صورة eiad
نشرت في .March 04, 2015

 

رغم محاولات كثيرة بذلها نشطاء سلميون لجذب الناس لتبني اللاعنف، بقيت الصورة المتخيلة عنه مشوّشة؛ فهو إما صعب حدّ الاستحالة في التطبيق: (تستلقي تحت سلاسل الدبابة لتفرمَ وأنت تصرخ: سلمية سلمية)! أو أنه ستار مخملي يختبئ وراءه الناشطون الـ (cool) ، يطيّرون البوالين الملونة ويوقدون الشموع... دون أن يدركوا حقيقة الحياة والواقع ودموية الأنظمة الطاغية.

اللاعنف المطروح هنا هو: حسم الصراع بين المصلح والطاغي عن طريق الصدح بالنظرية والثبات في تبليغها، ثم الاستمرار دون استخدام القوة حتى تحقيق هذه النظرية.
والصراع هنا هو من أجل الفوز بانحياز الطرف الثالث (الشعب الصامت) الذي يدعم -بدءاً- الطرف المقابل مرغماً أو مخدوعاً أو بحكم العادة. ويُقصد بالنظرية ما يعتبره المصلح صحيحاً أو محقّاً. وبالقوة يُقصد القوة العارية (العنف الجسدي أو السلاح).
وأخيراً، باللاعنفيين أقصد نفسي أولاً، وفي أحيان أخرى يستغرق الاصطلاح كلّ مثقف يفترض فضاء الأفكار بدايةً لأي تغيير.

إذاً، فالثبات على التبليغ وعدم الردّ بالعنف هما جناحان يطير بهما هذا المنهج، وبغياب أحدهما نحصل على مخلوق معاق وأكتع؛ فإما نجدّد الديكتاتورية، أو نضع على النفاق قناع الحكمة!
في سوريا، نسمع كل حين ونرى اقتتالاً بين فئات مسلّحة غير النظام وأنصاره، من التي كان مبرّر وجودها الأساسي هو محاربة الطاغية أو حماية الشعب الأعزل. يكتفي اللاعنفيون إزاء ذلك بالإدانة والتبرؤ، وتبرير موقفهم (بل عدم موقفهم) بأن هذا طبيعي ومتوقّع، وبأنهم حذّروا من ذلك قبلاً.
والإدانة والتبرؤ وترديد التحذير هو أيضاً ردّ اللاعنفيين على تبعات وأوزار الحرب: (توقّعنا، قلنا، هذه نتيجة منطقيّة، الدراسات تقول هذا، الدراسات -أيضاً- تقول إن القادم أسوأ.. يا حسرة على العباد.. يا ليت قومي يعلمون!).
علماً أنه لا أحد من القوم (الشعب المغلوب على أمره) يقول إن التغيير بدون عنف شيء سيّئ. لكن خطأ اللاعنفيين أو تقصيرهم أنهم لم يقدموا للناس آليات ممكنة قابلة للتطبيق، ومؤهلة لاجتياز اختبار (الربح والخسارة) الذي يملكه بالفطرة كلّ مواطن مسحوق.
مثال: أصرخ: حرية.. حرية. يأتي الشبيحة، يطلقون الرصاص، قد أرتقي شهيداً وأترك أهلي ورائي بلا معيل، أو قد يرتقي من زملائي شهداء. أنتظر دوري  بالرصاصة التالية، ثم أتمنى أن الرصاص لم يخطئني عند الاعتقال حيث القتل بألوان من التعذيب أعرفها ولا أعرفها. هذا خسران مبين.
سيناريو آخر: حرية.. حرية! شبيحة.. رصاص.. لم أمت. لم أعتقل. صرت مطلوباً لفروع التعذيب! إلى العمل بالتخفّي، لا وظيفة ولا دخل.. لا حياة اجتماعية.. تجميد كل شيء إلى أجل غير مسمى.. خسارة وخيبة أيضاً.

بمحاكمات مشابهة -أو أكثر تسطيحاً- خسر اللاعنفيون معركة كسب الناس لصفهم، وبدؤوا يطمرون هزيمتهم بأكوام -محقّة- من انتقاد المسلّحين العنفيين وأدائهم. بعد أن أخذوا مسافة عن ذلك، أو بأكوام أخرى -غالباً محقّة أيضاً- ترمي اللوم على الموقف المصلحي والعوز الأخلاقي عند الفئة الصامتة الواسعة.
والحال أن كمية العنف الكبيرة التي تعاني منها بلادنا هي معيار مباشر لفشل اللاعنفيين أنفسهم قبل غيرهم؛ فهم انكمشوا في بداية الثورة السورية أمام مدّ العسكرة عملياً ونظرياً، وتمّ الترويج للسلاح على أنه الحل الوحيد والإجباري مع النظام السوري (أعتى الأنظمة في العالم)!، وهو (لا يفهم باللاعنف). ورغم أن هذا تركيب مغلوط من المسلّمات المغلوطة أصلاً، إلا أنه قد مُرّر وسُوّق للسوريين. والواقع أن كلّ الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها -بعنف وبلا عنف- كانت عاتية، ولا يوجد نظام ديكتاتوري (يفهم) ويقدم تنازلات إلا مضطراً.
وبناءاً على نفس المسلّمات الخاطئة غاب اللاعنفيون تقريباً في الصراع مع داعش، بل مع أي فصيل مسلّح  طغى على الناس أو على النشطاء قليلاً أو كثيراً.
لكن المفروض أن كثرة (الخطأ) تقتضي تكثيراً لما يقابله لإصلاحه، فإذا عظُم الحريق يحتاج إلى مزيد من رجال الإطفاء ومزيد من المعدّات، وتبقى الفرجة وتوصيف حركة النيران وهي تلتهم البلاد والعباد وظيفة للتاريخ.  الانسحاب يجعل الساحة ملكاً لمن بقي فيها، يعيث كيفما أراد (أو أُرِيد له) طولاً وعرضاً.

متى إذاً يأتي أوان هذا النوع من النضال ليكون فعّالاً؟ وما فائدة اللاعنف في أماكن عافت الحروب منذ عشرات السنين؟ وصار المذكور عندها عبارة عن آليات ميكانيكية تُطبّق لتحصيل مزيد من المكاسب أو لإعاقة ما لا يُبغى، على أعلى  المستويات وأدناها كلّاً بمقدار؟ وما الجدوى من التبشير بالديمقراطية في بلاد اخترعتها ولا زالت تمارسها؟ وما نفع الكلام الصحيح دون تقديم آليات وطرائق لتنفيذه وجعله واقعاً؟
لا شكّ أن الجهد العملي والنظري الذي قام به اللاعنفيون داخل وخارج سوريا مهم، إلا أنه -على لزومه- غير كافٍ، وإن انتقادنا لهذا الجهد يأتي من كونه ينتمي لمنظومة قابلة للإصلاح وعليها أن تحتمل ما يُكال لها من النقد القاسي غير المجامل. وليس هذا تقريعاً مقصوداً لذاته، ولا هو محاولة للتملص والانقلاب على منهج لا زال الانحراف عنه -رغم كل شيء- أقلّ أذى وكلفة من مقابله. فما أكثر الأدلّة التي تقول اليوم إن السلاح -في سوريا بالذات- لم يحمِ الثورة ولا الناس العزّل ولم يتمكّن حتى من حماية نفسه، وإنه قد يحرّر الأراضي لكنه -أيضاً- قد يستعبد صاحبها: الإنسان.
هذه دعوة للمثقف السوري لأن يزامن أفكاره مع الواقع ويستعيد الثقة بالناس وبآليات باقية في أيديهم، تحتاج إلى من يقوم بتفعيلها بما ينفع البلاد والعباد.

علِّق