كيف يرى بوتين علم الاجتماع؟

الكاتب الأصلي: 
Masha Gessen
تاريخ النشر: 
7 تشرين اﻷول (أكتوبر), 2016
اللغة الأصلية: 
0

 

قبل مدة طويلة من إعلان السلطات الروسية  في سبتمبر أن مركز "ليفادا" وهو مركز الرأي العام الوحيد في البلاد والمستقل، أنه "وكيل أجنبي"، كان مديره السيد "ليف دي جودكوف" على دراية مسبقة بأن هذا سيحصل.  

وخلال الأربعة أعوام الماضية، طلبت روسيا من المنظمات الغير ربحية لتسجيل أنفسها كـ" وكلاء أجانب" في حال كانت تتلقى أي تمويل من الخارج ومنخرطة في النشاط السياسي. ويطلب القانون الروسي من أي منظمة التعريف بنفسها كـ" وكيل أجنبي" في جميع الاتصالات العامة، كما و يفرض إجراءات صارمة لإعداد تقاريرها المالية.

وأضافت التعديلات الأخيرة على القانون والتي اقترحتها وزارة العدل الروسية في شهر شباط الماضي وتم تمريرها في أيار، الاقتراع  إلى قائمة الأنشطة التي تعتبر سياسية. وعندما زرت السيد " جودكوف" في نيسان  قال لي أن القصد من هذه التعديلات هو استهداف مركزه على وجه الخصوص.

وبالنسبة لمعظم المنظمات الغير الحكومية، إن ما يشلّ فاعلية العمل هي متطلبات التزويد بالتقارير. وبالنسبة لأي مركز للرأي العام  إن التصميم نفسه هو من سيجيب على الأسئلة التي يطرحها أشخاص يسمون أنفسهم على أنهم "وكلاء أجانب"؟.

ولذلك، عندما أعلنت وزارة العدل الروسية في سبتمبر أن مركز "ليفادا" " وكيل أجنبي" لم يُفاجئَ السيد "جودكوف" بهذه الخطوة، وقد كان يحذر أكثر من أي شخص آخر من تحول مظلم في السياسة الروسية.

وفي عام 1994، تحدى " جودكوف" وزملاؤه في ما كان يعرف آنذاك بمركز بحوث الرأي العام الروسي رواية الانتقال السلس من النظام السوفييتي إلى ذاك الديمقراطي، ومع بداية الألفية الثانية، كان السيد "جودكوف" يكتب عن الحاجة لإعادة النظر بمفهوم "الشمولية"  الذي عزله الكرملين ولفترة طويلة, واعتقد "جودكوف" أن أعراض المرض القديم آخذة بالظهور على روسيا.

 

إن للأنظمة الشمولية علاقات متأزمة مع علم الاجتماع، فمن ناحية، لا تنظم هذه الأنظمة أية انتخابات،  ولا تمتلك إعلاماً حراً تستطيع من خلاله معرفة المزاج العام، ولذلك نراها بحاجة لعلماء الاجتماع أكثر من حاجة الأنظمة الديمقراطية لهم .

ومن ناحية أخرى، إن خوف هذه الأنظمة من الإعلام يتناسب طرداً مع حاجتها له، وتخشى من أنه إذا ما تم السماح  لعلماء الاجتماع العمل بحرية فأنهم سوف يحصلون على معلومات ودراية بجوانب ضعف هذه الأنظمة. ومن شأن النظام الشمولي المثالي إيجاد وسبلة للحصول على بيانات اجتماعية من دون علماء الاجتماع.

واستمرت علاقة الأخذ والرد هذه مع علم الاجتماع بالظهور طوال فترة الحقبة السوفييتية، وكان علم الاجتماع تخصصاً محظوراً لعقود . وحتى "كارل ماركس" ، تم تجرديه من أوراق اعتماده الاجتماعية خلال منحة دراسية رسمية سوفيتية، واحتفظ فقط بلقبه "مؤسس الشيوعية العلمية ومعلم وزعيم البروليتاريا العالمية". ولكن بدءاً من خمسينات القرن الماضي، تم السماح بقليل من علم الاجتماع تحت رعاية الفلسفة " الفلسفة الماركسية" بطبيعة الحال.

كانت أولى مواجهات السيد "جودكوف" مع علم الاجتماع في أواخر ستينات القرن الماضي، عندما كان طالباً في قسم الصحافة في جامعة موسكو الحكومية، ووقع على مادة اختيارية يُدَرِسًها "يوري ليفادا" عالم الاجتماع السوفييتي الرائد. أعجب هذا التخصص السيد "جودكوف" بشكل كبير، ثم بدأ يتوسل السيد "ليفادا" لإيجاد وظيفة عمل.

 

في العام 1970، منح السيد "ليفادا" الطالب "جودكوف" وظيفة إدارية لفريقه الصغير والمتخصص في البحث. أخبرني "جودكوف" أن هذا الأمر كان أسعد فترة في حياته، ولكن خلال عامين انتهى كل شيء،  حيث أُعتُبِرَ أن عمل السيد "ليفادا" يشتمل على فهم غير صحيح للقضايا السياسية الهامة، وجرى إلغاء القسم الخاص به مما أضطر موظفيه للبحث عن فرص عمل في أماكن أخرى.

وعلى مدى العقدين التاليين، عمل عشرات من طلاب السيد "ليفادا"في مختلف المؤسسات السوفيتية. وغير السيد "جودكوف" أماكن عمله مرات عديدة، حيث جرى السماح له في بعضها بإجراء قليل من الأبحاث من دون السماح له بنشرها.

لكن مجموعة السيد "ليفادا" حافظت على وجودها، وعلى مدار عقدين، كان موظفوه السابقون وقليل من الذين انضموا إليهم لاحقاً، يجتمعون كل أسبوعين في مكتبه أو شقته لمناقشة ما يمكن تعلمه حول علم الاجتماع الغربي بشقيه الكلاسيكي والمعاصر، وحافظت هذه المجموعة على شكلها أكاديمياً.

وفي العام 1987 وفي ذروة سياسة إصلاح النظام السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفييتي والمعروفة باسم "بيريسترويكا" سُمِحَ للسيد "ليفادا" أخيراً بإعادة تجميع فريقه. كانت حكومة "ميخائيل غورباتشوف" بحاجة لفهم البلد التي كانت تحاول تغييره، ولذلك تم تشكيل مركز بحوث الرأي العام لعموم الاتحاد، بيد أنه عندما انهار الاتحاد السوفييتي، تحول اسم المركز ليصبح " مركز بحوث الرأي العام الروسي".

وبعد سنوات قليلة من تولي بوتين للسلطة في بلاده، سيطر الكرملين على مركز أبحاث الرأي العام الروسي، وتم طرد السيد "ليفادا"مع فريقه من المركز، فضلاً عن تعيين مدير جديد للمركز من قبل الكرملين بدأ إصدار أبحاث تروق للكرملين وعلى مقاسه.

 

بدأ السيد "ليفادا" العمل في ورشته الخاصة، وكانت عبارة عن فريق صغير، وقد فقد منفذه الأكاديمي الذي كان عبارة عن مجلة نصف شهرية يسيطر عليها الكرملين اليوم . و لم تعد لدى موظفي المركز القدرة على كتابة  مقالات علمية طويلة، إلا أن المركز استمر في إجراء وتفسير استطلاعات الرأي العام،  وعندما توفي السيد "ليفادا" عام 2006، أصبح السيد " جودكوف" وهو أصغر تلاميذه، مديراً للمركز.

استعاد مركز "ليفادا" سمعته بوصفه المصدر الأكثر موثوقية بخصوص الرأي العام الروسي لدرجة أن الوزارات الاتحادية أجرت استطلاعات للرأي بتكليف منه من حين لآخر، وفي بعض الأحيان كانت النتائج التي يعطيها تختلف قليلا أو تطابق  مثيلاتها الصادرة عن استطلاعات للرأي يسيطر عليها الكرملين.

غير أنّ الكرملين لم يتمكّن من الهيمنة على باحثي مركز " ليفادا" الاجتماعيين مما جعل قدرهم محتّماً، في النهاية فاق خوف الكرملين من المعلومات رغبته بها... تماماً كما أدرك السيد .." جودكوف".

 
عدد القراءات: 30923

علِّق

المنشورات: 45
القراءات: 1461483

مقالات المترجم