اليسار التقدّمي الثوري... أم الامبريالية الرأسمالية..؟!

 

المظاهرات في فنزويلا لم تهدأ منذ أسبوع ضد الرئيس نيكولاس مادورو، بسبب تردّي الاوضاع الاقتصادية وتراجع الحريّات في البلاد، والقمع بالمقابل لم يتوقف هو الآخر ضد من كانوا وقوداً دائماً للثورة البوليفارية التشافيزية

 

إليكم القصة باختصار:

 تقع فنزويلا ذات الثلاثين مليوناً في قائمة أكبر 10 دول منتجة للنفط في العالم، وتهي تمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم، ويبلغ دخلها السنوي من عوائده قرابة 410 مليار دولار.

كانت حكومة فنزويلا برئاسة بابلو ميدينا موالية للولايات المتحدة وكانت من أهم موردي النفط لها، وعام 1998أطلق هوغو تشافيز  "الثورة البوليفارية" التي أعلنت مناصرتها للفقراء ووقفوفها في وجه الفساد المتمثل بالحكم القائم (الموالي للامبريالية الامريكية)، واستطاع تشافيز بالفعل الفوز بالانتخابات، وحكم فنزويلا بعد ذلك لمدة 14 سنة لم يُنهها إلا الموت، وقد تعاقب خلال على السلطة في ظل حكمه ثلاثة رؤساء امريكيين امبرياليبن هم (بيل كلينتون- جورج بوش الابن- باراك أوباما)
 

خلال حياته وقف تشافيز مع كل الانظمة التي يسمّيها (تقدمية وتحررية) من روسيا إلى كوريا الشمالية إلى إيران إلى سورية إلى كوبا.!!!، وأعلن عداءه للامبريالية المتمثلة في أمريكا والغرب، وحوّل ثروة البلاد الهائلة من النفط إلى وسيلة للسيطرة على الجماهير، فوقف الفنزويليون على أفران الخبز وعاشوا على الحصص الغذائية الحكومية، و بحجة مواجهة (الفساد والولاء للامبريالية) سحق تشافيز الطبقة الصناعية والتجارية، وقام بإعادة هيكلة الشركة الوطنية التي تشرف على انتاج النفط،  وعيّن ضباط الجيش والموالين له في مجلس إدارة الشركة بدلاً من الخبراء والمختصين، مما أدى إلى تراجع أداء الشركة وانتاجها، وانتشر الفساد والمحسوبيات، وأصبح التوظيف والعمل التجاري في يد طبقة المواليين والمقربين له، والذين تحولوا لطبقة من أصحاب الثروات ، فيما تراجع بالمقابل دخل الفرد الفنزويلي العادي خلال سنوات إلى ما دون ما كان يحصلّه أيام تبعية البلاد للـ (الامبريالية)، كما تخلّفت التكنولوجيا والصناعة، وتراجعت الحريات والحقوق العامة، وتم اغلاق كثير من وسائل الاعلام بدعوى معاداتها للثورة والشعب، وتحول البرلمان إلى ما يشبه مجلس المصفقين للرئيس، مع الحفاظ على معارضة كاريكاتورية لا تقدم ولا تؤخر، ومحاصرة أمام خطاب شعبوي كاسح يقوده تشافيز.

 

رغم كا ما سبق وقف الفنزويليون الفقراء مع تشافيز متأثرين بخطاب شعبوي مؤدلج اقنع فيه الناس أنه قائد ثوري ومتواضع ويدافع عنهم وعن مصالحهم، ولم يخذله هؤلاء فقد أنقذوه مرتين من محاولة اسقاطه من قبل طبقة رجال الأعمال والصناعيين والتجار الذين يريدون فتح الاقتصاد والتقرّب من الغرب وأمريكا، و أعلن الفقراء من الشعب استعدادهم للقتال خلف تشافيز حتى الموت ضد (الامبريالية الامريكية) وأدواتها.

 وفعلا استمر شافيز في الحكم دون انقطاع، ولم يمت إلا بعد أن رتب كل الامور (الديموقراطية) لأن يخلفه صديقه نيكولاس مادورو في الرئاسة، وهو الرئيس الذي يثور عليه الفنزويليون اليوم بعد أن اكتشفوا متأخرين خداع شعارات الثورة البوليفارية التشافيزية اليسارية، والتي لم تساهم سوى بإفقارهم ومحاصرتهم وتضييق حرياتهم.

 

رغم أن حكم فنزويلا ما قبل الثورة البوليفارية كان مقرباً سياسياً وتابعاً اقتصادياً للولايات المتحدة، إلا أنه يمكننا ببساطة انجاز هذه المقارنة، واستخلاص الدروس التالية:

1- مرة أخرى تثبت اليسارية والاشتراكية الثورية، أن وعودها وشعاراتها التي تدعو لمناصرة المستضعفين وتوزيع الثروة، توصل بالضرورة الى الحكم الشمولي والتفرد بالسلطة وقهر الشعوب وإفقارها.
2- مرة أخرى تدعم اليسارية والاشتراكية الثورية القتلة والمجرمين والديكتاتوريين حول العالم.
3- الشعبوية قاتلة للأمم، و الجماهير المسحوقة والفقراء غالباً ما يدعمون أصحاب الشعارات ومن يستغل لديهم عواطف الانتماء والهوية، عوضاً عن أصحاب المشاريع ووالمصالح الدائمة .
4- عملياً؛ الامبريالية والرأسمالية أفضل بما لا يقاس من اليسارية الاشتراكية، فهي منهجية برغماتية متحركة، قائمة على بناء المصالح الحقيقية والمستمرة، بعيدا عن صراع الايدلوجيات المتكلسة

5- على عكس اليسار والاشتراكية الثورية، تعتمد الأنظمة الرأسمالية مبادئ الحرية و الديموقراطية في تداول السلطة والقضاء الحر، وهو ما يؤمن البيئة الاستثمارية الآمنة والمناسبة لقيام استثمارات دائمة، ودفع عجلة الصناعة والمال والأعمال دون خشية من أي تدخل أو سيطرة سياسية تحت عناوين (تأميم، استيلاء...)

 

مثال أخير؛ على معايير الاستقلال الوطني وفق معايير اليسارية الشعبوية:

- كوريا الشمالية بلد حر ومستقل، وقادر على الدفاع عن نفسه، ويحافظ على هويته، ولا يستطيع أحد فرض املاءاته عليها، كما أنه يتمتع باكتفاء ذاتي، ويأكل مما يزرع ويليبس مما يصنع.

-  كوريا الجنوبية بلد تابع للامبريالية، بلد يمكن وصفه بالمحتل او غير المستقل بوجود قواعد عسكرية امريكية يعتمد عليه في حماية حدوده، كما أنه غير مكتفي ويستورد الكثير من منتجاته

- رغم ذلك كوريا الشمالية بلد يعاني من المجاعة والفقر، واقتصاده داخلي مغلق وخاسر، أما صادراته للعالم فهي اللاجئين والهاربين، وكذلك القنابل والصواريخ والأسلحة الكيماوية للديكتاتوريين ليقتلوا بها شعوبهم.

- كوريا الجنوبية بلد متطور من مصاف الدول العشرة الأكثر تقدماً، وشعبه مرتاح نسبياً ويعيش حالة نمو مستمر، ويبلغ ناتج كوريا الجنوبية المحلي السنوي 1.66 ترليون دولار، أما صادرات هذا البلد للعالم فهي التكنولوجيا والصناعات المتقدمة، والخبراء والعمالة المحترفة.

 

وعليه، وبالنظر إلى المثال أعلاه أعتقد أننا نستطيع  الآن ببساطة الاختيار بين:

 النظام اليساري الاشتراكي الثوري التقدمي الحر و الرأسمالية المصلحية النفعية الإمبريالية...!!

 

قد تبدو هذه المقاربات للبعض بسيطة وسطحية، ولا تدخل في عمق التجربة الإنسانية اليسارية الاشتراكية والثورية والتي مات في سبيلها الملايين، ولا تراعي ارهاصاتها ونجاحاته، وأنه من الظلم بمكان معالجة هذه التجربة البشرية الغنية بهكذا جمل وتوصيفات نمطية.

قد يكون ذلك صحيحاً من حيث المبدأ، لكنني بعد مخاض طويل مع الايدلوجيات، تعلّمت أن استخلاص العبر من النتائج يغني عن الدخول في كثير من التفاصيل.

التعليقات

من الظلم مقارنة تجربة اليسار بامريكا الجنوبية بغيرها،القارة عانت ما عانت من الانقلابات المدعومة اميركيا من سلفاتور اليندي وصولا لمحاولة الانقلاب على شافيز 2002 ، استسهسال الاتهامات ومناقشة التجارب بهذه الكريقة امر غريب

علِّق