صورة eiad
نشرت في .February 14, 2015

لقد كان من أبرز المفاعيل النفسية و الاجتماعية التي أطلقتها الثورة السورية هو إعادة استحضار مسألة الهوية الوطنية السورية في الوعي بعد أن تعرضت  -على مدى عقودلمحاوﻻت طمس و إلغاء لمصلحة هويات أخرى أكثر شمولية تحمل بصمات شوفينية قومية أو فاشية دينية. لقد هدفت السياسات و اﻹيديولوجيات اﻹقصائية و القمعية ﻷصحاب هذه المشاريع إلى فرز المجتمع السوري إلى مجموعات بشرية متنافسة تسودها مشاعر التوجس و عدم الثقة و المظلومية مما أدى لنشوء ردات فعل  تتجلى في وقتنا الحالي بحديث البعض عن استحالة التعايش بين مختلف مكونات الشعب و الحاجة لكانتونات عرقية أو طائفية تحمي الهويات اﻷضيق على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

ظهرت البذور الفكرية اﻷولى للهوية الوطنية السورية في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل على السياسات العنصرية الاستعلائية لجماعة الاتحاد و الترقي التركية التي عملت على إقصاء و اضطهاد العناصر غير التركية ضمن السلطنة العثمانية، و خاصة في بلاد الشام التي شكلت الخزان البشري لكل المشاريع التنويرية اﻹصلاحية التي كانت قد بدأت تعم المنطقة وعلى جميع المستويات الثقافية والتعليمية والفنية والسياسية.
تجلت هذه الروح الوطنية الوليدة بالمشاركة الواسعة و الفعالة لكافة مكونات المجتمع السوري في عملية التحرر من الحكم العثماني و البدء في وضع اللبنات اﻷساسية لبناء الدولة الوطنية الحديثة على أسس عصرية تتجاوز التنظيمات العثمانية التي كان قد عفى عنها الزمن، و كان ظهور سوريا كمملكة دستورية كأول خطوة على هذا الطريق. استمرت هذه الروح الوطنية بالنمو و التبلور خلال مرحلة الكفاح الوطني للتحرر من الاستعمار الفرنسي و بلغت ذروتها إبان الثورة السورية الكبرى و ما تلاها من مفاوضات أدت إلى جلاء المستعمر الفرنسي و قيام الدولة الوطنية و كتابة أول دستور عصري مازال يتغنى به السوريون و يعتبر متقدما" بكل المقاييس على الدساتير البعثية و اﻷسدية التي تلته.
تتلخص التحديات التي واجهتها فكرة الهوية الوطنية السورية الجامعة بصيغتها الليبرالية المحافظة التي سادت خلال العهد الديمقراطي القصير بثلاثة مصادر: الفكر الشمولي الديني، الفكر الشيوعي اﻷممي، و الفكر القومي البعثي. تقوم المبادئ العامة للمصدرين اﻷول و الثاني على فكرة طمس الهوية الوطنية لصالح فكرة شمولية ذات صبغة أممية تقوم أساسا" على عقيدة الصراع الديني أو الحضاري أو الطبقي بين البشر، بينما تقوم مبادئ الفكر البعثي على فكرة إلغاء الهوية الوطنية لمصلحة مشروع قومي عربي خيالي يجمع بين شعوب شديدة الاختلاف و تفتقر للشروط اﻷساسية لنشوء اﻷمم و أهمها العامل النفسي. لم يتمكن أي من المصدرين اﻷولين من الوصول إلى الحكم بينما تكمن المصدر الثالث من الوصول إليه عبر سلسلة من المناورات والمؤامرات والانقلابات العسكرية التي أدت إلى نتائج كارثية على جميع اﻷصعدة العسكرية والاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية. كانت النكسة اﻷولى التي تعرضت لها الهوية الوطنية السورية عندما قام الضباط البعثيون بتقديم سوريا لجمال عبد الناصر على طبق من ذهب سنة 1958 ولكنه أساء التصرف و أدت سياساته الاستعلائية و اﻷمنية إلى الانفصال. أما النكسة الثانية فكانت في الانقلاب البعثي عام 1962 الذي بدأت معه فعليا" عملية تدمير سوريا الوطن و المجتمع و استمرت هذه العملية بشكل تصاعدي رهيب مع الانقلاب اﻷسدي عام 1970 حيث تم و للمرة اﻷولى في تاريخ سوريا الحديث استعمال الطائفية كسلاح لتمزيق المجتمع السوري و ضرب الهوية الوطنية السوري في صميمها. بلغت هذه العملية التدميرية مستوى" غير مسبوق من الهمجية مع سياسات اﻷسد الابن في محاوﻻته المريرة لوأد الثورة السورية المباركة التي جاءت شعاراتها الوطنية الجامعة كأبلغ رد على مشاريع العصابة اﻷسدية الطائفية مما يفسر اﻹصرار الهوسي للنظام اﻷسدي على محاولة جر الثوار السوريين إلى مستنقع الطائفية الذي يتقن السباحة فيه بسبب طبيعته الطائفية و خبراته المتراكمة عبر التدخل في لبنان والعراق.  لذلك فإنه، وعند فشله في إيقاع الثورة في هذا الفخ، عمد إلى استعمال لعبته القديمة الجديدة في خلق بيئة ملائمة تجذب اﻹرهاب العالمي و تجبر المجتمع الدولي على المقايضة و القبول به كشريك في مكافحة اﻹرهاب و بذلك ينتهز الفرصة للإجهاز على الثورة السورية التي تمر حالياً بوقت عصيب نتيجة تكالب اﻷعداء و تردد اﻷصدقاء و عجزهم إضافة إلى ضعف خطير في أداء اﻷجسام السياسية التي تمثل الثورة والمعارضة.
تمر سوريا اﻵن بأزمة مصيرية تواجه فيها مشاريع تقسيمية خبيثة تقودها إيران و عملاؤها المحليين و ليس للسوريين إﻻ التمسك بوحدتهم و هويتهم الوطنية و الدفاع عنهما أكثر من أي وقت مضى و ذلك باﻹصرار و المثابرة على الروح الوطنية الثورية التي تفجرت في آذار 2011، هذه الروح التي تشكل العاصم الحقيقي من أي شطط و خشبة الخلاص التي بذل السوريون على جنباتها أنهارا" من الدماء في سبيل انتزاع حريتهم و كرامتهم و مستقبل أجيالهم من براثن اﻷسرة اﻷسدية المتوحشة.

 

علِّق