المجتمع ليس مجرد تجمع من الناس، فهؤلاء اسمهم جماعة أو تجمع مثل جمهور كرة القدم، فسرعان ما تنتهي العلاقة بينهم بانتهاء الشيء الذي اجتمعوا عليه، فما هو المجتمع؟
المجتمع: هو تجمع جماعات من الناس على جغرافية معينة تربطهم شبكة علاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية دائمة ومعقدة.
الدولة: هي نتاج ثقافي اجتماعي سلطوي يمثل تطلعات القوى الفاعلة في المجتمع وهويتها على جغرافية معينة.
السلطة: أداة إكراه وحماية وحفظ منفعلة بالقوى الاجتماعية محكومة بنظم الدولة.
الدين: ثقافة إنسانية متعلقة بالكون والإنسان والحياة والموت والدنيا والعلاقة بينهم تتناول الفرد والمجتمع.
وقبل نقاش هذه الأمور لابد من معرفة مسألة هامة جداً وهي:
الجزئيات متعلقة بالكليات، وحين حصول اختلاف بالجزئيات ينبغي أن نتأكد من الاتفاق على الكليات لضبط النقاش.
والمنهج الذي أعرضه هنا خاص بالمسلمين بالدرجة الأولى، لذلك استخدمت كلمة المجتمع الإسلامي كون المسلمين هم الأكثرية، ومع ذلك فما تتبناه الدولة من الثقافة الإسلامية يصير قانوناً يطبق على المواطنين جميعاً دون تفريق بينهم، المسلمون يطبقونه ديناً في أنفسهم وطاعة للقانون، وغير المسلمين يطبقونه قانوناً فقط. وفي النهاية هم جميعاً مواطنون أمام دولة القانون والمدنية.
فالدولة ليست دينية، وإنما مدعومة بثقافة المجتمع فإن كانت ثقافة المجتمع دينية يكون الدين هو المُكَوِّن الثقافي للدولة التي تمثل ثقافة الأكثرية، وتأخذ من الدين ما يتعلق بالمجتمع دون الأمور المتعلقة بالفرد، والقرآن كتاب هداية للناس يحتوي على شرع إنساني حدودي لا يفرضه على أحد قط، حتى ولو جرى تصويت عليه لأخذ الموافقة بالأكثرية إن لم يكن بالإجماع، وذلك بشرط أن يكون من القرآن فقط دون فهم الآباء أو زيادة مصدر آخر يضاف إليه تحت أي مسمى (أهل البيت، السنة، الحديث...)، لأن الشرع القرآني إنساني وعلمي ومدني وحدودي، فكل الناس تخضع له وتقبله سواء أكان ديناً أم قانوناً، فمثلاً من يرضى بالتعامل بالربا، وأكل مال اليتامى، وقتل الناس وسرقتهم وهتك أعراضهم، ومن يرضى بإباحة نكاح الأم والخالات والبنات...من يرفض القيم والأخلاق؟
فالدين للناس، وهو الذي يؤسس ثقافة المجتمع، وينبثق من المجتمع الدولة المصبوغة بثقافة المجتمع، مع فصل كامل للسلطة السياسية عن الدين بكونها سلطة إكراهية تنفيذية إدارية يختارها قوى المجتمع بالطريقة التي يرونها تخدم مصالحهم، والإكراه والدين لا يجتمعان ولا بأي شكل فهما متناقضان، وبالتالي لابد من الفصل بينهما ضرورة.
ولا شك أن المجتمع يضم بين جنبيه أطيافاً وقوى ومؤسسات مختلفة الرؤى، ولكن الدولة هي التي تمثل أمل الجميع وتحقق أهدافهم وتحمي مصالحهم، فالمشكلة كامنة في طريقة فهم المسلمين للقرآن، فالناس ترفض وجهة نظر المسلمين، ولو اطلعوا على المشروع الثقافي الاجتماعي القرآني لوجدوا أنه يمثل تطلعاتهم الإنسانية ولسرعان ما التزموا به سواء إيماناً أم ثقافة أم قانوناً.
القرآن كتاب هداية وقيم وأخلاق إنسانية ليست هي محل رفض أو خلاف، ويحتوي على شرع إنساني علمي مدني يرتقي بالمجتمع نهضة ومدنية، فهو يدعو إلى إقامة مجتمع مدني، ودولة وطنية علمية.
والإباحة لشيء لا يعني ضرورة تطبيقه، فتبني الدولة لتعدد الزواج مثلاً لا يعني الإلزام بفعله، والشرع غير موجه لفرد وإنما لمجتمع، وظروف الناس مختلفة، وكذلك أذواقهم، فما يرفضه زيد يقبله عبيد، وما يعدّه عمرو ضرورة يعدّه زيد غير ضروري...، مع وجود صلاحية للدولة بتقييد أو منع ممارسة المباح لأمر تراه يتعلق بمصلحة المجتمع، مثل منع تعدد الزواج في "تونس" فهذا الإجراء ضمن الشرع الإسلامي وهو صواب وغير ملزم للمجتمعات الأخرى، ومثل منع زواج بنت العم في "فرنسا" فهذا إجراء صواب وهو ضمن أوجه الاحتمالات الشرعية، وكذلك منع النقاب على النساء، أو منع لباس الجلابية للرجال في المؤسسات الاجتماعية...الخ، فكل ذلك هو حركة الدولة في حقل المباح، وهذا حقها، والقاعدة القرآنية المتعلقة بالتشريع هي (الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما أتى في النص عيناً أو استنباطاً، ولا يُطبق المباح إلا مقيداً بنظام المجتمع)، والحرام والحلال متعلقان بالدين، والمنع والسماح وفق دائرة المباح متعلقان بالدولة، وكل الحرام ممنوع، وليس كل المباح مقبول.
والأحكام الثابتة في القرآن المتعلقة بحركة الفرد في المجتمع المتبناة من قبل الدولة تُلزم الفرد ويُحاسب عليها قانوناً وليس دينياً، ولا علاقة للدولة باليوم الآخر أو الجنة أو النار.
يقول قائل يدعي أنه لا ديني: إن النظام الديمقراطي يقوم على أربع نقاط أو قواعد متعلقة بالدولة، وهي في مجموعها تخالف الفكر الديني، وهي:
1- مبدأ المواطنة، وحق المشاركة والاختيار على أساس المساواة.
2- مبدأ حق تقرير المصير وحق الاعتقاد الحر، بما فيه رفض الاعتقاد، وحق ممارسة الطقوس، وحق التعبير العلني على أساس المساواة والعدالة.
3- جهاز الدولة يملكه المجتمع لصالح جميع المواطنين في الرقعة الجغرافية، بالقدر ذاته، والحقوق ذاتها على أساس العقد الاجتماعي.
4-احترام حقوق الإنسان، ومكافحة التمييز على أساس الجنس أو الدين أو المذهب أو القومية أو الاعتقاد.
ونحن نحترم هذه النقاط الأربع، بل وندعو إليها، ونجزم أن هذه النقاط هي قرآنية في الأصل، وهي قواعد عامة لابد لها من تفصيل حسب رؤية المجتمع.
والدولة لا يحق لها أن تُحرّم شيئاً أباحه الخالق للناس، وإنما يحق لها أن تمنع ممارسة مباح أو تقيده حسب وجهة نظر القوى الثقافية والعلمية في المجتمع، وتحقق ذلك بالآلية التي تراها مناسبة أو ممكنة، فالأمر يتعلق بثقافة المجتمع ومستواه. ومن الشيء الطبيعي أن لا تقترب الدولة من الأمور الشخصية، أو من الأمور التي لم تظهر في المجتمع.
فالسلطة التنفيذية ليست أخلاقية، وإنما هي منضبطة بالقانون، ولو لم يكن الأمر كذلك لصارت الدولة وسلطتها السياسية مؤسسة لقطاع الطرق وعصابات المافيا!
فالدين للناس، والدولة للمجتمع، والسلطة السياسية محكومة بالدولة، والحساب الآخروي على الله.
فأنت حر في تصوراتك الذهنية وأفكارك وشخصيتك ورأيك، ولكن ملزم بطاعة القانون في دولة المدنية والإنسانية والعلمية سواء رضيت أم لم ترضَ، أحببت أم كرهت طالما أنك تنتمي إلى هذا المجتمع، أو تعيش على أرضه وتحمل تابعيته، ولا يوجد سلطة دون إكراه، بخلاف الدين فهو يقوم على الحرية والاختيار، فهما متناقضان لا يجتمعان، ودور الدين توعية ودعوة وتهذيب وأخلاق وقيم وتعاون ومساعدة وبناء للمجتمع، ودور السلطة أمر ومتابعة وإشراف ومحافظة على سلامة المجتمع وفق دستور الدولة.
وهذا مطبق في كل دول العالم كل حسب ثقافته، فالمشكلة في الثقافة، والإنسانية تعاني من أزمة ثقافية حادة جداً! وخاصة بما يسمى ثقافة اجتماعية دستورية، وخاصة الأمة الإسلامية.
علِّق