نشرت في .January 24, 2016

 

انطلقت الثورة السورية الكبرى ضد قوات الاحتلال الفرنسي التي قررت البقاء في سورية والتنصل من وعودها بالرحيل عن البلاد، بل واستبدال ذلك بالعمل على تكريس الاحتلال المباشر للبلاد وتقسيمها إلى دويلات،  الأمر الذي لم ترتضيه النخبة الوطنية، فانطلقت تناضل من أجل الاستقلال منذُ اللحظات الأولى لإطلاق الجنرال غورو إنذاره الشهير ضد حكومة الملك فيصل وتوجهه لدمشق، الأمر الذي لم يتحقق لهُ إلا فوق جثة يوسف العظمة الذي خرج يقاتل ليس ليربح معركة خاسرة قبل أن تبدأ ، بل ليقول لمن بعده بأن هناك آباءهم رفضوا أن لا يواجهوا المحتل مهما كان الثمن، وقد عبّر العظمة عن ذلك قبل أن ينطلق لميسلون بمقولته الخالدة: "لن يكتب التاريخ بأن الفرنسيين دخلوا دمشق دون مقاومة" .

الحديث عن ابراهيم هنانو الذي لم ينل حقه من الذكر سيجعلنا نؤجل الحديث عن شخصيات أخرى، ولابد من ملاحظة أن المعلومات المتوفرة عن هنانو نادرة وشحيحة، فالنظام مارس سياسة إسدال الستار على الشخصيات الوطنية صاحبة الأيادي البيضاء في تشكيل تاريخ سورية الحديث، وحصر ذكرها في المناسبات الوطنية، وفي خطابات الفخر بالأمة التي كان البعث ذروة انتاجها كما يعتقد، لكنه فعلياً جرّد معظمها من تاريخها وحال دون توثيق سيرتها، كي يحصر مفهوم النضال بأنه موجه ضد المحتل الأجنبي فقط، وكي لا يعرف السوريون كيف يثورون على الظلم لاحقاً مهما كانت هويته، وهو ما فشل فيه عند انطلاق الثورة الأعظم في التاريخ السوري في العام 2011.

إن كشف اللثام عن تاريخ الشخصيات الوطنية التي صنعت سورية التعددية الديموقراطية ما قبل البعث، واستخلاص الدروس منها هو واجب نقوم في السوري الجديد بمحاولة تأديته، وتأتي هذه الحلقة الثالثة ضمن السلسلة التي أطلقناها تحت عنوان "رجالات سورية"، وتعرفنا فيها في الحلقتين الماضيتين على كل من محمد علي العابد (اضغط هنا لقراءة المقالة) و هاشم الأتاسي (اضغط هنا لقراءة المقالة)

 

بحث تاريخي في حلقات

يكتبه للسوري الجديد: مهند الكاطع


 

ترجمة ابراهيم هنانو ونسبه

هو ابراهيم بن سليمان آغا آل هنانو، كردي1 النسب و عربي الهوى والمنشأ والنضال، لا بل كان زعيم زعماء الكتلة الوطنية و من مؤسسي الحكم العربي في الحقبة الفيصلية ومن أشد المدافعين عن هوية سورية ضدَّ مغالي القومية التركية، الذين كانوا يدندنون حول أن حلب مدينة مليئة بالعناصر ذات الأصول التركية وأنها جزء من تركيا.

إن هذه النزعة والهوية لم تكن وليدة الصدفة عند ابراهيم هنانو، فالهوية هي نتاج تراكمات ثقافية مستمرة عبر التاريخ، وربما عائلة الهنانو من القدم والاندماج في المجتمع حتى باتت إحدى أهم دعائمه وأركانه، وهذا أيضاً يفسر إحجام بعض الكتاب القوميين الأكراد عن الإشارة إلى النسب الكردي لابراهيم هنانو وجعله فخراً للقومية الكردية كما فعلوا مع سواه.

 

النشأة

ولد ابراهيم هنانو  سنة 1869م في بلدة (كفر تخاريم) فوق  سلسلة الجبال غربي مدينة حلب، و التي كان والده سليمان آغا أحد أعيانها، ويمتلك فيها وحولها الأراضي والبساتين والضيع.

أنهى هنانو دراسته الابتدائية في بلدته وأنهى الثانوية في مدينة حلب، و قرر في سن متأخرة نسبياً " 27 عاماً" متابعة تحصيله الجامعي، فذهب إلى إستنبول في سبيل ذلك،و كانت أسرته حينها لا ترى موجباً لذهابه لأنه آغا و ليس بحاجة لوظيفة "الدولة"، إلا أن هنانو أصرّ على الذهاب ووصل الآستانة دون علم والده آنذاك.

أنهى هنانو دراسة الحقوق وتم تعيينه في سنة 1904 قائمقام في إحدى أقضية اسطنبول آنذاك.

 

زواجه بفتاة تركية

يجهل الكثيرون بأن زوجة ابراهيم هنانو كانت تركية، وكان قد تعرف عليها أثناء إقامته بالأستانة بعد تخرجه، ورزق منها بمولودة أسماها " نباهت"، وفي عام 1913 ولدت له ابنه الثاني طارق، وكان هنانو حينها يعمل مستنطقاً في بلدته كفر تخاريم. وبعد ولادة ابنه طارق بخمسة عشر يوماً توفيت زوجته، ولم يتزوج بعدها ابداً.

تم انتخاب ابراهيم هنانو عضو مجلس إدارة ولاية حلب، وفي عام 1918 تم تعيينه رئيساً لديوان الولاية، وهو المنصب الثاني بعد الوالي. وقد تصدّى هنانو عبر مقالاته منذ عام 1913 إلى غلاة الأتراك الذين تحدثوا عن تركمانية حلب وأن عروبتها غير ذات موضوع 2.

انتخب في سنة 1919 في عهد الملك فيصل نائباً عن قضاء حارم في المؤتمر السوري، وعُيّن بعد ذلك رئيساً لغرفة الحاكم العام في حلب.

 

ثورة ابراهيم هنانو

لم تكن ثورة ابراهيم هنانو  عبارة عن ردة فعل آنية، أو طيش غير محسوب العواقب، بل كانت ثورة منظمة بكل ما تحمله العبارة من معنى، يقودها رجل نذر نفسه لوطنه .

هنانو لم يكن جاهلاً فيسيرُ خلف الصرخات دون معرفة معانيها، ولم ينقصه جاه أو مال فيسير في ركاب اللصوص وقطاع الطرق الذين عادةً ما يستغلون الأزمات ويرتكبون الموبقات لأجل منافع مادية على حساب المصلحة العامة والهدف الأسمى، الأمر الذي كثيراً ما يضُر بالثورات العادلة ويتخذها اعداء الثورة كوسيلة للطعن فيها، لذلك كان حازماً تجاه أي خطأ يقع من أي شخص .

لم يكن هنانو ممن ينتظرون الأحداث السيئة دون أن يحسب لها حساب، فقد سعى للتجهيز للثورة قبل انطلاقتها، وكان دأبه شراء السلاح وتجهيزه منذ عام 1919م  عندما كان موظفاً مرموقاً في حلب (رئيس ديوان ولاية حلب)، وكان قد ترأس (جمعية الدفاع الوطني) التي شكلها مجموعة من الرجال الوطنيين في حلب آنذاك، فشخصية هنانو الفذّة تجعله أكبر من الصدفة التي تصنع بعض الرجال .

 

كانت منطقتا حارم وانطاكية محتلتين من قبل الفرنسيين آنذاك، فجعل هنانو يجول في تلك المناطق ويدعم الثوار بالمال والسلاح، فباتوا يشنّون الهجمات على الفرنسيين ويستهدفون خطوط أموالهم، بل ويأدبون كل من يتعاون مع الاحتلال من أبناء الطابور الخامس، ويمنع جمع أي ضرائب وأموال لصالح الفرنسيين.

كما أنه ألف حكومة عربية في أنطاكية، ونظّم شؤونها قبل العودة إلى حلب، وتبقى الأمور على هذه الحالة من المناوشات عاماً كاملاً، ثم يأتي إنذار غورو في تموز 1920م الذي أنذر الحكومة العربية في دمشق، الأمر الذي جعل هنانو يحمل سلاحه في وجه جنرالات فرنسا المتجهين نحو دمشق وحلب، ويوسع مجال الثورة وساحة نضالها.

 

هنانو يحرق بيته وممتلكاته

أدرك ابراهيم هنانو غدر الفرنسيين، وأدرك قوتهم، ولم يرضَ أن يصبح ضحية ابتزازه بأي شيء، فقام الآغا صاحب الرزق والمال بإشعال النار بمنزله وبأدواته الزراعية طوعاً، كي يقطع الطريق أمام الفرنسيين ولا يملّكهم أية وسيلة ضغط عليه.

 

قتل العواينية ومعركة إسقاط

العوايني في لغة أهل الشام هو ابن البلد الذي يصبح جاسوساً على أهله وقومه للأعداء، ويكون دليلاً لهم على الثوار والأحرار، وضعاف النفوس هؤلاء يتواجدون في كل زمان ومكان، ويقدمون خدمات جليلة للأعداء.

وتوافق أن يزور هنانو مناطق انطاكية للاطلاع على حال الثوار، ويقرر الاجتماع في قرية (إسقاط) بهم، وقد التحق اثنان من كبار المجاهدين الثوار بهنانو، وهم الشيخ يوسف السعدون من انطاكية ومعه اربعمائة مقاتل، والمجاهد  نجيب عويد.

وفي أوائل ايلول من سنة 1920م قرر الثوار الاجتماع بهنانو في قرية إسقاط، وكان عددهم نحو الخمسين ثائراً، ووصل الخبر لمختار القرية الذي أبرق مع ابنه رسالة للفرنسيين الذين يمتلكون حامية في حارم، يعلمهم بوجود الثوار في القرية.

وبالفعل وصلت الحامية مع خيوط الفجر للقرية، وكان الثوار قد توزعوا للنوم في بيوت القرية، ولحسن الحظ أن إحدى النساء قد لحظت الفرنسيون عند مشارف القرية، فنبهت الثوار الذين استفاقوا على تلك المباغتة، فاشتعلت معركة دامت لساعتين خسر فيها الثوار ثلاثة من رجالاتهم، بينما خلف الفرنسيون أكثر من خمسة وثلاثين قتيلاً بينهم رئيس الحامية التي وجدت رسالة المختار في جيبه، فجيء به وبأبنه وتم اعدامهم في الحال.

 

الأتراك يمدون الثورة بالسلاح

كانت المعركة التي حدثت في إسقاط رغم صغر حجمها ذات أهمية كبيرة لأبناء الشعب السوري، فهذا الانتصار منحهم الأمل بالقدرة على مواجهة المحتل، كيف لا وهنانو يقودها.

بدوره وصل هنانو إلى الجانب التركي في الشمال وألتقى بأحد القادة الأتراك (صلاح الدين عادل بك) قائد الفيلق الثاني، الذي وافق على مدّ ثورة العرب بالسلاح ضد المحتل الفرنسي، خاصة وأن الاتراك يقاتلون ضد الفرنسيين ايضاً على كيليكيا. فمعركة في الجانب السوري ستخفف الضغط عن جبهة كيليكا.

لم يكتفِ الاتراك بتقديم السلاح، بل ارسلوا قوة راجلة بضباطها وجنودها ووضعوها تحت إمرة ابراهيم هنانو، فكثر السلاح وكثر الثوار وتوالت الانتصارات وبدأ الخناق يضيق على الفرنسيين الذين بدأوا يعترفون بأنهم يواجهون قوة عسكرية منظمة،وليس شرذمة قطاع طرق وعصابات!

 

القصير .. تخاريم.. جبل الزاوية  

قراءة التاريخ جيداً تجعلنا نفهم لماذا هذه المدن مستهدفة اليوم في ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد أكثر من غيرها، ولماذا سطرت ملاحم المجد في الدفاع والتضحية؟!

كانت القوات المقاتلة تحت قيادة ابراهيم هنانو مقسمة إلى ثلاثة مناطق:

- المنطقة الأولى: وثورتها ما بين نهر العاصي والبحر، تتوسطها انطاكية، ويقود ثورتها المجاهد يوسف السعدون من أهالي قرية (القصير) من أعمال انطاكية.

- المنطقة الثانية: وثورتها في القطاع الذي يتوسطه كفر تخاريم بلدة هنانو، ويقود ثورتها المجاهد نجيب عويد ابن بلدة هنانو.  

- المنطقة الثالثة: وثورتها في جبل الزاوية، ويقود ثورتها المجاهد مصطفى الحاج حسين من أهالي جبل الزاوية.  وقطاعها ممتد من إدلب وحتى حماة.

 

تنظيم إداري صارم

كانت الثورة في مناطق سيطرة الثوار منظمة عسكرياً وإدارياً أيضاً، فكانت الضرائب تجمع بشكل منظّم، تدفع منها رواتب للمقاتلين وفق الرتبة العسكرية، ولا تترك المجال مفتوحاً للاجتهاد، أو لسلب أموال الناس لتغطية المصاريف، أو الاعتماد على تمويل خارجي بشروط الاحتلال، بل كانت الأمور تتم بالاعتماد على الموارد المتاحة، مع رقابة صارمة على أي انتهاك او اخلال بالأمن وأموال الناس.

الرقابة والإدارة الصارمة التي خلقها هنانو في مناطق الثوار كانت محطّ اطمئنان وإعجاب من الناس، ومن الحوادث المذكورة على هذا الصعيد أن اثنين من الثوار لحقوا برجل من سلقين يقود بقرته بغية استلابه منه، وكان ذلك في بداية الثورة، فلجأ الرجل إلى قريته هرباً منهما، فتتبعاه وأطلقا النار فقتلا اثنين من أهل القرية، ولم يكترثا بالأمر وعادا وكأن شيئاً لم يكن.

فلما علم مجلس الثورة بالحادث قرر محاكمتهما، وصدر الحكم بإعدامهما رمياً بالرصاص، فتم التنفيذ بهما. ويختلف هذا عن المجالس التي بلغت اعدادها اليوم بالمئات وتدعي أنها تنتمي أو تمثل الثورة السورية، والتي أساءت بالمجمل اكثر مما خدمت الثورة.

 

ورقة الأقليات

ورقة التي كانت فرنسا تشهرها دوماً هي ورقة الأقليات وخصوصاً  المسيحية، وحدث أن هاجم (البكاباشي عاصم بك) قائد القوة التركية العاملة تحت إمرة هنانو قرية "الصقيلبية" المسيحية بالقنابل قرب حماة، ثم تم نهب القرية، فاستغل الفرنسيون هذه الحادثة للإساءة للثورة وجميع الثوار، فقرر نجيب عويد على الفور إعدام القائد التركي دون أن ينظر لأي نتائج أخرى، فالحفاظ على الوجه النقي للثورة اهم من أي شيء آخر.

 

117 معركة خاضها الزعيم:

ما لا يعلمه الكثيرون الذين يرون في أنفسهم اليوم قادة للثورة بمجرد أنهم قالوا انهم ضدّ النظام، بأن هنانو استحق لقب زعيم الثورة بجدارة بعد تعرضه لمخاطر الموت لعشرات المرات، فقد بلغ عدد المعارك التي خاضها أكثر من مئة وسبعة عشر معركة.

 

أريحا والراية البيضاء..

من طرائف ما حدث في أريحا هي الحملة الفرنسية المؤلفة من أكثر من الف جندي، والتي هاجمت القرية بعد أن تحصّن الثوار في الجبل، فنزل الثوار لمقارعة الفرنسيين، وكانت المدفعية الفرنسية والطائرات تشترك في القصف، فرفع أهل أريحا الرايات البيضاء (إشارة للاستسلام) فكان أن اعتقد الثوار بأن الفرنسيين يستسلمون لهم،  وكذلك اعتقد الفرنسيون، ولما التحم الفريقان وأدركوا المسألة سارعوا للحراب والاسلحة الخفيفة، فكان أن أسر الثوار اكثر من مئة وخمسين اسيراً وضابطاً، وكذلك فعل الفرنسيون، فحدثت مفاوضات بين الطرفين أطلق فيها سراح الأاسرى بعد أن عاملهم هنانو معاملة جيدة، فعظم ذلك في عيون الفرنسيين.

 

تغير الموقف التركي

تغير الموقف التركي بعد الاتفاق الذي جرى بينهم وبين الفرنسيين في كيليكا من موقف داعم للثورة، إلى موقف مساعد للفرنسيين إلى إخمادها، فامتنعت عن بيع السلاح للثوار وإمدادهم بها، وتوافدت الحاميات الفرنسية المنتشرة في كيليكيا والاسكندرون لدعم الجيش الفرنسي في قمع الثورة في حلب وريفها.

في ظل هذه المعطيات قرر ابراهيم هنانو  في تموز 1921م أن يذهب بصحبة أربعين مجاهداً باتجاه الامير عبد الله بن الحسين الذي أرسل يخبره بأنه مستعد لمدّ الثورة بالمال والسلاح.

وتنكر هنانو بلباس أهل البادية، وتبعته الحاميات الفرنسية مع أدلائها الطامعين بالجوائز التي تم رصدها لرأسه، واشتعلت معارك بين الثوار وبين من يلاحقهم من الفرنسيين وعملائهم، أسفرت عن مقتل عدد من المجاهدين واعتقال البعض، بينما توغل هنانو في البادية بحصانه، وانعطف باتجاه فلسطين بعد أن استحال وصوله إلى الامير عبد الله بن الحسين.

بعد أن علم الفرنسيون بنجاة هنانو، عقدوا مع القائد الانكليزي في فلسطين اتفاقية لتبادل المجرمين، وكانت تهدف لتسليم هنانو، وهذا  ما حصل في ظهيرة 13 آب 1921 أمام فندق القدس محل إقامة هنانو، إذ قدمت سيارة انكليزية يرأسها ضابط قام باعتقال هنانو و إيداعه السجن!

خبر اعتقال هنانو هزَّ الشارع العربي في فلسطين وضفاف الأردن، فانتفضوا وهاجموا القائد الانكليزي في القدس، واحتج عبد الله بن الحسين أمام الانكليز، فأسرع الانكليز بتسليمه للفرنسيين لتجنب تفاقم الاوضاع لديها.

 

هنانو في السجن

هكذا كان يعرف السجن العسكري في حلب الذي تم إيداع هنانو فيه، وكان قد وصله مغلولاً بالسلاسل، دون أن يهتزّ له جفن، وهو بكامل عنفوانه وصموده.

كان النائب العسكري آنذاك يدعى " الكابتن استاك" وقد طلب من هنانو اختيار محامي للدفاع عنه، وبنهفته ردّ هنانو على القائد محلفاً اياه "بشرفه العسكري" لو انه مكانه فمن كان سيختار؟ فأجابه الكابتن بأنه سيختار الصقال، وكان فتح الله الصقال محامياً شاباً لم يتجاوز عمره 27 عاماً وقتها.

وافق هنانو واجتمع في زنزاته بالشاب المحامي الذي سمع قضية نضال هذا البطل، وأدرك الشاب بذكائه ما يستطيع أن يخدم قضية موكّله من ثغرات أمام الخصم والحكم، فهنانو ليس مجرماً كما يصفه الفرنسيون، بل طرف محارب عقد مع الفرنسيين هدنتين وتبادل معهم الأسرى.

الصقال كان قد درس المحاماة في الجامعة الفرنسية في القاهرة، وأدى امتحاناته في فرنسا ذاتها، وكان من أبرع المحامين في عصره.

 

محاكمة هنانو  واحتشاد الجماهير

كان اليوم الأول في محاكمة هنانو هو الاربعاء الخامس عشر من شهر آذار 1922م، في مبنى (السراي العتيقة) شمالي قلعة حلب.

احتشدت الجماهير من كل حدب وصوب على جانبي الطريق المؤدية للسراي، وفي مدخل السراي وفي قاعة المحكمة، و اكتظت الجماهير حتى توزع الجنود السنغاليون على أطراف الطريق منعاً لأي طارئ، فكان موقفاً مهيباً وحراكاً جماهيرياً له دوافعه الوطنية الكامنة.

بدأت المحكمة التي ترأسها خمسة من الضباط العسكريين، وكان رئيس المحكمة من أشد الحانقين على هنانو، وصرّح بأنه يرغب بإعدام هنانو الأمر الذي لم يتقبله أحد الاعضاء وهو الكابتن لوكلير، وهو ما وصفه الصقال في مذكراته بأنه تعبير عن العدالة  والتحلي بالوجدان المسلكي القضائي.

 

مدافعات الصقال

تضمنت مدافعة الصقال مدافعتين ابتدائيتين في عدم صلاحية المحكمة العسكرية لمحاكمة هنانو، وعدم شرعية وقانونية القبض عليه في فلسطين وتضمنت المدافعة الأولى النقاط التالية:

1- أن هنانو قام بثورته، مطالباً بحرية بلاده، والمطالبة بالحرية لا تعد جرماً بل اعترفت به الدول الكبرى، منها أمريكا بلسان رئيسها ولسن.

2- أن السلطة العسكرية الفرنسية نفسها، اعترفت بأن هنانو ورجاله يشكلون طرفاً محارباً.

3- أن هنانو قابل الجنرال جوبو، قائد الحملة الفرنسية ضد الثورة السورية ليتفق معه على شروط الهدنة.

4- أن السلطة العسكرية الفرنسية، عقدت مع هنانو اتفاقين لاجراء هدنتين.

5- أن السلطات العسكرية الفرنسية اتفقت مع هنانو، على تبادل الاسرى.

6- أن القبض على هنانو في فسلطين وتسليمه للفرنسيين يخالف القانون الدولي.

أقتبس هنا من مدافعة الصقال الطويلة ما يلي:

"إن الرجل الماثل أمامكم ليس بالرجل الذي وصفه النائب العام، لأن من يناضل عن حرية بلاده، ويعمل في سبيل هدف سامٍ دون أن يخشى التضحية بحياته وأمواله، ليقينه أنه على حق وسداد، هذا الرجل لا يستحق أن يلقى  هذا المقعد. لقد ناهض هنانو الانتداب الفرنسي، وسيناهض الانتداب البريطاني، وكل انتداب أجنبي آخر، لاعتقاده أن الاستقلال الناجز التام يضمن سعادة بلاده، ولاقتناعه بأن سورية جديرة بإدارة شؤونها بنفسها."

 

أما المدافعة الثانية فكانت في " عدم قانونية إخراج هنانو من فلسطين"

 

التهم السبعة وهنانو يردها بجرأة

خلال المحاكمة وجهت لهنانو سبعة تهم، تمثلت فيما يلي:

1- تشكيل عصابة من الأشقياء ( وعليها استندت باقي التهم)

2- تهمة قتل مختار قرية إسقاط وابنه غندور المسؤولين عن إبلاغ الحامية الفرنسية عن وجود الثوار، و التي قام بها نجيب عويد و اعتبر هنانو مسؤولاً عنها.

3- تهمة قتل أحمد كردية المتهم بالتجسس، و أيضاً اعتبرت النيابة هنانو شريكاً فيها.

4- نهب قرية سرمين اثناء إحدى المعارك دون أن تعرف هوية السالبين.

5- تهمة مصادرة القائد التركي عاصم بعض العربات قرب قرية تفتناز، والتي كانت تقل مؤونة وخرافاً للفرنسيين.

6- ادعى مختار قرية كونلي ان نجيب عويد هدد بقتله ونسف قريته اذا استمر بالتعاون مع الفرنسيين.

7- قلع الثوار لبعض قضبان سكة الحديد بين بيروت وحلب لقطع الإمداد عن الجيش الفرنسي

 

وكان لذكاء ابراهيم هنانو وجرأته دور هام في مساعدة المحامي الذي ثابر وهو يدافع عنه، ولعل من المهم أن نورد بعض ما حصل في قاعة المحكمة بين رئيس المحكمة وهنانو:

رئيس المحكمة: إن القانون الفرنسي يمنحك الحق التام في الدفاع عن نفسك، وها أنت اليوم متهم بالاشتراك مع عصابات الاشقياء، وقد كنت ترأسهم وتدير عملياتهم.

هنانو: إنني لا أعد مجرماً، لأن أمرنا سياسي صرف، أما غايتنا من تشكيل العصابات، فلم تكن بقصد الفتك والنهب، وإلا لاجتاحت هذه العصابات وأتت على من فيها من الاخضر واليابس، ولقاومنا الشعب وسحقنا سحقاً، فقواتنا مؤلفة من أفراد الشعب، صاحب الحق والسلطان. إنني متهم سياسي، ولو كنت مجرماً عادياً كما تقولون، لما فاوضني ممثلكم الجنرال جوبو، بشأن عقد هدنة وتبادل للأسرى، ولما وقعت معي أنقرة التي تعترفون بها اتفاقية، لأن الحكومتين الفرنسية والتركية أسمى و أجلّ من أن تتنازلا لمفاوضة مجرم شقي. نحن لم نعمد للوسائل الحربية إلا للدفاع عن أنفسنا، أنا ثائر سياسي، أدافع عن وطني، وقد جاهرت وسأجاهر بانني اتبرأ من كل مجرم سفاك.

رئيس المحكمة: إذن أنت تتنصل من مسؤولياتك؟

هنانو: إن الرجل الذي قاوم الانتداب الفرنسي، لن يتنصل من مسؤولية تعود تبعتها عليه.

الرئيس: من اضطرك ان تحارب؟

هنانو: عندما أُهَاجم، اغدوا مضطراً لأن أدافع عن نفسي.

الرئيس: لو بقيت آمنا مطمئناً في منزلك، لما حدث ما حدث ولما وقفت هذا الموقف

هنانو: هذا اجتهاد خاص، ولا يلام المرء على اجتهاده.

  •  
  • النائب العام يطالب بإعدام هنانو

في اليوم السابع من المحكمة، قرأ المدعي العام مطاعته المطولة وختمها بالقول:

" لو كان لابراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبعة، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً، ويؤسفني أن اطلب اعدامه، ليكون عبرة لغيره".

وجاء دور الدفاع الذي استبسل لأكثر من أربع ساعات متواصلة في نفي التهم المنسوبة لموكله، ضارباً الأمثلة على مقاومة الفرنسيين للغزاة في أرضهم، ومعيداً الحجج القانونية المستندة للقانون الفرنسي التي تنفي الجرائم.

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\ابراهيم هنانو\1601271_470875636350231_573826340_n.jpg

 

صدور الحكم

بعد انتهاء مرافعات النائب العام والدفاع، دخل أعضاء هيئة المحكمة للمداولة، واستمرت المداولة لساعتين، فخرج الجمع والجماهير متلهفة ومشدودة الأعصاب لمعرفة النتيجة، وكان على رئيس المحكمة أن يتلوا تسعين سؤالاً على الهيئة للتصويت بنعم أو لا، والسؤال الأول، و كان السؤال الأول "هل ابراهيم هنانو مسؤول عن تشكيل عصابة من الأشقياء؟  وبعد الانتهاء من الأسئلة تُجمع الاجابات وتكون النتيجة هي للأغلبية نعم أو لا.

ولما كان التصويت على السؤال الأول هو (لا) بأغلبية ثلاثة أعضاء، تنفّس الدفاع والحضور الصعداء. ثم توالت الإجابات التي غلب عليها النفي،  بعدها تلى رئيس المحكمة حكم البراءة، فدوّى التصفيق الحاد في القاعة، وقد قاربت الساعة على التاسعة مساءً، وتم تقدير الحشود بأكثر من ثلاثين ألف شخص.

أطلق سراح هنانو على الفور، وكانت بانتظاره عربة يجرها حصانان، وما كاد هو ومحاميه يصعدون العربة حتى هجمت الجماهير على العربة، وحلت الحصانين وبدأت بجر العربة، وصود زغردة النساء يسمع طيلة الطريق الممتد من السجن إلى الدار، وكانت النسوة ترمي العربة من اسطح الدور بماء الزهر وعطر الورد.  

بعيد المحاكمة، أنهت المحكمة الفرنسية مهمة ثلاثة من أعضاء المحكمة الذين كان لهم الدور في الحكم لصالح هنانو، وعادوا قافلين إلى ديارهم.


 

المجلس التأسيسي سنة 1928

هنانو2.jpg

افتتح المجلس التأسيسي جلسته الأولى في حزيران 1928، في الوقت الذي كانت لجنة الانتداب تناقش في جنيف موضوع الانتداب الفرنسي طويل الأمد على سورية، وقد قررت الكتلة الوطنية خوض الانتخابات باسم الكتلة الوطنية، ففازت فوزاً كاسحاً، وانتخب هاشم الآتاسي رئيساً للجمعية التأسيسية السورية، التي بدأت في 9 حزيران 1928 أعمالها لوضع الدستور بعد أن شكلت لجنة لذلك من 28 عضواً وعلى رأسهم ابراهيم هنانو، إضافة إلى أسماء أخرى مهمة هي (عبد الرحمن الكيالي،  سعد الله الجابري، عبد القادر سرميني، فائز الخوري، مظهر إرسلان، حسني البرزاي، لطفي الحفار، ياسين الطبال، لطيف غنيمة، احسان الشعريني، صبري فرح، حج فاضل العبود، محمد آل يحيى، فوزي الأصفري، عارف الجزار، حكمت الحراكي، اسماعيل الحريري، محمد خير عقيل، سعيد الغزي، الامير مجحم، يوسف لينيادو، نيقولا جانحي) 3.

ومن الأمور المهمة التي حدثت أن بعض أعضاء المجلس التأسيسي كانوا قد وقعوا مضبطة يدعون من خلالها لانتخاب ابراهيم هنانو رئيساً للجمهورية. الأمر الذي استدعى تاج الدين الحسيني أن يسعى لتوقيع مضبطة مضادة لانتخابه رئيساً للجمهورية،ما أدى لانقسام بين أعضاء المجلس التأسيسي نالت الكتلة الوطنية نصيباً منه، قبل أن ترجح الكفة لتاج الدين الحسيني المرغوب فرنسياً، والذي كان يشغل منصب رئاسة الجمهورية آنذاك بصفة مؤقتة، قبل أن تمدد لفترة ثانية مؤقتة استمرت حتى 19 تشرين الثاني 1931.

ومن بين الذين أيدوا تاج الدين الحسيني آنذاك ( البارودي، الغزي، الجابري، البرازي).

ولم يفت الحدث الصحف الموالية للحسيني التي كانت قد نشرت بعض الصور الكاريكاتورية لابراهيم هنانو، زاعمة أانها لتهديد أطلقه هنانو في المجلس النيابي 4.

كما كانت صحيفة الأهالي قد تهجمت على هنانو في فترة صياغة الدستور واتهمته بأنه المسؤول عن الضغط على لجنة الدستور التي نزلت عند رغبته بأن تكون المادة الثالثة للدستور تنص على شكل الحكومة وتجعلها "جمهورية نيابية دين رئيسها الإسلام" وليس بناء على رغبة الجماهير الذين يرغبون بأن تكون ملكية 5 .


 

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\الاهالي كاريكاتور هنانو.jpg

 

ابراهيم هنانو رئيس أول لجنة تضع الدستور السوري

أعلن عن أول دستور سوري تضمن 115 مادة، وكان ابراهيم هنانو يرأس لجنة صياغة الدستور، وقد حددت المادة الأخيرة من الدستور مدة ولاية رئيس الجمهورية المنتخب من قبل الجمعية التأسيسية بسنتين فقط، فيما اشتملت المواد الأخرى على مواد دستورية وسيادية هامة لم ترق للفرنسيين

من أهمها:

  • المادة 1: سورية دولة مستقلة ذات سيادة ولا يجوز التنازل عن شيء من أراضيها.

  • المادة 2: البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية، وحدة سياسية لا تتجزء ولا عبرة بكل تجزئة طرأت عليها منذ نهاية الحرب العامة.

  • أما في حقوق الفرد فقد ورد:

  • المادة 6 : السوريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية، والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل او اللغة أو الدين أو المذهب.

  • المادة 16: حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان حق الاعراب عن فكره بالقول والخطابة والكتابة أو التصوير  أو بغير ذلك ضمن حدود القانون.

  • المادة 28: حقوق الأقليات الدينية محفوظة، ولهذه الأقليات حق إنشاء المدارس لتعليم أطفالها لغاتها، على ان لا تخالف بذلك المناهج العامة التي تعين قانوناً.


 

بونسو يحل المجلس التأسيسي

يبدو أن المفوض الفرنسي بونسو كان راغباً بالوصول لحل يرضي الطرفين. كما صرح هنانو في خطاب له كانت جريدة الوقت نشرته في ايلول من عام 1928 اتهم من خلاله حكومة تاج الدين الحسيني بالتواطئ وابداء استعدادها لحذف المواد السيادية الستة التي جاءت الأوامر من باريس بحذفها، وهو ما فشل فيه بونسو في إقناع الكتلة الوطنية، فأمر بإيقاف أعمال الجمعية التأسيسية لمدة ثلاثة أشهر، وسافر لباريس لعرض المستجدات على حكومته، فعاد واجتمع بالآتاسي وعرض عليه إاضافة المادة 116 وتنص على التالي: (( ما من حكم من أحكام هذا الدستور يعارض ولا يجوز أن يعارض التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسوريا، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بجمعية الأمم، يطبق هذا التحفظ بشكل خاص على المواد التي تتعلق بالمحافظة على النظام، وعلى الأمن وبالدفاع عن البلاد، وبالمواد التي لها شأن بالعلاقات الخارجية، ولا تطبق أحكام الدستور التي من شأنها أن تمسّ بتعهدات فرنسا الدولية فيما يختص بسورية في أثناء مدة هذه التعهدات إلا ضمن الشروط التي تحدد في اتفاق يعقد بين الحكومتين الافرنسية والسورية)) 6.

وقد رفضت الكتلة الوطنية هذه الإضافة كونها تتعارض مع السيادة الوطنية، فقرر بونسو تعطيل  المجلس النيابي بتاريخ 7 شباط 1929. وبتاريخ 20 ايار 1930 أصدر قراراً بإعلان الدساتير الخمسة وهي:

الدستور السوري، دستور لبنان، دستور سنجق إسكندرون، دستور حكومة جبل الدروز، دستور حكومة اللاذقية.

وفي 22 آيار 1930 اعلن النظام الأساسي لمجلس المصالح المشتركة، ثم سافر لفرنسا ليعود بعد ستة اشهر ويصدر ثلاث قرارات:

1- عزل الشيخ تاج الدين الحسيني والحكومة السورية المؤقتة.

2- تعيين مجلس استشاري من الرئيس هاشم الاتاسي وعضوية كل من أحمد نامي وتاج الدين الحسيني وجميل الالشي وحقي العظم ورضا سعيد وصبحي بركات ومصطفى برمدا ورئيسي غرفتي التجارة في دمشق وحلب.

3- تحديد موعد للانتخابات المقبلة.

 

بيان (الوطنيون) في مقاطعة الانتخابات

اصدر الوطنيون في حلب بياناً لمقاطعة الانتخاب، وعزوا ذلك لقيام المفوضية بمحاولة اجراء الانتخابات للمجالس التمثيلية في حلب وبعض الالوية كل على حدة، لتكون آلة لتجزئة البلاد وتفريقها، وأن الحلبيين المخلصين يترفعون عن أن يكونوا سبباً لهذه التجزئة المميتة، فأجمعوا بالاتفاق على عدم الاشتراك في هذه الانتخابات وقرروا مقاطعتها.  وكان ابراهيم هنانو أول الموقعين على البيان.

جرت الانتخابات في سنة 1931 بمشاركة جزئية من الوطنيين، ونتيجة لتزوير الانتخابات ومقاطعتها من السواد الاعظم لم يفز الوطنيون بالانتخابات وفاز أنصار الانتداب.

سيغيب هنانو من الآن وصاعداً عن مسرح الحياة السياسية، ما خلى من تشكيلة المجلس الرسمي للكتلة الوطنية الذي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة، وذلك في 4 تشرين الثاني 1932، حيث اتخذ الوطنيون قراراً  اعطى الصورة الرسمية للكتلة الوطنية، وشكلت المكتب الدائم من سبعة أعضاء هم:

هاشم الأتاسي رئيساً  و ابراهيم هنانو زعيماً، سعد الله الجابري نائب للرئيس، وعضوية جميل مردم بك، شكري القوتلي، وعبد الرحمن الكيالي، وفارس الخوري.


 

تدهور أوضاع هنانو وآلامه وعتابه

اجتمعت المعضلات والمصاعب المادية والصحية على هنانو دفعة واحدة، وتوضح لنا بعض الوثائق النادرة عن الحالة المادية السيئة التي مرَّ بها بدءاً من العام 1930 وربما قبل ذلك التاريخ، فهذه وثيقة بخط يد هنانو يسجل فيها كومبيالة على نفسه بمبلغ 150 ليرة عثمانية ذهباً استلفها من فوزي بك الجابري في حلب.

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\ابراهيم هنانو\1622372_470076659763462_1698614917_o222.jpg

 

ولا أبالغ إذا قلت بأنني استشعرت مرارة ألم الزعيم هنانو الذي حلت به الأمراض، وقد تأثرت كثيراً لما آلت إليه أوضاعه بعد قرائتي لنص الرسالة التي أرسلها من مستشفى حمانا إلى نبيه العظمة في 12 أيلول 1935 يشرح فيها أوضاعه المالية، ويلوم فيها رجال الأمة على تقصيرهم مع الاعتزاز الذي يمنعه من مد يده لهم فيقول فيها:



أخي نبيه بك لا عدمتك

شوقاً وتحية أما بعد...أخذت كتابك بتاريخ 27 آب وشكرتك على شعورك الأخوي واهتمامك، ولكن يا أخي كان قصدي من البحث عن تعاسة ماليتي ليس طلب معاونة، بل إظهار شيء من العتب واللوم على رجال الأمة التي ضحيت بحالي وخاطرت بحياتي حتى وقعت بالمستشفيات لأجلها، فلا تتعب نفسكم في تدارك شيء أنتم في الغربة وأحوج مني بكثير، ثم إن حاجتي ليست عشر و وعشرون بل مئات الليرات، و أقول لكم سراً وأرجو عدم البوح بمقداره أن ديوني اليوم أربعة آلاف وخمسماية ليرة ذهب وكافة أملاكي مرهونة ومحجوزة، ولا تفي بالدين لرخص الأسعار الهائل، وكان الأمل وفاؤها من الواردات غير أنها من خمسة سنين وهي في خسارة، وأنا مشغول عنها بالسياسة. هذه هي تعاسة أموري المالية مما فيه استمهلنا الدائنين لحين بيع قسم من أملاكنا وأملاك إخواني وإجراء تسوية وتصفية، ولكن مرضي حال دون ذلك العمل فإياكم أن ترسلوا شيئاً لأنني سأعيده في نفس البريد الذي يأتي فيه، وبعد توديع كتابي الأول إلى البريد خطر ببالي أنكم ستذهبون إلى أنني اطلب منكم معاونة مالية، فعلمت أنني أخطأت في البحث عنها.

إنني مستريح في المستشفى وصحتي بدأ فيها التحسن، أسأل الله العافية، وقاكم الله من كل مكروه وحفظكم أخي الكريم.

أليس كان واجباً على رجال الأمة أن يسعوا في تعويض قسم من خسارتي في سبيلها وهذا الضيق له كل التأثير في مرضي، وإني في كل جهادي لم آخذ شيئاً من ملك ولا من أمير ولا من جمعية قطعياً ولا من أحد

 المخلص هنانو

 

رحيل الزعيم

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\ابراهيم هنانو\1799155_470076519763476_462680292_o.jpg

في تشرين الأول سنة 1935 وصل الزعيم هنانو إلى مهد طفولته كفر تخاريم، والتي كانت مهد بطولته أيضاً ومرتع عظمته، وكان مرضه قد فتك به، وفي يوم الخميس 21 تشرين الثاني 1935 عند الساعة التاسعة والنصف صباحاً لفظ الزعيم أنفاسه الأخيرة في سكون وهدوء في منزله في قرية (ستي عاتكة) قرب كفر تخاريم.

حُمل ابراهيم هنانو على الأكتاف، في جنازة لم تشهد لها حلب مثيلاً، وكان موكب تشييعه مهيباً يليقُ به. ولم تخسر سورية خسارة أعظم من خسارتها بهنانو في تلك الحقبة.

 

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\ابراهيم هنانو\444.jpg

G:\مشاريع مهند الكاطع\هنانو\ابراهيم هنانو\1620885_470076873096774_1145792734_n.jpg

 

"قالوا في هنانو"

  • نبيه العظمة:

  • إبراهيم هنانو: حلب، خريج معهد الملكية الشاهانية الإدارية في استامبول، عربي شجاع، راسخ العقيدة، عمل بكل جد وتضحية من أجل استقلال وطنه واجلاء الاجنبي عنه، مستقيم، موثوق، لا يهادن ولا يتراخى، ولا يطيق الاعوجاج، قاد الثورة المعروفة باسمه، وتعرض للمنافي والاعتقالات وحكم عليه غيابياً بالإعدام، من مؤسسي الكتلة الوطنية، ومن ابرز الرجالات الوطنيين في تاريخ سورية الحديث 7 .

 

  • رئيس الوزراء العراقي جميل المدفعي:

الزعيم هنانو لم يكن زعيم سورية فحسب، بل كان من الزعماء العرب البارزين المشهود لهم بالأخلاص والتفاني في سبيل خدمة هذه الأمة التي ستحفظ له أسمه الخالد في أعماق القلوب.

 

  • مجلة الرسالة 8 : أما مجلة الرسالة فقد نعت الزعيم هنانو برسالة مطولة، ومما جاء فيها:

موت زعيم كريم، إبراهيم بك هنانو

وا أسفاه !! في الساعة التي اشتبهت فيها معالم السياسة في سورية، فتدسست الأماني الخوادع إلى الشعب، وتفرقت السبل الجوامع بالزعامة، يغيب القطب الهادئ، ويهدم المنار الدال، ويخبو الضرام المذكى، ويخفت الصوت المجمع، ويموت الزعيم هنانو؟! روعت سورية من شمالها إلى جنوبها بنعي هذا الزعيم الكبير، ونالها من خطبه ما غلب على الصبر ومنع من القرار، فهبت كلها تندبه وتريثه، وتبكي بطلها وأملها ودليلها فيه. والحق أن الفقيد العظيم كان مثلا نادراً في الزعامة البريئة الجريئة المخلصة: كان صلباً في الرأي على قدر إيمانه، ومتمرداً على الباطل على سواء حقه، ومهيمنا على الشعب بقوة نفسه ونبل غرضه. جرد على الواغل الدخيل جيشاً من الوطنية الصابرة والحمية الثائرة والعروبة الغضبى..... إلى ان اختتمت النعوة بالدعاء له بالقول:  سقى الله بصيب الرحمة ثراه، وعزى فيه الأمة العربية خير العزاء"

 

  • الشاعر عمر أبو ريشة كتب فيه قصيدة عنوانها هنانو جاء في مطلعها ( أنه مات فداء العلم).

هنانو أي صاعقة أقضّت  .. على صرح من العليا مشيد؟

هنانو أي سيف أعمدته .... يدر الاقدار في غمد الخلود؟

 

  • رثاه شاعر الشام شفيق جبري قائلاً:

لمن النعش مائجاً بمصابه   ... زاحفاً بالحمى وزهو شبابه

مشرفاً كالهدى يرف عليه  .... وطن مشرق بعز رقابه ؟


وأنشد الأخطل الصغير في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته فقال:

يا  دمـاء الشبـاب ما أنـت إلاّ .. ذائب الطيب يا دماء الشباب

ادفقـي  رحـمة وأنساً وكونـي ... جدول السفح أو هزار الغاب


 

--------------

الهوامش:

1-  لم اعثر تماماً عن مرجع معتبر يتحدث عن نسب ابراهيم هنانو والتي يبدو أنها لم تكن ذات أهمية عند هنانو نفسه، لكنني اطلعت على آراء من ينسبه إلى "عشيرة البرازي" وهو اتحاد قبلي من عشائر رحل استقرت بعد عهد السلطان سليم الأول في سهل سروج وفق إشارات مارك، الذي يعرفها بأنها عشائر رحّل استعربت مع مرور الزمن في هذه المنطقة، وتزيّت بأزياء المنطقة العربية. بينما ينسبه آخرون إلى "عشيرة رشوان" وهي ايضاً  من العشائر الرحّل الكردية التي سكنت عام 1713م في صغراز في بهنسي، ثم أسكنت قسراً في قضاء حصن منصور في لواء مرعش، وتوزع أبناؤها بين ( كلس وقونية و محافظة حلب). وهذا التباين طبعاً في وجهات النظر مصدره إلى أن آل هنانو لم يعرفوا بما توارد عنهم إلا هوية واحدة هي الهوية السورية والاعتزاز بثقافتهم وانتماءهم العربي بعد تحولوا إلى الاستقرار منذ قرون واصبحوا من كبار الملاك حتى أن لقب (آغا) لم يفارق والد ابراهيم هنانو (سليمان آغا).

2-   المجاهد سامي السرج المعاصر لهنانو، نقلاً عن الأديب فاضل السباعي.

3- صحيفة الوقت 14 حزيران 1928

4-  جريدة الأهالي، ملحق العدد 28 – 1 آب 1928.

5-  أول عدد من جريدة الأهالي نشر يوم الخميس 12 آيار 1910م باللغة التركية. رئيس تحرير هذه الصحيفة كان مصطفى عاصم، والمدير المسؤول كان أرمنياً ويدعى ارداشيس بوغيكيان.

6- الانتداب والكتلة الوطنية – ص 91

7-  المحلق آ – الرعيل العربي الأول – حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة – خيرية قاسمية ص 157.

8- مجلة الرسالة 2 كانون الأول 1935م

 

المراجع:
1- شذرات الذهب في تاريخ حلب.- كامل الغزي
2- الموسوعة العربية
3- الزعيم ابراهيم هنانو – فاضل السباعي
4- من ذكرياتي في المحاماة – فتح الله الصقال
5- جريدة الوقت
6- جريدة الاهالي
7- نضال الأحرار في سبيل الاستقلال
8- الاعلام للزركلي
9- مجلة الرسالة
10- الرعيل الاول – حياة واوراق نبيه وعادل العظمة
11- الانتداب والكتلة الوطنية
12- صحافة وسياسة ، نصوح بليبل

 

التعليقات

اتمني من الله العزيز القدير ودعوه باسماه الحسني ان يبعث لسوريا الحبيبه اليوم بطلا مثله ويجتمع الناس علي يديه ويحرر سوريا من الاوغاد الطامعين فيها ويوقف سفك الدما الطاهره ودمار الاوطان وغيورا علي عفه نساها انه قريب مجيب الدعا

علِّق