقات
ابو يمان (لم يتم التحقق)
18 شباط (فبراير), 2015
Permalink
السباق الحضاري
علِّق