نشرت في .January 12, 2016

 

* أحمد مظهر سعدو

 

اتّسم الاقتصاد السوري من حكم الدولة الشمولية طيلة أربعين سنة أو يزيد بالفوضى المنظمة، والفساد المستشري، والإفساد المقصود، وهيمنة قوى واستطالات اقتصادية "كمبرادورية " آلت على نفسها الامساك بدفة الاقتصاد، ضمن سياق غايات وأهداف تصب في النهاية لصالح هذه الفئة أو الشريحة -وهي ليست طبقة بالتأكيد– التي تنطّحت متحالفةً مع شرائح السلطة الأخرى، للسيطرة على منتجات الربح الوفير القادم من كل مفاصل المجتمع والاقتصاد السوريين وقد استطاعت هذه الشريحة، ومنذ بدايات مرحلة السبعينيات، من القرن الفائت، أن تستأثر بكل أقنية الاقتصاد، الأكثر ربحية، والأكثر دسما، فكانت القطط السمان حيناً، ورأسمالية الدولة حينا آخر، وكل ذلك وقبله وبعده ..فجمعت واستجمعت في المؤسسات الاقتصادية الصغيرة والكبيرة، للقطاع العام والخاص، وكذلك بالمشترك في حينه، حتى بات الوضع الطبقي في سورية، يتركّز في طبقتين اثنتين لا ثالث لهما؛

 

طبقة موسرة بل عالية الثراء، وهي صغيرة بالتأكيد

وطبقة أخرى متجمعة من كل الطبقات، تحت خط الفقر، بل تصنف عالميا تحت خط الفقر المدقع، فتعاونَ الفساد الاداري معها في معظم حالات حركتها، وتحالفت معه، ذلك التحالف البائس وسيء الذكر، لتنتج واقعا مجتمعيا لا يخفى على أحد، منهك القوة، ومنفلت من عقال التماسك المجتمعي، ومتآكل البنية تحت وطأة الفقر وسطوته ...فانتشرت الرشاوى في جل دوائر الحكومة ومؤسساتها، وبوضوح وفجاجة فاضحة، وبتشجيع من رؤوس متنفذة في النظام، لأن الفساد والإفساد يغطيها ويجعلها حالة طبيعية في سياقات ادارة فاسدة بالمجمل،مما اضطر بعض الشرفاء، وهم كثر، لا شك في ذلك، لأن يتجهوا الى العمل الإضافي أو الثاني،رغبة منهم في لجم وكبح غول الفقر والعوز، الذي يزحف باتجاه جميع الأسر السورية، من ذوي الدخل المحدود، أو من عمال المياومة، وما لف لفهما ..وهي حالة مجتمعية تنعكس بالضرورة على تركيبة الأسرة بحد ذاتها، فتجعل من رب الأسرة آلة تعمل ليل نهار، لتعود مساء وقد أنهكها التعب، فتنام  رغما عنها، ومن ثم تعود في اليوم التالي الى نفس الدوامة، وهذا ما يترك آثاره على حالة التعليم في الأسرة، وحالة التآلف المجتمعي،والتواصل ضمن الأنساق المجتمعية، التي كانت تعرف عن المجتمع السوري برمته، ناهيك عن عدم كفاية الحاجات الأساسية اليومية للأسرة، رغم كل هذه الأعمال الاضافية، هذا ان توفرت، فالدخل أقل من الانفاق، وحالة العجز في الميزان التجاري للأسرة مستمرة في التراجع والنكوص، أما الديون فتتراكم يوما بعد يوم،وهذا الأمر يترك ذيوله على حالة المحبة والتعاضد والتآلف داخل الأسرة المحددة والممتدة أيضا .

هذا الوضع الاقتصادي الآيل للسقوط، هو الشرفة التي أطل منها الشعب السوري نحو ثوران مجتمعي كبير، تحقق مع بداية الثورة الشعبية السلمية، التي انطلقت أواسط آذار 2011 منهية بذلك حالة الترقب والانتظار، التي وسمت المرحلة الأخيرة من حياة الناس قبل ثورة الحرية.

انطلقت الثورة، وهي تحمل تبعات كل تلك المرحلة من العسف والقمع، وهدر انسانية الانسان، والعوز المعيشي، والانهاك المجتمعي، وهو حمل كبير لا شك في ذلك، وتركة ثقيلة لا ضير في ذلك، ومع كل هذا، ومع بداية الثورة استطاع الانسان السوري أن يحمل كل تلك الأثقال، على كاهله، وينطلق معلناً : أن كفى هدرا للاقتصاد والانسان معا، والمجتمع بقضه وقضيضه ..كفى عسفا، وقتلا لإنسانية الانسان ..كفى سرقة لثروات الوطن، التي باتت نهبا للغادي والصادي، من أصحاب النفوذ والشرائح المنتفعة، القريبة من السلطة وأصحابها ..ناهيك عن الامتيازات التي استأثر بها البعض دون سواه .

وقف الانسان السوري ليقول بملء فيه "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد " وهو شعار طالما رفعه الشعب السوري، وهو صادق بحق، ومندمج حقا وواقعا، فبالرغم من كل ما عاناه هذا الشعب، ما زال لسان حاله يقول: الشعب السوري واحد، محملا بذلك كامل المسؤولية للمستغلين من رجالات السلطة دون سواهم وهذا الصوت يعبر عن وعي مطابق، ومتقدم على الكثير من حالات اللاوعي التي شهدها الشارع السوري أثناء ثورته المظفرة.

 

لكن استمرار الثورة لسنوات خمس أرهق كاهل المجتمع حاضن الثورة، وليس حاضن الارهاب كما يدعون،وخاصة بعد التدخل العدواني السافر للروس والفرس، حيث توقفت عجلة الاقتصاد، الفاسدة بالأساس، وخاصة المؤسسات الصناعية الصغيرة والمتوسطة والمادون صغيرة، وتجمدت الكثير من الأعمال التي كان يتعيش منها المواطن السوري، وتراجعت الزراعة بعد القصف بالبراميل والصواريخ النازلة فوق رؤوس العباد والبلاد، حتى بات الفلاح السوري عاجز عن الذهاب الى حقله للعمل فيه،خوفا من القصف البراميلي / هذه الصناعة النظمية السورية الحاقدة، والمنعتقة من كل انسانية ...كما تم طرد الآلاف من العمال والموظفين من مؤسسات الدولة بحجة أنهم حاضنات للإرهاب، ومن ثم اعتقال مئات الآلاف، وزجهم في السجون، وبالتالي تغييب شريحة من الشباب الذين هم عماد أي نهضة اقتصادية في أي بلد، وكذلك ظهور حالات الاعاقة الجسدية التي تتمظهر على جسم الشاب الخارج من المعتقل ..أو أنها تدفع به رغما عنه وخوفا من الاعتقال مرة أخرى لمغادرة الوطن بحثا عن العمل والأمان المعدوم في ظل هيمنة الأجهزة الأمنية السورية في بعض الأماكن التي ما زالت تسيطر عليها.

 

والحقيقة فان الحالة الاجتماعية السورية متفككة ومتأثرة بعوز العيش، الذي بات سمة أساسية لكل الناس بلا استثناء.

علاوة على حالة الهجرة والتهجير القسري، الذي يمارس بحق المواطن السوري، خارجاً أو   داخلا، وما ينتج عنه من فقر وعوز وتهديم المنازل فوق رؤوس أصحابها .. وفرار من تبقى من الاسرة ليعود الى منزله فلا يجده .. وهو ماعمل طول حياته من اجل أن يستحوذ عليه ..

ناهيك عن حالات الحصار الاقتصادي الغذائي وتجويع الناس كسياسة ممنهجة، كماجرى في الغوطتين، وفي الوعر، وكما يجري الآن في مضايا من حصار تجويعي الى حد الموت جوعا وهو مالم يحصل بالتاريخ من قبل عصابات( الهاغانا الحزب اللاتية ).

أما التعليم، فحدث ولا حرج، حيث التراجع و التسرب، نتيجة ذلك، والخوف من قمع السلطات وقمع سواهم .. وفقد الكثير من الكادر التعليمي شهداء أو في السجون , وتهديم المئات، بل الآلاف من المدارس، أو تحويلها الى مأوى للمهجرين ..

في الصحة، فالكل أصبح يعرف ما آلت اليه، بعد تهديم مئات المشافي، واعتقال الكادر الطبي بحجة العمل في المشافي الميدانية للثورة، وتجريم كل من يساعد مصابا، أو يطبب شخصاً ليس من النظام أو شبيحته ....

واقع سوري معاشي واقتصادي غاية في السوء، وانهيار اقتصادي فاقع، ونهب مستمر في الثروات بل في  كل مفاصل الدولة واقتصادها ومؤسساتها، وصناعة متوقفة , وتصدير متجمد , وليرة سورية تستمر هبوطاً، ليتجاوز الدولار 400 ليرة سورية، ولتشهد حالة الليرة تذبذباً، لم يسبق له مثيلا، وكل ذلك ينعكس بالضرورة على واقع الانسان السوري، الذي بات اقتناء المازوت لديه حلماً، وركوب السيارة رفاهية , وتشغيل الكهرباء اعجاز لم يسبقه اعجاز , وتأمين جرة الغاز غاية لا تدرك , والوقوف بالطوابير على الأفران عادة يومية , والتدافع على ابواب الباصات حالة مستمرة , والسفر بين المحافظات من الصعوبة بمكان، بسبب القصف حيناً، وارتفاع أسعار ركوب  البولمان تارة أخرى .

 

هذا هو الواقع المعاشي الاقتصادي للإنسان السوري هذه الأيام لكن الأيام القادمة حبلى بما هو أكثر سوءاً بالنسبة للنظام، خاصة عندما تتوقف ايران عن دعم، بل تسنيد البنك المركزي السوري، الذي صار آيلا الى الافلاس، بعد أن استنزف من أجل دفع أثمان السلاح، لقتل الناس، ولتأمين الذخيرة، وكذلك لدفع رواتب الشبيحة والمرتزقة من داخليين وخارجيين. ويبقى الأمل في انتهاء هذه الحالة الصعبة، وازاحة نظام الاستبداد المشرقي، وناهبي الثروات، هذا الأمل الذي مابرح السوريون متمسكين به، وينتظرون الفرج من الله أولا، ومن تصميمهم وارادتهم ثانيا، دون الاعتماد على الخارج الذي يترك الشعب السوري، بين فكي كماشة النظام وحلفائه من جهة، والانفلات الأمني، والتعصب من جهة أخرى، دون أن يتحرك أحد ما في الغرب أوفي الشرق، بشكل جدي، أو يبادر من أجل وقف القتل، ونزيف الدم، الذي لم يسبق وأن حصل في التاريخ المعاصر للأمم وفي أصقاع الأرض.

ويبقى العبء الأكبر على قوى الشعب السوري الحية والشريفة ووحدة قواها، التي لم تتلوث بما تلوث بها غيرها، ومازالت تتحمل المسؤولية تجاه شعبها وأمتها، ونحو وطن ديمقراطي مدني، خال من كل أنواع القهر، وسلب الارادة، أو هدر الانسان بكل أشكال الهدر. وحتى لا تتكرر مأساة العصر في مضايا، أو أي بقعة أخرى من الوطن السوري الحبيب .

 

 

علِّق