عدد القراءات: 2358

النسخ .. وتطور الإسلام

 

هل يمكن أن يكون النسخ بالمفهوم الفقهي الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة مدخلاً لتطوير الإسلام، واستبدال أحكام باحكام كلما جدت الحاجة لفقه جديد وإجابات جديدة؟

إن المعنى الثوري للنسخ يبطل وهم ثبات الأحكام في الزمان والمكان، ويفرض على قارئ القرآن قبول تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وقبول التأويل المناسب للعصر ولو خالف تأويل السلف، ويوجب تطور الإسلام بما يناسب حاجة الناس في كل زمان ومكان.

وتشتد الحاجة للحديث عن تطور الإسلام ولو أوصلنا إلى فهم مختلف عن فهم السلف الصالح، فقد رأى الناس ما يعنيه تطبيق فقه السلف الصالح حين ينتزع من سياقه وزمانه ومكانه ويفرض على مجتمعات تختلف في كل شيء.

ومع أن هذا مصطلح تطور الإسلام ليس مألوفاً في الخطاب التقليدي الإسلامي، ويتعرض للأسف لهجوم مستمر من فريق من المتحمسين للفقه الإسلامي، ولكنني أعتقد أنه دقيق تماماً للحديث عن التحولات الجذرية التي يحتاجها المسلمون اليوم.

إننا بحاجة مؤكدة لتقديم إسلام مختلف لا يتطابق بالضرورة مع تجربة السلف الصالح التي كانت تجربة مناسبة في القرون الأولى ولكنها لا يمكن أبداً أن تكون مناسبة في عالم حضاري يختلف فيه كل شيء وقد تمكنت الإنسانية من إغناء مشوارها الحضاري بتجارب كثيرة من خبرات الأمم وتجاربها غيرت كل شيء.

فهل تحمل الأصول الإسلامية ما يكفي من وسائل التطور التشريعي بحيث تستجيب للعصر والزمان، بعد أن أثبتت التجارب الإسلامية المعاصرة استحالة تطبيق إسلام السلف في الدولة الحديثة، وهو ما رأيناه بوضوح في كل تجارب الحركات الإسلامية المتتالية بدءاً من طالبان إلى الحركة الاسلامية المسلحة في الجزائر الى المحاكم الاسلامية في الصومال الى تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، مروراً بعشرات المحاولات البائسة التي وئدت في مهدها وهي تنادي بتطبيق الشريعة وفق فهم السلف.

 

وهل الإسلام مستعد لهكذا تطور؟

لا أعرف في العالم ديناً أو فلسفة كان أكثر قدرة على التطور والمرونة من هذه الشريعة الاسلامية، فقد أطلق الرسول الكريم رسالته العظيمة لإصلاح الناس، وبدأ التشريع مترافقاً مع التجديد والتطوير، وخلال حياته التشريعية القصيرة التي لم تزد على 23 سنة فإنه تم نسخ 21 آية من القرآن الكريم، وتوقف العمل بما فيها مع أنها باقية في نص القرآن الكريم ويقرؤها المسلمون، وفيها حدود وحلال وحرام، ولكن الحاجة التي أملت نزول النص فيها تغيرت في تلك الفترة القصيرة، ودار الحكم مع علته وجوداً وعدما، وتم وقف العمل بهذه النصوص القرآنية الكريمة بحضرة الرسول الكريم وبأمره ومتابعته.

ومن المفيد ان نشير إلى بعض هذه التغييرات التشريعية الهامة التي تمت خلال حياة الرسول الكريم من خلال النسخ:

·       نسخ حكم حبس النساء الخاطئات في البيوت حتى يتوفاهن الموت

·       نسخ آية جواز الوصية للوارثين، والتحول إلى قاعدة: لا وصية لوارث

·       نسخ آية اعتداد المتوفى عنها زوجها من سنة الى 130 يوماً

·       نسخ آية: إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة.

·       نسخ الإذن بالإفطار لمن لا يرغب بالصيام وإعلان وجوب الصيام على كل قادر

·       نسخ الإشادة بالخمر والإذن بمنافعه إلى التحريم المطلق

وهذه كلها أحكام قرآنية نزل بها الوحي ولا يزال المسلم يرتلها في صلاته، وقد تم تطبيقها زمناً ثم حصل تطور جوهري في سلوك الأمة استدعى أن يتم تغيير الحكم لما هو مصلحة حقيقية للناس، وحيثما كانت المصلحة فثم وجه الله.

وما قلناه في القرآن الكريم ينطبق أيضاً على السنة النبوية فقد تم نسخ نحو 48 حكماً حكم به الرسول الكريم، ولم يكن الرسول ليتردد في القول برجوعه من رأي إلى رأي، وكان يقول: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني (رواه البخاري ومسلم)

وفي الحديث بيان مرونة هذه الشريعة وقدرتها على الاستجابة للأحداث وتطور الأحوال، فمن المعلوم أن الحلف من قبل النبي الكريم لا يكون إلا على ما هو يقين بلا ريب، ولكنه لا يتردد أبداً في ترك ما أقسم عليه إذا ظهر له في سواه وجه أكثر ملاءمة وعدالة.

ولا شك أن النسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي من حلال وحرام، ولا يكون في الخبر ولا في الفضائل ولا في الاعتقاد، فهي حقائق ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان.

 

والمسلمون متفقون بلا استثناء على نسخ الشرائع بعضها ببعض، فقد أشار القرآن الكريم إلى مواضع كثيرة نسخت فيها أحكام فرضت على الامم الأولى، ومنها قوله تعالى:

·       وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم (الانعام 146)

·       وجاء البيان القرآني واضحاً بأن هذا التحريم كان بسبب غيهم وتشددهم وليس حكماً سرمدياً في كل زمان ومكان.

وفي آية أخرى يشير القرآن الكريم إلى رسالة السيد المسيح بأنها جاءت لتغيير بعض الأحكام الشرعية المفروضة على بني إسرائيل:

·       ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.(آل عمران 105)

وفي آية أخرى:

·       وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. (الانعام 145)

وتكررت هذه النصوص في القرآن، ولا يوجد فقهياً أي اعتراض عليها، وقد بين القرآن الكريم النص الواضح بهذا الشأن بقوله:

·       لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً. (المائدة 48)

 

ويتحدث الفقهاء عادة عن الحكمة العظيمة التي اقتضت ان يتم تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وأن التطور الفقهي والتشريعي بما يناسب الناس مطلوب كلما تطورت المجتمعات، وأن رسالات الأنبياء ينسخ بعضها بعضاً، ولكل شرعة ومنهاج، ولكنهم لا يقبلون في الغالب الأمر نفسه في الشريعة الإسلامية بل يسود الاعتقاد بأن الأمة قد بلغت أخيراً سن الرشد في الرسالة الخاتمة ونزلت الشريعة تامة فلا تقبل أي تطوير أو تجديد، ويتعين العمل على ما مات عليه الرسول.

بل إن بعض الفقهاء قد اعترض على حصول النسخ في الإسلام ومنهم أبو مسلم الأصفهاني والمعتزلة، وقد اعتبروا أن القول بالنسخ يستلزم البداء، أي بدا لربكم، وهو يتناقض مع علمه القديم، والواقع أن هذا الاعتراض الذي يزداد اليوم بين الكتاب المعاصرين غير واقعي، فالنسخ أمور يبديها وليس أموراً يبتديها، وهو كشف لا انكشاف، وإظهار لا ظهور، وإعلام ولا علم، وإخبار لا خبر، وهو يعكس حقيقة التطور التشريعي في الإسلام في تلك الفترة التأسيسية.

وربما كان أوضح مثال على حيوية الشريعة وإصراها على التطور والتجدد هو ما نقرؤه في مسألة نسخ القبلة، فالقبلة أرسخ ثوابت الإسلام وهي المحور الذي يلتقي عليه المسلمون في كل مكان في الأرض، حتى سمي المسلمون أهل القبلة، وانتشر بين المذاهب الإسلامية جميعاً شعار: لا نكفر أحداً من أهل القبلة، ومع ذلك فإن هذاالأصل الراسخ تعرض للتغيير مرتين في حياة الرسول، حيث بدأ الرسول بالصلاة إلى الكعبة، ثم تحول إلى بيت المقدس ثلاثة عشر عاماً، ثم أمره الله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام واستقرت القبلة في مكة المكرمة.

إن هذا الموقف الشجاع الذي يكرس مصلحة الأمة والإنسان فوق كل اعتبار لم يمر بدون نقد شديد من كهنة أهل الكتاب الذين رأوا أي تغيير في شعائر الدين وحدوده مهما كان ضروريا للأمة عبثاً بالإيمان: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(البقرة 148)

وتتابعت ثلاثون آية في سورة البقرة تشرح حقيقة الروح المتطورة في الشريعة، التي تكرس الاهتمام بالمقاصد الكبرى للشريعة في كرامة الإنسان ومصالح الأمة العليا، بعد أن صار التوجه إلى قبلة أهل الكتاب محل امتهان وازدراء للمسلمين من قبل كهنة أهل الكتابالذين أعلنوا أنهم لا يرون في الإسلام إلا هرطقة حجازية، وبوصلة تائهة، وهكذا فقد حان الوقت لتظهر الرسالة الإسلامية في مكانها الطبيعي ديناً شاملاً عالمياً للناس له قبلته ونصه وأنبياؤه.

 

ومن الآيات التي نزلت لتوضيح الحاجة إلى التغيير كلما دعت مصلحة الأمة:

·       وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ (سورة النحل 101)

·       ما ننسخ من آية أن ننسها نأت بخير منها أو مثلها (سورة البقرة 106)

·       تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (سورة البقرة 140 )

·       ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات (سورة البقرة 148)

 

وكانت الآيات واضحة في تعليل تغيير القبلة بانه ضرورة اجتماعية لقطع ارتباط الرسالة الجديدة عن الكهنة المسكونين بالدين العتيق: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم.

وقد انكر أبو مسلم الأصفهاني والمعتزلة وعدد من الكاتبين المعاصرين ظاهرة النسخ، واعتبروا أنها تستلزم العبث في الشريعة، والقصور في الخالق، بحيث أنه بدا له الأمر ولم يكن بادياً من قبل وهو يستلزم النقص في الخالق وهو محال، والواقع أن النسخ أموريبديها لا أمور يبتديها، وهو كشف لا انكشاف، وإظهار لا ظهور، وإعلام لا علم، وإطلاع لا اطلاع، وإخبار لا خبر، وفي النهاية هو تغير في حال المخلوقين وليس تغيراً في حال الخالق.

وفي دلالة مباشرة فإن الحاجة التي طرأت لتغير حد الزنا على النساء من الحبس في البيوت إلى الجلد لم تكن أبداً بسبب تغير في الخالق وإنما بسبب تغير في واقع المجتمع وتوفر جهاز قضاء يمكن من خلاله نقل العقوبة من التصرف الأسري الذكوري إلى تصرف الدولة الحقوقي.

وفي مثال آخر فإن توزيع المال على الوارثين كان يتم وفق رغبة المورِّث (الوصية للوالدين والأقربين) وقد كان ذلك بسبب عدم وجود قانون للإرث فلما نزل قانون الإرث قال الرسول الكريم: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث.

وهكذا فإن النسخ واحد من أوضح الأدلة على قدرة هذه الشريعة على التطور والاستجابة لكل جديد وتقرير مصالح الأمة.

وقد وقع تسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالقرآن، كما وقع نسخ السنة بالسنة والقرآن بالسنة على خلاف بين الفقهاء في الأخير، وقد أعلن النبي الكريم بوضوح أنه لا يتردد في التحول من حكم إلى حكم إذا رأى فيه مصلحة راجحة، واشتهرت في هذا المعنى أحاديث: كنت قد نهيتكم... وهي أحاديث شهيرة يعدل الرسول فيها توجيهاته بحسب حال الأمة.

ومن ذلك مثلاً قوله: كنت قد نهيتكم عن ثلاث عن زيارة القبور فزوروها فان زيارتها عظة وعبرة ونهيتكم عن لحوم الاضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ونهيتكم عن النبيذ في الاسقية فاشربوا ولا تشربوا حراما. رواه الطبراني في الأوسط

 

ومن العجيب أن هذا التطور الهائل الذي طرأ على الرسالة من خلال نسخ 21 آية و48 حديثاً خلال عمر الإسلام البالغ 23 سنة في مجتمع لا يزيد أعضاؤه عن مائة ألف  ومساحته عن نصف مليون كم مربع كلهم من أمة واحدة وشعب واحد وثقافة واحدة وطبائع واحدة، يطرح السؤال الكبير عن الحاجة الملحة للتجديد والتطوير بعد أن عبرنا أكثر من ستين ضعفاً في الزمان، وستين ضعفاً في المكان، وتجاوز المسلمون العدد الأول بأكثر من ألف ضعف، ودخلت شعوب وملل وأمم لا تحصى في دائرة الإيمان بالقرآن الكريم وإقامة شعائر الإسلام، ولا أشك أبداً أن لو كتب للرسول الكريم حياة طويلة لاستمر النسخ والتجديد كل يوم كما هو شأن الحياة ودفقها المستمر.

ومن المدهش أن جمهور الفقهاء الا الشافعية ذهبوا إلى جواز نسخ القرآن بالسنة، واستدلوا بالوقوع العملي في آيات عديدة أبرزها آية الوصية التي نسخها حديث لا وصية لوارث، بل إن كثيراً من الفقهاء ذهبوا إلى جواز النسخ بالإجماع وأكدت الحنفية مآلاً جواز النسخ بالاستحسان، وإن يكن الحنفية لم يستخدموا إزاء ذلك مصطلخ النسخ بل اكتفوا بمصطلح الاستحسان.

 

ومع أن المسلمين متفقون على أن النسخ قد انقطع بوفاة الرسول ، ولكنه من الناحية العملية مستمر جزئياً عبر آليات أصولية أخرى قررها الفقهاء وطوروها ومنها تخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر، وأخيراً القول بالمتشابه فيما لا سبيل إلى العمل به من الأحكام، وذلك كله وفق قاعدة أصولية غنية أعلنها الإمام ابن القيم: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وكذلك ما قرره القاضي أبو يوسف مرجح المذهب الحنفي: إذا ورد النص على أساس عرف مستقر وقت وروده، ثم تغير العرف بعد ذلك فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره، وقال القرافي: إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إذا تغيرت العادة تغيرت الأحكام في تلك الأبواب. (مجلة مجمع الفقه الاسلامي ج4 ص 370)

 

 

التعليقات

النسخ انتهى بموت النبي صلى الله عليه وسلم ويجب حذف الايات المنسوخة حتى لا يلتبس على الناس شيء

علِّق