صورة eiad
نشرت في .November 13, 2014

جذور الاستبداد العربي إن الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال هو تلك المغالطة التاريخية التي ترددت كثيراً في ما كتب وقيل أن عمر الاستبداد في حياتنا يعود إلى 4-5 عقود الأخيرة من تاريخنا المعاصر، وكأننا قبل هذا التاريخ كنا ننعم بخيرات الحرية وفضائلها... وكأن الاستبداد الراهن ما هو إلا حالة طارئة واستثنائية من تاريخنا القديم والمعاصر. وهذه المغالطة التي تخالف الواقع والتاريخ القديم والحديث تؤدي بنا إلى النظر الى مشكلة الاستبداد نظرة محدودة وضيقة وسطحية تاريخياً وثقافياً وحتى سياسياً، بحيث يبدو أن الحرية هي القاعدة في تاريخنا وثقافتنا وًالاستبداد هو الطارئ والاستثناء وما علينا إلا التخلص من أجهزته وأنظمته وشخوصه السياسية والأمنية والعسكرية حتى تعود الحرية لتكمل مسيرتها الأصلية والأصيلة ؟ ! " تديين" الاستبداد... أستطيع أن أقول وبكل ثقة أن التاريخ العربي القديم والحديث هو تاريخ الاستبداد تقريباً...أي أن السمة الغالبة للتاريخ العربي هي سمة الاستبداد ماعدا بعض البقع الزمنية المحدودة والطارئة (دولة الرسول في المدينة , الخلفاء الراشدين , عمر بن عبد العزيز..... إلخ) أي عمر الاستبداد وثقافته يمتد الى ما قبل الإسلام؛ العصر الجاهلي القبلي والإمبراطوريات القديمة الرومانية والفارسية التي سيطرت على المنطقة العربية شرقاً وغرباً، والتي كان فيها الحاكم إلهاً أو نائب الإله، وما بعد الإسلام بقيام ما سمي في الثقافة السياسية الإسلامية (الملك العضوض بعد أن كانت خلافة راشدة) أي أن الإمبراطوريات الإسلامية (الأموية والعباسية ,والمملوكية, والعثمانية) قد ورثت تماما ًأنظمة الإمبراطوريات القديمة نفسها ولكن بلون إسلامي فقط، ولم يتغير فيها شيء. لقد وصف الأمويون سلطتهم المطلقة (الملك العضوض) بأنها قضاء الله وقدره وإرادته وما على المسلمين إلا الخضوع والتسليم لأن التسليم لسلطتهم العضوض هي تسليم وخضوع لإرادة الله وقدره وهي جزء من تمام إسلامهم. وكان لهم ذلك وتولى الفقهاء بناء الصرح الفقهي والثقافي لذلك بحيث أصبحت السلطة المطلقة وطاعة ولي الأمر بشكل مطلق جزءاً من الدين نفسه (تديين الاستبداد). أما العباسيون زادوا على ذلك (وزادوا الطين بله) بأن جعلوا الخليفة نائب الله على الأرض ووكيله وطاعته أيضاً طاعة لله تعالى نفسه , وقام الفقهاء بتحريم أي خروج على الخليفة (نائب الله) وكان مصير الخارجين القتل والتنكيل وقبل ذلك التكفير كمقدمة لتشريع الذبح والقتل وبالفعل فقد بلغ العباسيون حد التأليه لخلفائهم وبدعم وإسناد فقهي من علماء أو فقهاء السلطان. وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى سقوط الخلافة العثمانية في أوائل القرن العشرين. ومن الغريب أنه حتى حركات المعارضة والتي كانت في غالبها شيعية المذهب.. قد تقمصت نفس المنظومة الاستبدادية ولكن من زاوية أخرى تحت ذرائع دينية وفقهية أخرى - طبعا الإسلام بريء منها في الحالتين -.. ففي المنظومة السلفية السنية الأموية والعباسية كان الخليفة صاحب سلطة مطلقه ونائب لله في الأرض ومسدد إلهياً.. وكذلك كان الأمر في المنظومة السلفية الشيعية حيث بلغ الإمام لديهم درجة المعصومية ومعرفة الغيب وطاعته من طاعة الله. وهنا ذروة المأساة في تاريخنا حيث السلطة (الموالاة) والمعارضة ينهلون من نفس المنظومة الاستبدادية (البطركية - القروسطية ) بالتعبير الغربي ولذلك لف الاستبداد الأسود حياة مجتمعاتنا سلطة ومعارضة واخترقها عموديا ًوأفقيا ً.. سياسيا ً.. و ثقافيا ً.. واجتماعيا ً. هذه المنظومة السياسية لجناحي الصراع (السلطة السنية والمعارضة الشيعية) استدعت موضوعيا ً منظومتها الثقافية (الفقهية) من جهة وبنيتها الاجتماعية (البطر كية) من جهة ثانية. حيث تولى الفقهاء إعطاء الشرعية الدينية والفقهية لهذه المنظومة السياسية بتكريس ثقافة يومية وممارسة عملية مجتمعية عبر مئات السنين تعيد إنتاج هذه المنظومة. أكتفي الآن بإيراد بعض الأمثلة (يجب على المسلم طاعة الإمام حتى لو كان فاجرا ً أو فاسقا ً) (الإمامة بالغلبة – بالقوة) (سلطان غشوم ولا فتنة تدوم) (إن حدوث الفسق من الإمام بعد عقد البيعة له لا يوجب خلعه) (من قتل السلطان فهو سلطان) كما تم وضع العشرات من الأحاديث (المنسوبة للرسول) التي تبرر وتشرع الخضوع للحاكم / السلطان مهما كان عادلا ًأم ظالما ًبرا ً أو فاجرا ً وكأنه الإله بذاته. لقد اخترقت هذه المنظومة السياسية والثقافية المجتمعات العربية (والإسلامية) شاقوليا ً وأفقيا ًوعبر مئات السنين باعتبارها من قيم الدين ذاته وهنا مكمن الخطورة أي أصبح الاستبداد ديناً للعرب والمسلمين مما يعني أن التخلص من الاستبداد يحتاج إلى تجديد الدين ذاته أو ثورة في الموروث الديني. لقد أصبح الاستبداد على هذا الوجه جزءا ً من نسيج حياتنا وسلوكنا بل ممزوجاً بهويتنا العفوية اليومية بدءاً من الخليفة / السلطان / الحاكم / الرئيس حاليا ً إلى شرطي المرور ومأمور المخفر... ومن شيخ القبيلة نزولاً حتى سلطة الأب... وسلطة الابن الأكبر على إخوته. ومن شيخ أو إمام الطائفة الدينية.... حتى أصغر أتباعه.. ومن زعيم الحزب السياسي حتى أصغر نصير في أدنى خلية حزبية. وعلى هذا الوجه أصبح الاستبداد ثقافة مجتمع متكاملة... وليست ثقافة سلطة سياسية.. أصبح مرض كل فرد في المجتمع إما مستبداً بغيره أو مستبداً به حسب موقعه من هرم الاستبداد الاجتماعي (رئيس , مرؤوس , مدير,موظف، أب , ابن، شيخ ,مريد ,رجل، امرأه........ إلخ) لقد سقطت الكثير من أنظمة الاستبداد في تاريخنا ولكن لم يسقط الاستبداد ذاته كثقافة ونظام حياة , بل ابتلينا بأنظمة أشد هولا ً وقساوة في القمع والتنكيل مما قبلها (يروح قيصر ويأتي قيصر) لم يكن العباسيين بأفضل من الأمويين.. ولم يكن الفاطميين بأفضل من العباسيين.. وهكذا دواليك حتى بدايات القرن العشرين عندما دكت مدافع الحداثة الأوربية حصون وقلاع الاستبداد والتخلف العربي. لقد تناوبت دورات الاستبداد على حياة مجتمعاتنا في صيرورة متصاعدة حتى حولتها إلى مجرد رعاع وبهائم ترعى ما يترك لها الاستبداد من فتات ومن خشاش الأرض لكي تبقى على قيد الحياة البيولوجية تقريبا ً. لقد غيب الاستبداد الإنسان العربي عن وجوده وحياته وأصبح تماما ً خارج التاريخ إلى أن جاء تاريخ الآخرين (أوروبا) وقوض كيان حياته السياسي والاقتصادي والثقافي المتهالك والمنخور أصلا ً بفعل سوسة الاستبداد التاريخي وكان الاستعمار هو المآل الطبيعي لهذه الحال، إن عقود ما بعد الاستعمار (الاستبداد الخارجي) الاستبدادية ليست أمرا ً طارئا ً في تاريخنا ولا استثنائيا ً.. بل هو امتداد ومحصلة للاستبداد الداخلي المتضافر مع الاستبداد الخارجي (الاستعمار) مقومات النجاح إن ما عرفناه في الأربعينيات والخمسينيات في سوريا من حياة حزبية تعددية وأيضا ً في مصر وغيرها من البلدان العربية كان هو الاستثناء والطارئ نتيجة نقل وتطبيق الاحتلال الأجنبي لنماذجه في القانون والإدارة والسياسة (الديمقراطية الليبرالية) لذلك ما إن حصلنا على الاستقلال حتى عادت حليمة إلى عادتها القديمة وعاد مبدأ الإمارة بالغلبة ليفرض ذاته مرة أخرى سواء بالانقلابات العسكرية أو الملكيات الوراثية , وحتى الرئاسات الجمهورية عادت القهقرى إلى ثقافة تاريخنا القديم لتتحول إلى وراثية كما حصل في سوريا وليبيا واليمن... إلخ. إن دول أو أنظمة ما بعد الاستقلال قامت في أغلبها على أكتاف قوى وأحزاب ترفع شعارات الحرية والديمقراطية والحداثة والعدل الاجتماعي والاشتراكية وتحرير فلسطين.. إلخ. إلا أنها شيدت أخطر أنواع الاستبداد الحديث وأكثرها بشاعة وشمولية وإرهابا ً حتى من الاستبداد التقليدي القديم أو استبداد القرون الوسطى (الأموي والعباسي... وحتى الفرعوني). لما للدولة الاستبدادية الحديثة من قدرة وآليات وتقنيات في السيطرة والتحكم والتدخل في أدق تفاصيل حياة الفرد / المواطن بخلاف الدول السلطانية القديمة. إن أنظمة الاستبداد العربية الحديثة التي أطبقت على كامل الوطن العربي ما بعد مرحلة الاستقلال ما هي إلا امتداد تلقائي وطبيعي لمنظومة الاستبداد العربي الشرقي القديم وثقافته ولكن بشكل حديث وبآليات وتقنيات حديثة معاصرة أكثر عمقا ً وشمولية وأكثر فظاعة. ولذلك خاطئ جدا ً جدا ً من يعتقد أن عمر هذا الاستبداد الحديث الذي ثارت علية شعوبنا لا يتجاوز أربع أو خمس عقود، بل على العكس فإن عمره لا يقل عن مئات بل آلاف السنين ومن هنا تأتي جسامة التحدي الذي سيواجه هذه الثورات في بنائها لمجتمع الحرية وهو تحدي ثقافي و اجتماعي قبل أن يكون سياسي... بل هو تحدي تاريخي بكل معنى الكلمة... ومن هنا يمكننا القول أننا أم ثورة عربية تاريخية حديثة ترتقي إلى مستوى الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني كثورات الأديان الكبرى.. أو الثورات الاجتماعية الأخرى كالثورة الفرنسية.. لكنني أستدرك لأقول أن الثورة العربية الراهنة مرشحة وأشدد على كلمة مرشحة لأن تكون تاريخية شريطة إدراكها وارتقائها إلى مستوى التحدي الثقافي والاجتماعي.. بل التاريخي المطروح أمامها. لقد فشلت حركات ما بعد الاستقلال بأن تبنى صرح الحرية لمجتمعاتها لأن الموروث التاريخي الاستبدادي كان أكثر قوة وحضورا ً في تكوينها وآلياتها وأساليبها من قوة وحضور أهدافها وشعاراتها.. لقد انتصر الواقع المتخلف الاستبدادي عليها بدل أن تنتصر هي (الحركات) عليه. لقد كان الماضي لديها أقوى بكثير من إرادة المستقبل. إن الحرية ليست صناديق انتخاب وتعدد أحزاب وحرية إعلام فقد كان لدينا كل هذه الأشكال والآليات ومع ذلك انهارت وسقطت أمام قوة اندفاع الموروث الاستبدادي الكامن فينا فردا ً فردا ً.. وحزبا ً حزبا ً.. وقبيلة قبيلة.. وطائفة طائفة.. ووزيرا ً وزيرا ً.. ورئيسا ً رئيسا ً...... إلخ. إن الحرية قبل كل شيء.. قيما ً وثقافة..قبل أن تكون شعارا ً... وشعورا ً مرهفا ً بالإنسان وكرامته وقداسته قبل أن يكون تعليما ً في خلايا ولجان الحزب الأيديولوجية التي عشنا الويلات على يدي سلطاتها. إن نجاح ثورات الحرية في أن تكون تاريخية وإن تحقق التحولات العميقة في حياة مجتمعاتنا رهن في أن تتمكن من توفير "حرية " الثورة والنقد والمناقشة لكل مكونات حياتنا وثقافتنا القديمة المتخلفة والاستبدادية.. ورهن بتوفير الاحترام الكامل والمطلق لكل الأفكار والاجتهادات والتناول الجريء والصريح والشجاع لكل مشكلاتنا وتحدياتنا... ورهن في حرية الثورة على أنفسنا.. وقدرتنا على نقد ذاتنا.. بذاتنا.. وإعادة بناءها من جديد. إن المقدمات الأولى لهذه الثورات تشي بالأمل والتفاؤل وعدم تكرار التجارب السابقة... فلأول مرة في التاريخ العربي الحديث والقديم تقوم ثورات عربية تنخرط فيها قوى شعبية مليونية هائلة شعارها الأكبر والأوحد هو شعار الحرية والقوة والكرامة مما يشير إلى عمق التدمير والهدر التاريخي الهائل لإنسانية الإنسان العربي وكرامته. فهذا الحضور الشعبي الهائل هو أول مقومات ضمان نجاحها.. أما المقوم الثاني هو وضوح الهدف وإدراك عمق المشكلة لدى نخبة وقيادة تلك الجموع الشعبية الهائلة ومدى قدرتها على تمثل قيم وثقافة الحرية والديمقراطية وآلياتها واجتراح الحلول الناجعة لمشكلات البناء الديمقراطي . أما المقوم الثالث وهو الأهم والأخطر ويتمثل بقدرة الفعل الثوري على تجاوز السطح السياسي (بآلياته وإجراءاته وميكانزماته) إلى العمق الثقافي والاجتماعي وتحرير الإنسان العربي الجديد من منظومته الثقافية والاجتماعية اللاشعورية التقليدية البالية القائمة على منطق القوة والاستبداد باتجاه ثقافة إنسانية جديدة قائمة على منطق الحرية واحترام إنسانية الإنسان وكرامته وحاجاته وهذا يحتاج إلى جهود ثقافية ثورية هائلة تخترق كل جوانب وقطاعات حياة مجتمعنا سياسة وتعليما ً وفنا ً وتثقيفا ً.. اجتماعيا ً واقتصاديا ً وإداريا ً ... إن إنجاز هذه المهمة التاريخية.. وهي مهمة صعبة ومعقدة وشاقة وتحتاج إلى وقت طويل.. لأننا إزاء موروث تاريخي ثقافي لاشعوري.. جذوره غائرة في تاريخنا.. وفي تكويننا وبنيتنا مجتمعا ً ونخبة.. وهذا الموروث يتحكم في سلوكنا وتصرفاتنا ومواقفنا وعلاقاتنا وردود أفعالنا بشكل لا شعوري (تذكر حوارات برنامج الاتجاه المعاكس) أي أصبح جزءا ً من تصرفاتنا العفوية الطبيعية. إن التخلص من هذا الموروث التاريخي المجتمعي اللاشعوري يحتاج إلى وعي نقدي عميق ودقيق يعمل على تقويض أسس ومرتكزات هذا الموروث المتحكم في حياتنا تنتقل به من حالة اللاوعي إلى حالة الوعي النقدي وهو الشرط الأول للتحرر من هذا الموروث. وهذا كله يحتاج إلى جهود فكرية وثقافية وفنية نقدية هائلة وخلاقة تنهض بها النخب المؤمنة بقضية " الحرية ". ... إن مصير " الثورة العربية المعاصرة " لا يتوقف إطلاقا ً على إسقاط نظم الاستبداد السياسية بل إنجاز هذا الأخير هو المدخل فقط لتتمكن قوى الثورة من إنجاز ثوراتها الحقيقية والعميقة... لأن الثورة في التحليل الأخير تحول عميق في ثقافة ومعنى الحياة والوجود وليس في أشكالها وآلياتها فقط... أما كيف ؟ فهذا حديث آخر...

علِّق