شهدت فترة الستينات و السبعينات من القرن الماضي في الدول الناطقة بالعربية حالة معينة من الثورة المجتمعية و الفورة الثقافية، حيث كانت هناك جاذبية للأدباء والمفكرين والشعراء بين أوساط الشباب، مما ساهم في ظهور نجوم من الأدباء والكتاب كمحمود درويش و نزار قباني و غسان كنفاني وغيرهم الكثير، والذين ما كانوا ليعملوا في الأدب من أصله لو كان الجو الثقافي مشابها لما هو عليه اليوم من هجر كامل للأدب والعلم، و لكنا حرمنا من منتجات ثقافية غاية في الأهمية وغاية في الإبداع، وساعد على ذلك الجو المشجع على الإبداع بشكل أو بآخر إنتشار الفكر اليساري المتحرر نسبياً من الناحية الفكرية والمجتمعية في تلك الدول. وقد انعكس ذلك إيجابا على جامعاتنا ومعاهدنا أيضاً.
لست هنا بمعرض مناقشة الفكر اليساري، ولكن بشكل عام كان يمكن أن ينتج عن تلك المرحلة نوع معين من النهضة الفكرية الثقافية والمجتمعية تؤدي بنا على الأقل إلى مسايرة الحضارة العالمية، فيما لو استمرينا على هذا الخط لولا عدة عوامل ساهمت بإغراقنا في مستنقع من الجهل والتخلف الشديدين، أختصرها حسب أهميتها بسببين رئيسيين :
-1-
- أولاً: أنماط الحكم الدكتاتوري الشمولي للدول الناطقة بالعربية، والتي لم تكن أساساً دكتاتوريات متنورة، بل تحولت إلى نمط مافيوي يهدف إلى زيادة ثروة الحاكم و عائلته والمقربين منه، ضمن شجرة من الفساد تبدأ بالموظف الصغير في الدائرة الحكومية والشرطي الصغير الذي يحرر المخالفات وتنتهي برأس الهرم الحاكم، بموجب أدبيات معروفة لهذه الأنظمة في إفساد المجتمع أولاً، كي يتعود أن يكون الفرد جزءاً من هذه المنظومة الفاسدة المتكاملة و المؤيدة بمنظومة رعب تحميها، لا يستطيع أن يخرج عنها ويتمرد عليها.
- ثانياً : عبر تجهيل المجتمع و تسطيحه فكرياً، كي يسهل السيطرة عليه واستعباده بشعارات مدوية براقة ليس لها معنى تطبيقي حقيقي ..
فيعطّل الفرد عقله عن قصد بسبب الخوف، فمن يعمل عقله سيتم إيذاؤه و إيذاء أسرته ضمن منظومة الرعب التي تسمى -اصطلاحاً فقط- دولة، و بالتالي يتبع يضطر لإتباع غرائزه البدائية في البحث عن المأكل والمشرب والمسكن فقط، فيبحث عن وظيفة ما تتيح له الانتفاع من إحدى منظومات الفساد المعروفة، ليحصل ثروة معينة فاسدة تحميه وتحمي أولاده من عوز محتمل في بلاد غير مستقرة نسبياً، فالبديل الآخر المتاح لا يؤدي إلى معيشة كريمة إلا ما رحم ربي .
- ثالثاً: تسخير الدول الشمولية لجلّ مواردها في حشد جيش كبير يحمي عروشها تحت شماعة محاربة إسرائيل وما إلى ذلك.
-2-
ظهور المملكة الوهابية السعودية كقوة اقتصادية هائلة بسبب النفط، مما مكنها من تصدير الدين الوهابي البدوي التكفيري إلى كل بلاد العالم، عبر دفع الأموال الطائلة التي تأتي بسهولة في سبيل نشر هذا الدين، والبعض قد يستغرب من أنني كتبت هذا السبب على أنه الثاني من حيث الأهمية و ما ذلك إلا للأسباب التالية :
- أولاً: استغلت المملكة الوهابية هذا المال لاختراق المؤسسات الدينية التقليدية في الدول -المسماة اصطلاحاً- إسلامية، و خاصة المؤسسات الصوفية ذات الفكر المسالم، بغض النظر عن موضوع محاباة الحاكم الظالم، كما فعلت بالأزهر في عصر السادات حتى بات الأزهر حاليا بؤرة من بؤر نشر الأدبيات السلفية التي لم يعد ممكنا تفريقها عن باقي مذاهب السنة، بسبب إستغلال تشابك المنابع الفكرية للمذهب السني، فغلب التشدّد على الرحمة و الجهل على الفكر و الجبرية على الحرية .. وبات شيخ الأزهر موظفاً عند المملكة الوهابية، فيكون أول المعزين بمقتل الجنود السعوديين في اليمن دائماً، بينما لا يفعل ذلك لا مع الطرف الآخر ولا مع أي دولة أخرى، وكذلك هو الأمر في باكستان و أفغانستان و الجزائر والمغرب و الخليج و غيرها.
- ثانياً: نشرت المساجد السلفية الوهابية في كل أنحاء العالم ودفعت المليارات في سبيل ذلك، ليكون أتباع هذا الدين البدوي المتخلف الذي لاعلاقة له بالإسلام (لوبي) تستخدمه في الأزمات مع العالم المتحضر.
- ثالثاً: نشرت الفضائيات بعد أن كانت تعتبر سلفياً من المحرمات، و كل من كانوا يحرمونها من كهنة السلفية صاروا هم أول نجومها. كيف لا وتجارة الدين تجلب الملايين، فدخل كهنة أكثرِ دين متخلف وعدمي و أبعدُه عن الإسلام كلَّ بيت من بيوتنا ولعدة مرات يومياً وعلى عشرات المحطات، مستغلين عدم معرفة الإنسان العادي لتفاصيل دينه، فأصبحوا يقاربون الشباب المسلم ويركزون عليهم بطريقة التخويف من عذاب النار عبر محرماتهم الألفية، التي إخترعوها خارج ما حرم القرآن من أقل من عشرين محرما في منظومة رعب أخرى، فسيطروا على عقول شبابنا تماما عبر زرع عقدة الذنب لديهم حتى عند دخول الحمام، وكثير منهم هم أبناء عائلات متنورة تمردوا على تربية أهلهم لخوفهم من عذاب الحريق، فجعلوا صورة الله لديهم جلاداً سادياً يستمتع بتعذيبهم لو لم يؤدي واجباً دينيا ًوما إلى ذلك، وانعكس ذلك على تصرفاتهم كجلادين في المجتمع يحرمون ما حلل الله و يطبقونه جبرياً وبغلظة، حتى جاءت داعش والقاعدة وحققت حلمهم في تطبيق ما تعلموه على أرض الواقع، وهذا سبب إنتشار داعش و غيرها وليس أمريكا و المؤامرة على الإسلام وما إلى ذلك من خزعبلات يرددها الناس كالببغاوات، مع علمنا بأن أمريكا لاتتورع عن إستخدام هذا الفكر كما فعلت في أفغانستان مثلا
وسط منظومتي الرعب السياسي والديني هاتين، نشأ أبناؤنا خلال آخر ثلاثة عقود وحوصرت عقولهم بين فكي كماشة تمارسان الرقابة على أي فكرة تحررية تخرجهم من الظلام إلى النور ..
و قد استغلت المملكة الوهابية كترجمة لذلك، تجهيل الدول الدكتاتورية لأبنائها في عملية زرع العدمية الفكرية الوهابية الطائفية الممنهج في عقولهم المهيأة سلفاً، واستخدمتهم لخدمة مصالحها وليس مصالحهم، فأصبح شبابنا بدل أن يقرؤوا روائع الأدب والشعر و يتابعوا آخر مستجدات العلم، توجهوا بتأثير عقدة الذنب المزروعة وهابياً لدراسة ما يسمونه علماً شرعياً، فضاع العلم وضاع الأدب وضاعت الفلسفة والعلوم الإنسانية المحرمة أصلاً، و أصبحنا ندخل معارض الكتاب حتى في سوريا فنجد معظم المكتبات أتتنا بالكتب الدينية المذهبية بالآلاف، و تبحث عن كتب الأدب والفنون والروايات فلا تجدها لعدم وجود سوق ثقافي لها بين الناس بعد كل ماسبق، فضاعت الثقافة العربية ..
أنا أدعي من خلال دراستي للقرآن واتباعي لإسلام ماقبل المذاهب السياسية السنية والشيعية، بأن الإسلام دين أقرب إلى اليسار من اليمين، جاء لتحرير المجتمع من عبوديته للكهنة والأشخاص والقيود المجتمعية، وتحرير العقل دون حدود و تحرير المرأة من ذكورة المجتمع، وليس فيه القيود التي يدعيها أتباع الكهنة وليس فيه التضاد الذي يظنه بعض أقطاب اليسار مع الفكر اليساري، و أعرف أن ما أقوله لا يجرؤ كثيرون على قوله بسبب حالة الكسل المعرفي التي نعيشها..
فأين نحن اليوم من اللحاق بركب الحضارة بعد أن أصبحنا أمة أمية مستهلكة غير منتجة تلعننا كل الأمم ؟ .. فلنتحرر من قيودنا العقلية أولا و لنحاول معا إنقاذ ما يمكن إنقاذه .
علِّق