نشرت في .April 24, 2016

 

 

هذا البحث ليس تقييماً للتاريخ العربي، بل تقصياً لجذور ومقدمات التدهور في مساره والكشف عن تراكماتها ومفاعيلها في كل اوجه وابعاد حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية عبر تاريخ طويل، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لاكتناه وفهم حاضرنا وواقعنا من الجذور وأيضاً للتوصل الى التشخيص العلمي لحقيقة استعصاءات ومشكلات هذا الواقع في ترابطها المركب والمعقد، كارضية لامفر منها لبناء استرايجية مدروسة للنهوض والتجدد مرة اخرى.

 

 

مدخل عام

كان نزول الوحي بمثابة تدشين لتاريخ جديد في المنطقة العربية، ومن ثم في العالم القديم، تاريخ من الصراع بين عالم قديم قائم على القوة والغزو والبنى القبلية والبدوية الوثنية المغرقه في القدم وما يرافقها من ثقافة عميقة الجذور في العقل والنفس تتولى باستمرار اعادة انتاج هذا العالم العصبوي البدوي المغلق.. وبين قيم وتعاليم رسالة الهية نقيضة له جذريا في انسانيتها وانفتاحها واحترامها للانسان كانسان تدفعه للارتقاء بنفسه من عصبية القبيلة القطيعية المغلقة الى رحابة الانسانية ومعانيها في الحرية والكرامة والعدالة السمحاء من مصدر الهي حق.

هذا الصراع بكل ابعاده من لحظة احتدامه لم يتوقف عبر التاريخ وحتى الان.

الاسلام بكل ماجاء به من مبادىء وقيم شكل امكانا وقابلية لقطيعة تاريخية وثقافية وايضا معرفية مع ما كان، وهو بالتعريف الحديث مشروع ثورة تاريخية تعيد تأسيس المعتقدات والقيم والانتماء وليس مجرد تغيير لنظام او اصلاح جزئي هنا وهناك انه باختصار مشروع للتحرير الشامل للانسان من الاستعباد بكل ابعاده،أي تحرير الانسان من عبادة العباد الى عبادة رب العباد

مما يعني تحرير الانسان من قطيعية العصبيه الى رحابة العقيدة والاله ايمانا.. من عبادة الحجر و سلطان الانسان الى عبادة رب الحجر والانسان.. من الغزو الى التعارف والتفاعل والتعاون.. من انصر عصبيتك على الباطل والحق الى الانتصار وفقط للحق ولو كان ضد القطيع.. من الوثن الى القيمة والمعنى.. من الاسطورة والوهم الى المعرفة والعقل.

انها نقلة وثورة هائلة استدعت مقاومة شرسة من كل فراعنة وقوارين وهامانات الماضي القديم ومصالحه ومألوفه الموروث من آلاف السنين،امتدت عبرعشرين عاما او يزيد تم اختتامها بفتح مكة وخضوع الصناديد من زعماء قريش ومن ثم كسر شوكة المقاومات القبلية والوثنية في كل انحاء الجزيرة العربية جمعاء.

 

ان الانتصار العسكري والسياسي للدعوة لايعني بالضرورة انتصار وتبني لتعاليم الرسالة الجديدة من قبل من استسلم وخضع حتى ولو اشهر اسلامه لانه خضوع لسلطة الكيان الجديد او مجرد دخول فيه كرعايا بدون تبني واقتناع بالعقيدة الجديدة أو تظاهر ونفاق للتكيف مع واقع الحال وهذا ما تبين بعد وفاة الرسول وارتداد قسم هائل من القبائل ورفضهم القبول بسلطة الدولة التى مات مؤسسها.

عندما كان ابو سفيان وهو من صناديد قريش ذاهبا برفقة العباس عم النبي لاشهار اسلامه قال لرفيقه :لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً اليوم !!!وعندما دخل الى المسجد محدثا نفسه كيف غلبني محمد ؟؟ اخبر الوحي الرسول بما دار في خلد أبي سفيان.. فقربه الرسول قائلا له : غلبتك بعون الله وارادته حتى يخفف من حدة احساسه بالهزيمه(1) !!!

 

الموروث القبلي

ما سبق الاشارة اليه يبين ان الموروث القبلي مازال قويا ومتمكنا حتى عند ابي سفيان واقرانه من زعماء قريش الذين انصاعوا للاسلام المنتصر ودخلوا دولته اكثر بكثيرمن ان يكونوا امنوا برسالته وعقيدته وهذا حال الجموع الكبيرة من القبائل التي خضعت للدولة الوليدة وفي احسن النوايا كانوا حديثي عهد في الاسلام والموروث القبلي مازال هو الاقوى حضورا لديهم.

ان هذه القوى القبلية وزعماءها التي انصاعت للكيان السياسي بحكم الهزيمة العسكرية والتي اصبحت في احشاء وبطن هذا الكيان هي التي ستقود الثورة المضادة على المشروع الاسلامي الجديد ومن داخله وباسمه، وخصوصا بعد وفاة الرسول والخلفاء الراشدين.. و الخلافة الراشدة لن تكون سوى مرحلة انتقالية للتهيئة والتحضير من قبل تلك القوى للانقضاض والسيطره على الدولة الاسلاميه الوليدة لحساب القبيلة والعائلة والغنيمة مرة اخرى.

 

بعد وفاة الرسول اخذ الموروث القبلي العصبوي والعائلي يطل برأسه مباشرة وقد ظهر جليا في سقيفة بني ساعدة خلال الحوار بين ثلاثة من قيادات المهاجرين والانصار الذين ارادوا الخلافة لهم.. لانهم ناصروا الرسول وهم اهل المدينه الاصليين وكان رد المهاجرين بانهم هم (( قوم محمد )) قبيلة قريش وانهم الاولى والأحق !!هل هذا هو منطق الاسلام وقيمه..؟؟  ( لافضل لعربي على اعجمي الا بالتقوى ) لقد عادوا جميعا الى مساطرهم القبلية بالشعور او باللاشعور ووصل الامر الى التهديد وامتشاق السلاح !! ؟؟ لماذا في السقيفة ؟ و اين المسجد حيث كان الرسول يناقش قضايا المسلمين ؟؟ اين بقية المهاجرين الافذاذ والرواد ؟؟ والرسول لم يدفن بعد!! والمعروف ان سيدنا عمر راجع نفسه واكتشف الخطأ عندما وصف ما حصل بانه فلته اعاذنا منها الله!!!هل يكفي اسلاميا ان تكون من قوم الرسول حتى تستحق الجدارة بالخلافة ؟؟ او من آل البيت ؟؟ او من السابقين الاولين(2)

اليس هو شأن خطير وامر مصيري يستحق ان يجتمع من اجله كل المسلمين في مسجد الرسول الكريم وحل الامر وفق توجيه الرب الكريم ( وامرهم شورى بينهم ) ؟؟؟!!! هذا لم يحصل وبدأت بذور الشقاق برفض تيار من المهاجرين هذه البيعة لعدم شرعيتها وعدم اكتمال نصابها ولذلك قال الامام علي الذي اعتبر ومعه الكثير ان ماحصل غير شرعي.. انتم كانت حجتكم انكم من قوم محمد وقبيلته وانا حجتي اقوى فانا من اهل بيته(3)

.. وبذروا البذور للشقاق وكانت الارض صالحة ثم انتشت وربت واينعت مع مرور الايام واثمرت صراعا وحروبا وقتلا ودمارا واحقادا وطوائفا تكفر بعضها مازلنا ندفع ثمنها حتى الان كما سنبين(2)

 

ان المستقبل ليس هو الا الماضي نفسه مع بعض التعديل الذي يسمح به الواقع ومعطياته وموازين القوة بين اطراف الصراع ويستحيل ان تتمكن قوى المستقبل الجديد ان تصفي الماضي وقواه ومفاهيمه وآلياته ومواريثه دفعة واحدة او في عمر قصير بل هو عملية تدافع وصراع وجدل مستمر وتاريخي بين الماضي وقواه والمستقبل الجديد وقواه

بانتصار قوى الدعوة اذعنت قوى الماضي القبلية ولكنها لم تستسلم تماما بل على العكس قررت الانتقال بالصراع الى صعيد اخر وهو الاستيلاء على هذا الملك العظيم الذي سالت شهوة ابي سفيان له وهو في طريقه الى قائد هذا الملك لاشهار اسلامه او في الحقيقة للادعاء بذلك ومجريات الامور والصراع فيما بعد اثبتت ذلك

لقد عزمت القوى القبلية على الانتقام لهزيمتها من داخل الكيان الجديد والغض مستغلة دخول تجمعات قبلية ضخمة حديثة عهد بالاسلام مازال موروثها القبلي هو الاقوى والاكثر ولاء له او لم تدخل الاسلام بالاصل بل اذعنت وانحنت واعلنت طاعتها للدولة الجديدة وليس للدعوة الجديدة لكي تتمكن بثورتها المضادة من الاستيلاء على الملك العظيم وحتى على الاسلام نفسه وباسم الاسلام لحساب مصالحها العائلية والقبلية،هذا الملك الذي سيصبح اكبر امبراطورية في العالم وبذلك يكون الانتصار النهائي والحاسم لها...لانها تكون قد ارتقت من سلطة قبلية محدودة في مكة الى سلطة امبراطورية عظمى.. وهذا مالم يكن يخطرفي بالهم لا في الحلم ولا في الخيال

 

وهكذا كان.......

كان عهدا ابي بكر وعمر عهدا مستقرا ومتضامنا...( بالرغم مماشابه من خلاف بعد صراع السقيفة وتحفظ آل البيت وانصارهم او رفضهم لما حصل وما ترك في النفوس ماترك).. فرضته تحديات حروب الردة ومخاطرها على الكيان الجديد الوليد بعد غياب مؤسسه الرسول الكريم ثم اعباء الفتوحات شمالا شرقا وغربا والتي حقق فيها المسلمون انتصارات باهرة انتهت بسقوط اكبر امبراطوريتين في المنطقة ونشوء اول امبراطورية للعرب في التاريخ

ولا يمكننا هنا ان نغفل الطريقة التي تم بها انتقال الخلافة من ابي بكر الى عمر حيث وصى الاول بها للاخيراي عمر وهذا يخالف سنة الرسول بعدم التوصية لاحد ويخالف منهج الشورى الذي اقره محكم التنزيل الكريم مما اضاف مشكلة جديدة الى مشكلة السقيفة لدى الجناح الاخر.. جناح آل البيت وانصاره

وبمجيء عهد عثمان جاءت الفرصة التاريخية لقوى الثورة المضادة التي كانت تراقب وتترقب وتتهيأ وترص الصفوف وتهيج النفوس وتزرع التناقضات في صفوف قوى الثورة وروادها الاوائل، ببث عوامل الفرقة في داخلها لاضعافها والانقضاض بالوقت المناسب مع العلم ان ميزان القوى بدأ يميل لصالحها بعد الفتوحات وتسنمها مواقع السلطة العسكرية والمدنية في الاقاليم والولايات المفتوحة، فضلا عن الحضور والمشاركة والانخراط لقوى قبلية حديثة عهد بالاسلام في هذه الفتوحات وشهيتها مفتوحة للسلطة والغنائم، التي لم يكونوا يحلمون بها في يوم من الايام.

سياسة عثمان في أغلبها وبغض النظر عن النوايا كانت في المحصلة لمصلحة قوى القبيلة والغنيمة، أي قوى الثورة المضادة وتحديدا بني امية، الذين ينتمي اليهم عثمان حيث اخذ يقربهم اليه وجعلهم مستشاريه وعينهم في الولايات والاقاليم وابعد الصحابة السابقين واقطعهم الاراضي والاموال، مما ادى الى تنامي نفوذهم وثرواتهم بطريقة مرعبة لامجال للتفصيل فيها الان ويمكن العودة الى المؤرخين الكبار في ذلك كالطبري وابن كثير لمن يريد، مما ادى الى تنامي المعارضة لسياساته المنحازة لاهله وعصبيته والمخالفة لسنة الرسول والشيخين من بعده ابي بكر وعمر، ورغم كل النداءات والضغوط ومن الصحابة انفسهم وحتى من عائشة ام المؤمنين لردعه عن هذه السياسة ولكن بدون طائل، فانتهى الامر الى الثورة عليه من الامصار ومحاصرته واستشهاده كما نعرف جميعا.

مقتل عثمان وقميص عثمان كانت هي لحظة الانقضاض لقوى الثورة المضادة بعد تمكنهم من مقاليد السلطة والمال في اغلب ارجاء دولة الخلافة وتحديدا في دمشق قلعة الثورة المضادة بقيادة معاوية احد ابناء بني امية الذي نفى ابي ذر الى الصحراء بموافقة عثمان

 

لم يكن رفع شعار الثأر لعثمان والتشكيك بشرعية البيعة لعلي بن ابي طالب سوى ذريعة وفرصة للانقضاض على السلطة والثأر لهزيمتهم التاريخية امام الدعوة الاسلامية الجديدة وبتعبير ادق للثأر من بني هاشم الذين جاء منهم الرسول عليه السلام، ان بني امية وعلى راسهم ابو سفيان لم ينظروا للصراع مع الرسول عليه السلام الا انه امتداد للصراع القديم والتاريخي مع بني هاشم وان انتصار الرسول في رأيهم ليس الا انتصارا لبني هاشم على بني اميه !!! وهاهي الفرصة حانت للثأر من بني هاشم ليس انصافا لعثمان، بل ردا للاعتبار وانتصارا للثورة المضادة وعودة الامر مرة اخرى الى بني امية و الى ماقبل الاسلام وتحت راية الاسلام الشكلي الفلكلوري ظاهرا والقبلي العصبوي الاستبدادي مضمونا..

ونشب الصراع الذي يبدوا في ظاهره انه على السلطة وحسب الا انه في جوهره كان صراعا قبليا او عائليا بين بني امية وبني هاشم حيث يلحظ ان حلفاء الطرفين من القبائل في هذا الصراع هم انفسهم كانوا حلفائهم قبل الاسلام بالاضافه الى اصطفافات جديدة فرضتها مصالح متغيرة بعد قيام الدولة، وبدون الدخول في تفاصيل مجريات الصراع وتطوراته فان الذي حسم الامر اغتيال الامام علي وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة لصالح معاوية حقنا للدماء وبناء على رغبة اغلب جماعة المسلمين.. وفي هذه اللحظة التاريخية تشكل وتبلور حزبا الامه الكبار او طائفتاها.. حزب اهل الجماعة والذي سيصبح اسمه فيما بعد مع بعض التطورات المعتقدية والفقهية ( اهل السنه والجماعة )... والذين رفضوا تنازل الحسن سيصبح اسمهم مع بعض التطورات المعتقدية والفقهية ( الروافض او الشيعة )، مع العلم ان هذا التنازل قد تم بناء على اتفاق بان تعود الخلافة الى الحسن عند وفاة معاوية !!

 

انتقال السلطة

ان انتقال السلطة الى معاوية وبني امية يعني عمليا انتقالها من اطار الخلافة الشوري الراشدي أي الاسلامي الى الاطار القبلي الوراثي الجاهلي كما كان قبل مجيء الاسلام، تجلى ذلك بتحويل الخلافة الى ملك عضوض بكل تقاليده الامبراطوريه الموروثة عن بلاط كسرى والروم واقرار مبدأ التوريث في داخل العائلة الحاكمةخلافا لاصل الشورى ولما استنه الخلفاء الراشدين، وقد لاقى ذلك مقاومة عنيفة من قطاع كبير من المسلمين تم سحقها بالقوة والبطش كان منها قتل الحسين حفيد الرسول وقصف الكعبة بالمنجنيق ومجزرة الحرة وصلب عبد الله بن الزبير بعد قتله مما احدث ازمة اخلاقية وضميرية وايمانية وسياسية عميقة ما زالت اثارها ظاهرة للعيان حتى الان(3).

 

وبالتالي لايمكننا اعتبار ماجرى هومجرد انتصار شخصية على اخرى او جيش على اخر او مجرد انتقال للحكم من عائلة حاكمة الى اخرى او حتى مجرد انقلاب سياسي من حكم يقوم على الشورى والبيعة بالاختيار الى حكم استبدادي قهري بل هو في احد اهم دلالاته خروج على سنةالرسول في عدم التوريث وخروج على منهج الخلفاء في الشورى والبيعة الاختيارية وبمعنى ادق هو خروج على تعاليم الدين في الامر باتباع الشورى والعدل في أي امر من امور المسلمين والارتكاس او الردة الى الموروث والعصبية القبلية المنتنه كما وصفها الرسول عليه السلام.. أي ان هذا التحول في جوهره انتصار للثورة المضادة وعودة بالتاريخ الى الوراء الى الجاهلية القبلية مرة اخرى.. وتجيير معظم المكاسب التى حققتها الفتوحات الاسلامية لصالح امبراطورية العائلة والقبيلة.. أي ان الموروث والمشروع القبلي المضاد تمكن من اختراق المشروع الاسلامي والانقلاب عليه وتوظيف اغلب مكتسباته لصالحه هو لدى نجاحه بالسيطرة على السلطة والانقلاب على الخلافة والشورى والعدل وهو بالمحصلة انقلاب على جوهر الاسلام والرساله الاسلامية باكملها وان كان بلبوس اسلامي. ومنذ ذلك التاريخ ستعمل هذه السلطة الامبراطورية القبلية على اعادة صياغة فهم للاسلام وتشييد فقه وتفسير يناسب تماما توجهاتها ومصالحها الامبراطورية القبلية الطغيانية الاقصائية الظالمة عبر توظيفها لفريق هائل من الفقهاء والمفسرين والمحدثين لتحقيق ذلك !!! ومن الناحية التاريخية كان هذا التحول انتصار للقبيلة والغنيمة على العقيدة والرسالة، وبدء تاريخ جديد تقوم به القوى القبلية والعائلية بتوظيف العقيدة واستغلالها لصالح سلطاتها ومصالحها وغنائمها الامبراطورية، مما يعني اعادة انتاج نمط وفهم وتفسير مزيف ومشوه للاسلام يناقض جوهره ومبادئه ويتسق ويبررويعبرعن مصالح تلك القوى، أي تشغيل الاسلام في خدمتهم وليس العكس، وقد انعكس ذلك على كل شيء في حياة المسلمين دينا وفكرا واجتماعا وثقافة وسياسة بالطبع

 

انقلاب قبلي

هذا الانقلاب القبلي ذي التوجه الامبراطوري، كان صدمة عقائدية وسياسية واخلاقية لاغلب المسلمين، وعلى راسهم ما تبقى من اغلب الصحابة والذين أصبحوا اقلية بعد الفتوحات الواسعة، وحداثة الاسلام عند اغلب القبائل التى دخلت في الدين الجديد، وكان من الصعب على الصحابة مقاومة هذه القوى القبلية المرتبطة مصالحها به بعد هطول الثروات الطائلة من جراء الغزوات والفتح، وخصوصا اذا عرفنا ان هذا الانقلاب لم يكتف ببعده السياسي بل وظف وسخر امكانات وطاقات كبيرة دينية وفقهية ومحدثة وثقافية وتاريخية لتسويغه وتبريره على الوجه الذي نستطيع ان نقول انهم قد نجحوا في صياغة دين قبلي امبراطوري مغاير للدين الذي جاء في الكتاب والذي بشر به رسول الله عليه السلام.

- كان الانقلاب على الشورى صارخا وصادما ولاقى الكثير من المقاومة والحروب

- كان الانقلاب على حرية البيعة بفرض مبدأ التوريث ايضا صارخا

- كان الانقلاب القبلي واضحا باحتكار السلطة لبني امية

- كان الانقلاب على العدل واضحا بتراكم الثروات الطائلة على اساس عائلي وقبلي وسلطوي الخ

أي اننا نستطيع القول انه منذ ذلك التاريخ تم تدشين امبراطوريات العائلات الحاكمة والتى مازالت مستمرة الى الان

ولا تحمل من الاسلام الا اسمه او رسمه.. امبراطورية بني امية ثم بني عباس ثم بني بويه ثم الفاطميين الشيعة ثم المماليك........الى بني عثمان

واستمرت السلسلة حتى بعد سقوط بني عثمان ونشوء دويلات ما بعد الاستقلال

اما كيف تم تزييف الدين والحديث والفقه والفكر والثقافة لتسويغ هذه الامبراطوريات وطواغيتها سيكون في الفقرة القادمة  من هذا الحديث ؟؟؟

 

تزييف او تشويه الاسلام

لما كان هذا الانقلاب فجا صارخا ومناقضا لجوهر تعاليم الرسالة الجديدة فكان لابد من المباشرة بعملية اعادة تأويل وتفسير للاسلام على الوجه الذي يبرر ويسوغ هذا التحول القبلي الاستبدادي الامبراطوري وقد تم عبر عدة اليات دينية وثقافية وفقهية

اولا: نشر فلسفة الجبروالغاء حرية الانسان

نشر فلسفة وثقافة الجبر والغاء مبدأ حرية الانسان ومسؤوليته عن اعماله وتصويرماجرى من سطوة لبني امية واستيلائهم على الخلافه بالقوة وتأبيدها بالوراثة ما هو الا قضاء وقدر من الله سبحانه وتعالى ولايجوز اطلاقا رفض وانكار ماقدره الله وما علينا الا الانصياع لارادته وحكمته وكانت الفلسفة الاشعرية والتي لاقت رواجا كبيرا تمثل ذروة هذه المحاولات في تكريس ثقافة الجبر في العصر العباسي والذي كان اكثر طاغوتية من الامويين انفسهم لانهم اعتبروا الخليفة هو ممثل الله على الارض !! وقد لاقت هذه الفلسفة الكثير من المقاومة من العديد مما تبقى من الصحابة والتابعين مثل مدرسة الحسن البصري والمعتزلة فيما بعد، الا ان السلطة وعلماءها وفقهاءها نجحوا في تصفية انصار ومدرسة الحرية الانسانية تماما في نهايات العصر العباسي بدءا من عصر المتوكل وكان حجة الاسلام الغزالي اكبر ممثل لفلسفة الجبر الاشعرية وانتهى الى التصوف واتهام الفلسفة والمنطق بالزندقة

وهكذا اطبقت ثقافة الجبر على حياتنا العقلية والفكرية منذ ذلك الحين حتى الان وما زال خطباء الجمعة يهاجمون انصار القدرية أي الحرية من على المنابر باعتبارهم اهل بدعة وضلال

 

ثانيا : محاربة العقل لصالح النقل(4)

ولم يكتفوا بالتأويل الجبري للقرآن بل عمدوا الى استبعاد القرآن والتعتيم على تعاليمه الواضحة في الحرية والشورى والعدل لمقاومة مدرسة الحرية التى تعتمد العقل والعقلانية والرأي الحر عن طريق تكريس منهج النقل وفتحوا الباب واسعا لتدوين ووضع الاحاديث عن الرسول عليه السلام بعدما كان النهي صارما عن كتابة الحديث من الرسول نفسه ومن بعده الخلفاء الراشدين الى الحد الذي اصبح الغرض منها مكشوفاً، فقد تشكلت جماعة من المحدثين ( الوضاعين ) وانتهى الامر الى حد ان يصبح الحديث بديلا للقرآن على قاعدة التفسير للقرآن بالاثر أي بالنقل لان الحديث مبين وشارح ومفصل لعموم القرآن لذا يجب ترجيح الحديث على القرآن عند التعارض ( ارجع الغزالي في فضائح الباطنية )، ونستطيع ان ندرك حجم التزييف عندما نعلم ان عدد الاحاديث الموضوعة بلغ الف الف (مليون ) حديث، كان ابن حنبل يحفظهم بالكامل ولما قام البخاري في غربلتهم لم يتبقى سوى مايقارب ستة الاف حديث !!!!؟؟؟؟  ( 3) ويمكن الان بالمزيد من التحقيق والبحث والتوثيق غربلة المزيد والمزيد.. ولنا الان ان نتصور حجم التزييف عندما تصبح الاحاديث بديلا عن القران او اكثر رجحانا كدليل في معرفة حكم الدين !!؟؟ وحتى الحديث الصحيح بعد الغربلة فهو صحيح سندا وليس متنا وهو احاد وليس متواترا أي انه ظني وليس قطعي الورود ومن الامثلة على ذلك تلخيص الاسلام في الاركان الخمسة وهي شعائر خمسة اعتمادا على حديث من الاحاد بينما القرآن في فاتحته يلخص الاسلام في الصراط المستقيم الذي لايتضمن أي شعيرة على الاطلاق كما ورد في سورة الانعام الاية 150- 153 وهي عبارة عن عشرة مبادىء كبرى ( وصايا) تلخص التوحيد وحقوق الانسان في حرمته وكرامته والعدل والامانه وحرمة الفواحش الخ.. حتى كلمة اركان لم ترد على الاطلاق في القرآن والعبادة في جوهرها القرآني ليست هي الشعائر بل هي اتباع الصراط المستقيم والشعائر اسمها شعائر او مناسك ولم يشر اليها القرآن الى انها عبادة ابدا ؟؟ ( هذا صراطي مستقيما فاتبعوه...... ) العبادة فعل اتباع لصراط الله وشعائرها هي الصلاة والصوم والزكاة والحج... فقاموا بالتعتيم والتظليم على الصراط لانه المضمون الجوهري للاسلام في الحرية والعدل والمساواة ولانه يكشف ويعري استبدادهم.. لصالح التضخيم والابراز للشعائر باعتبارها هي جوهر الاسلام ؟؟ أي ضيعوا الجوهر لحساب الشكل والشعيرة وحسب،وهو واقع حالنا الان

 

ثالثا: الكهنوت الفقهي او سطوة الفقهاء

باسقاط الشورى وفرض الاستبداد بعد عصر الخلفاء الراشدين  عبر ثقافة الجبر تم الغاء حرية الانسان، وبفتح باب تدوين الحديث وتضخيمه تم تهميش القرآن وبتكريس منهج النقل تم الغاء العقل ولكي تكتمل الحلقة جاؤوا بالقياس لكي يسيطر علماء السلطان على المنطقة المباحة من اشتغال عقل الانسان ( انتم اعلم بشؤون دنياكم ) لانه اصوليا الاصل في الاشياء الاباحة الا ماهو محرم دينيا بنص قطعي الورود والدلالة، والقياس الية لجعل كل ماهو دنيوي يمارس فيه عقل الانسان دوره وخلافته ضمن نطاق الدين والوصاية الدينية  أي تم اغلاق المباح نهائيا لصالح الفقهاء وفقهاء السلطان على وجه التحديد. لان الفقهاء هم اهل الدين والقرآن وهم القادرون على استخدام القياس لتوليد الحكم الديني المناسب لما هو دنيوي، واول من ابتدع القياس الامام الشافعي من فرضية وهمية ان الكتاب أي القرآن والسنة يحتويان كل الحلول الالهية لمشاكل الانسان ولما كانا محدودين ومشاكل الانسان غير محدودة فلا بد من القياس لتوليد الحلول الجديدة للمشاكل المتجددة وهناك الكثير من الاصوليين( ابن حزم وجعفر الصادق وغيرهم ) رفضوا هذا الاجتهاد الا ان السلاطين وفقهاءهم تبنوه واشتغلوا عليه وعم وساد الى درجة اصبح وكأنه جزءا من الدين نفسه. وهكذا اصبح الدين والدنيا بكل ما فيها من سياسة واقتصاد واجتماع وثقافة وفن تحت هيمنة كهنوت الفقهاء ومن ورائهم او من فوقهم السلطان، وهكذا اصبح الانسان المسلم بدون فعالية عقلية تماما الا للذاكرة والحفظ بدون تدبر وعقل لان كل شأن من شؤونه يجب ان يعود الى الفقيه او الشيخ او رجل الدين،و اصبحت الدنيا ديناً والسياسة ديناً والاقتصاد ديناً والموسيقا ديناً والكل قطيع للسلطان او للفقيه.

 

رابعا: تضخيم الشعائر وتغييب الصراط

(ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )...الصلاة من الشعائر المكتوبة.. والنهي عن الفحشاء والمنكر من واجبات المسلم الجوهرية وهي من الصراط المستقيم.. الصلاة شعيرة لازمه للصراط وهو الهدف والجوهر، ماحصل جعلوا الصلاة وكل الشعائر الاخرى هي الاركان واصبحت هي الهدف بذاتها وتم استبعاد الصراط المستقيم..(صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) الذي يفضي بالمسلم الى جنة النعيم، يحكى ان الامام ابن حنبل كتب الاف الصفحات عن الوضوء والصلاة ولم يكتب صفحة واحدة عن العدل في الاسلام مثلا. !!!

 

خامسا:تأبيد السلطان والتأليه والتكفير

لقد وصف الأمويون سلطتهم المطلقة ( الملك العضوض ) بأنها قضاء الله وقدره وإرادته وماعلى المسلمين إلا الخضوع والتسليم لأن التسليم لسلطتهم العضوض هي تسليم وخضوع لإرادة الله وقدره وهي جزء من تمام إسلامهم. وكان لهم ذلك وتولى الفقهاء بناء الصرح الفقهي والثقافي لذلك بحيث أصبحت السلطة المطلقة وطاعة ولي الأمر بشكل مطلق جزءاً من الدين نفسه ( تديين الاستبداد ).أما العباسيون زادوا على ذلك ( وزادوا الطين بله ) بأن جعلوا الخليفة نائب الله على الأرض ووكيله وطاعته أيضاً طاعة لله تعالى نفسه، وقام الفقهاء بتحريم أي خروج على الخليفة ( نائب الله) )

وكان مصير الخارجين القتل والتنكيل وقبل ذلك التكفير كمقدمة لتشريع الذبح والقتل وبالفعل فقد بلغ العباسيون حد التأليه لخلفائهم وبدعم وإسناد فقهي من علماء أو فقهاء السلطان. وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى سقوط الخلافة العثمانية في أوائل القرن العشرين

ومن الغريب أنه حتى حركات المعارضة والتي كانت في غالبها شيعية المذهب.. قد تقمصت نفس المنظومة الاستبدادية ولكن من زاوية أخرى تحت ذرائع دينية وفقهية أخرى - طبعا الإسلام بريء منها في الحالتين -.. ففي المنظومة السلفية السنية الأموية والعباسية كان الخليفة صاحب سلطة مطلقه ونائب لله في الأرض ومسدداً من اللهً.. وكذلك كان الأمر في المنظومة السلفية الشيعية حيث بلغ الإمام لديهم درجة المعصومية ومعرفة الغيب وطاعته من طاعة الله. وهنا ذروة المأساة في تاريخنا حيث السلطة ( الموالاة ) والمعارضة ينهلون من نفس المنظومة الاستبدادية ( البطركية - القروسطية ) بالتعبير الغربي ولذلك لف الاستبداد الأسود حياة مجتمعاتنا سلطة ومعارضة واخترقها عموديا ًوأفقيا ً.. سياسيا ً.. و ثقافيا ً.. واجتماعيا ً.

هذه المنظومة السياسية لجناحي الصراع ( السلطة السنية والمعارضة الشيعية ) استدعت موضوعيا ً منظومتها الثقافية ( الفقهية ) من جهة وبنيتها الاجتماعية ( البطر كية ) من جهة ثانية (5)


أكتفي الآن بإيراد بعض الأمثلة ( يجب على المسلم طاعة الإمام حتى لو كان فاجرا ً أو فاسقا)(الإمامة بالغلبة – بالقوة ) ( سلطان غشوم ولا فتنة تدوم)(4) ( إن حدوث الفسق من الإمام بعد عقد البيعة له لا يوجب خلعه ) ( من قتل السلطان فهو سلطان )(5)

كما تم وضع العشرات من الأحاديث المنسوبه للرسول التي تبرر وتشرعن الخضوع للسلطان سواء كان عادلا ام ظالما.. بارا او فاجرا

لقد اخترقت هذه المنظومة السياسية والثقافية المجتمعات العربية ( والإسلامية ) شاقوليا ً وأفقياً وعبر مئات السنين باعتبارها من قيم الدين ذاته وهنا مكمن الخطورة أي أصبح الاستبداد ديناً للعرب والمسلمين مما يعني أن التخلص من الاستبداد يحتاج إلى تجديد الدين ذاته أو ثورة في الموروث الديني. لقد أصبح الاستبداد على هذا الوجه جزءا ً من نسيج حياتنا وسلوكنا بل ممزوجاً بهويتنا العفوية اليومية بدءاً من الخليفة / السلطان / الحاكم / الرئيس حاليا ً إلى شرطي المرور ومأمور المخفر... ومن شيخ القبيلة نزولاً حتى سلطة الأب... وسلطة الابن الأكبر على إخوته.. ومن شيخ أو إمام الطائفة الدينية.. حتى أصغر أتباعه.. ومن زعيم الحزب السياسي حتى أصغر نصير في أدنى خلية حزبية. وعلى هذا الوجه أصبح الاستبداد ثقافة مجتمع متكاملة... وليست ثقافة سلطة سياسية.. أصبح مرضاً.. كل فرد في المجتمع إما مستبد بغيره أو مستبداً به حسب موقعه من هرم الاستبداد الاجتماعي ( رئيس، مرؤوس، مدير،موظف، أب، ابن، شيخ،مريد،رجل، امرأه........ إلخ )

لقد سقطت الكثير من أنظمة الاستبداد في تاريخنا ولكن لم يسقط الاستبداد ذاته كثقافة ونظام حياة، بل ابتلينا بأنظمة أشد هولا ً وقساوة في القمع والتنكيل مما قبلها ( يروح قيصر ويأتي قيصر ) لم يكن العباسيون بأفضل من الأمويين.. ولم يكن الفاطميون بأفضل من العباسيين.. وهكذا دواليك حتى بدايات القرن العشرين عندما دكت مدافع الحداثة الأوربية حصون وقلاع الاستبداد والتخلف العربي.

لقد تناوبت دورات الاستبداد على حياة مجتمعاتنا في صيرورة متصاعدة حتى حولتها إلى مجرد رعاع

 

الخلاصة :

الانسان هو قائد التطور وهو هدف هذا التطور في الوقت نفسه من اجل ان يعيش حياة تتفق وانسانيته في الحريه والكرامة والمساواة وهو ماجاء من أجله الاسلام ولن يتمكن هذا الانسان من قيادته للتطور الاجتماعي الا بشرطين الحرية اولا واطلاق طاقة العقل للابداع ثانيا

ان الرسالة الاسلامية وفرت للانسان العربي هذين الشرطين كما رأينا وحقق بهما انطلاقته الرائعة الا انه تعرض للارتكاس مرة اخرى نحو القبلية والاستبداد تم فيها السطو على كل المكاسب التي حققها الفتح الاسلامي،والانقلاب على مبادىء الاسلام وجوهره لصالح تشييد امبراطورية تقوم على الاستبداد الديني أي باسم الدين، وهذا الانقلاب تم عبرصيرورة طويلة من قهر الناس ونشر ثقافة الجبر والغاء مبدأ حرية الانسان واسسوا للنقل على حساب العقل و قاموا بتجويف او تفريغ الاسلام من جوهره الانساني الحر لصالح منظومة شعائرية كهنوتية حاكها رجال وفقهاء السلطان وافقر الناس وتمركزت الثروات وتقدس السلطان حتى اصبح كالإله وكل من يعارض او يقول لا اصبح كافرا او زنديقا ونصيبه الهلاك او الخراب او الصعلكة في القلاع البعيدة او الجبال فتكرست القبلية مرة اخرى واضيفت اليها العصبية الطائفية نتيجة التكفير والتصفية والاقصاء فزادت الامة انقساما على انقسام واستنزفتها الحروب الاهلية والطائفية والقبلية بدلا من التفاعل والاندماج وتجمد العقل وقتل الابداع خوفا من الاتهام بالبدعة والضلال واصبح الفكر نقلا وشرحا على شروح ودخلنا في دوامة الجمود والتكرار وانغمسنا في ظلمة ليل طويل من الانحطاط

نعم الاستبداد يعطل التطور ويجمده لانه يلغي الحرية وينفي العقل ويشوه الانسان والمجتمعات ويجعلها عاجزة عن بناء الحياة ويودي بها الى الانحطاط والانحدار ونحن الآن ورثة هذا الذي كان وندفع ثمنه غاليا من حياتنا وارواحنا ودمنا واطفالنا وكرامتنا في كل آن

 

--------------------------------

المراجع :

( 1)  عبد الجواد ياسين – السلطة في الاسلام  – طبعة ثانية – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ص 258

(2) المرجع نفسه

(3) المرجع نفسه

(4) ابو يعلى الفرا – الاحكام السلطانية- دار الكتب العلمية – بيروت – 1983- ص 20

(5) الباقلاني – ابو بكر محمد ابن الطيب-التمهيد – المكتبه الشرقية -1957-ص 168

 

علِّق